الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووجه الشبه بين هذه المسألة وعقد التوريد هو أن عقد التوريد قد يتضمن في بعض صوره بيعا لمثل هذه الأشياء فتأخذ حكمها.
المسألة الثانية
حكم عقد التوريد من حيث هو عقد مستقل
وفيها فرعان:
تمهيد:
النظر إلى عقد التوريد باعتباره عقدًا مستقلا يتطلب أمرين:
الأمر الأول: تناوله انطلاقا من قاعدة الأصل في العقود.
الأمر الثاني: تناوله من حيث احتمال اشتماله على بعض العقود التي قيل بمنعها.
الفرع الأول
حكم عقد التوريد انطلاقا من قاعدة أصل العقود
من المعلوم أن عقد التوريد يعتبر عقدًا جديدًا لم يذكر باسمه وصفته في كتب الفقهاء، وإنما هو منقول عن كتب الأنظمة الحديثة والقانون حيث فرضته الحياة الاقتصادية المعاصرة، وبناء عليه فإن حكمه الشرعي بصفته عقدا جديدًا يكون مبنيا على القاعدة الفقهية التي تقول: إن الأصل في العقود الإباحة، وبناء على ذلك سأتناول
الخلاف في هذه القاعدة؛ ليتبين حكم عقد التوريد انطلاقا من الرأي الراجح فيها.
وقد اختلف العلماء في الأصل في العقود المالية، وذلك على قولين:
القول الأول: أن الأصل في العقود والشروط الجواز والإباحة، وإلى هذا ذهب الجمهور (1)
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة، من الكتاب والسنة.
أما أدلة الكتاب فمنها (2)(3)
1 -
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
2 -
قول الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} .
(1) انظر: المبسوط: 18/ 228، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/ 409، والبهجة في شرح التحفة: 1/ 418، 2/ 152، والفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي: 2/ 232، و3/ 40، والفروع: 7/ 145، وحاشية الروض المربع: 5/ 307 حيث نص فيها جميعا على أن الأصل في العقود الصحة.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى: 29/ 138.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى: 29/ 138. ') ">
3 -
قول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} .
4 -
قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} .
فقد أمر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات بالوفاء بالعقود، والعهود وهذا عام، فدخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، مثل النذر والبيع، ونحو ذلك، وإن لم يرد فيه أمر من الله تعالى بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد، ويدل لذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} (1)
وأما أدلتهم من السنة فمنها (2)
1 -
ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» (3)
(1) انظر: مجموع الفتاوى: 29/ 138. ') ">
(2)
انظر: مجموع الفتاوى: 29/ 144 - 145. ') ">
(3)
أخرجه البخاري: في المظالم، باب إذا خاصم فجر (2/ 868، رقم: 2327)، ومسلم، في الإيمان، باب بيان خصال المنافق (1/ 78، رقم: 58).
2 -
ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» (1)
(فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها)(2)
3 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم» (3)
(1) أخرجه البخاري في الشروط، باب الشروط في المهر (2/ 970، رقم: 2572)، ومسلم في النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح (2/ 1035، رقم: 1418).
(2)
مجموع الفتاوى: 29/ 145، 147. ') ">
(3)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 366، رقم: 8770)، وأبو داود في الأقضية، باب الصلح (3/ 304، رقم: 3594)، وابن حبان (11/ 488، رقم: 5091)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس (3/ 634، رقم: 1352)، وابن ماجه في الأحكام، باب الصلح (2/ 788، رقم: 2353)، والحاكم (4/ 113، رقم: 7059)، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده. قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح). ** وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: 29/ 147: ****وهذه الأسانيد - وإن كان الواحد منها ضعيفا - فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا **.
وأما أدلتهم من المعقول فهي:
1 -
أن العقود والشروط من الأفعال العادية، والأصل في الأفعال العادية، الجواز، فلا يقع فيها التحريم إلا بدليل، ولم يقم دليل على حرمة العقود والشروط، فبقيت على هذا الأصل (1)
2 -
أن الله سبحانه وتعالى أمر المشركين بالوفاء بالعهود والعقود، وشنع عليهم نقضها، وتلك العهود والعقود كانت قائمة بينهم، وهم الذين قطعوها على أنفسهم، ولم يرد بها شرع، فدل ذلك على أن الأصل في العقود الإباحة (2)
3 -
أن العلماء متفقون على أن العقود التي عقدها الكفار في حال كفرهم يحكم بصحتها إذا أسلموا إذا لم تشتمل على شيء محرم، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع، ولو كانت العقود – مثل العبادات - لا بد فيها من إذن خاص لما اتفقوا على ذلك (3)
القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط الحظر، وإلى هذا
(1) انظر: مجموع الفتاوى: 29/ 150، والفقه الإسلامي وأدلته: 5/ 555. ') ">
(2)
انظر: مجموع الفتاوى: 29/ 157. ') ">
(3)
انظر: مجموع الفتاوى: 29/ 158. ') ">
ذهب الظاهرية (1)
واستدلوا بالأدلة التالية:
1 -
(1) انظر: الإحكام في أول الأحكام لابن حزم: 5/ 15، ومجموع الفتاوى: 29/ 126. ') ">
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 5/ 30، ومجموع الفتاوى: 29/ 129 - 130. ') ">
(3)
أخرجه البخاري في البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل (2/ 759، رقم: 2060)، ومسلم في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/ 1142، رقم: 1504)، عن عائشة رضي الله عنها.
قال ابن حزم - مبينا وجه الاستدلال بهذا الحديث: (فصح بهذا النص أن كل شرط اشترطه إنسان على نفسه أو لها على غيره، فهو باطل لا يلزم من التزمه أصلا، إلا أن يكون النص أو الإجماع قد ورد أحدهما بجواز التزام ذلك الشرط بعينه أو إلزامه)(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق» ، فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخرى، وكذلك الوعد والخلف، ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا - والله أعلم -: المشروط لا نفس التكلم، ولهذا قال:(إن كان مائة شرط) أي: وإن كان مائة مشروط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد تعديد المشروط، والدليل على ذلك قوله:(كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط، وشرط الله أوثق منه، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى، وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: (كتاب الله أحق، وشرط الله
(1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 5/ 30. ') ">
أوثق) فيكون المعنى: من اشترط أمرا ليس في حكم الله أو في كتابه، بواسطة أو بغير واسطة: فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله: أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط - وهو ثبوت الولاء لغير المعتق - شرطا ليس في كتاب الله، فانظر إلى المشروط إن كان فعلاً أو حكما، فإن كان الله قد أباحه؛ جاز اشتراطه ووجب، وإن كان الله لم يبحه: لم يجز اشتراطه، فإذا شرط الرجل ألاّ يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله؛ لأن كتاب الله يبيح ألاّ يسافر بها، فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله، فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال:(ليس في كتاب الله)، أي: ليس في كتاب الله نفيه" (1)
وقال: (فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله، وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا
(1) مجموع الفتاوى: 29/ 160 - 161. ') ">
حراما، وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا، ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما، وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك، وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، فقال: إنها إما أن تبيح حراما، أو تحرم حلالا، أو توجب ساقطا، أو تسقط واجبا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع
…
وليس كذلك، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالربا، وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز، وكذلك الولاء) (1)
وقال أيضا: (وأما ما كان مباحا بدون الشرط فالشرط يوجبه،
(1) مجموع الفتاوى: 29/ 147 - 148. ') ">
كالزيادة في المهر والثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء، فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبا، وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا، فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره، وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحيم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب، فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع) (1)
وقال أيضا: (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن الشروط التي لم يبحها - وإن كان لم يحرمها - باطلة، فنقول: قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها، وعلى هذا
(1) مجموع الفتاوى: 29/ 149 - 150. ') ">
التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة؛ وذلك لأن قوله:(ليس في كتاب الله) إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه، فإن ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله؛ لأن قولنا:(هذا في كتاب الله) يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم، وعلى هذا معنى قوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وقوله تعالى:{وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، وقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، على قول من جعل الكتاب هو القرآن - يدل على ذلك: أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع، صحيح بالاتفاق، فيجب أن يكون في كتاب الله، وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه، لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة، واتباع سبيل المؤمنين، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار) (1)
(1) مجموع الفتاوى: 29/ 162 - 163. ') ">
2 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1)
3 -
إن الشريعة تكفلت ببيان على ما يحقق مصالح الإنسان على أساس من العدل والحكمة، ومن ذلك العقود، وهذا ينافي فتح المجال للناس، ينشئون من العقود ما يريدون، ويبتكرون منها ما يشاؤون
الترجيح:
بعد استعراض أدلة الأقوال في المسألة والنظر فيها يتبين أن الراجح هو قول الجمهور القاضي بأن الأصل في العقود والشروط الجواز والإباحة، وبناء على ذلك، فإذا نظرنا إلى عقد التوريد - في ضوء هذا الترجيح - من حيث كونه عقدا مستقلا تبين لنا أن الأصل فيه الجواز، ويبقى أن ننظر إلى ما يلابسه من عوارض، قد تقتضي المنع، وذلك ما سأتناوله في الفرع التالي، إن شاء الله تعالى.
(1) أخرجه مسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/ 1343، رقم: 1718)، بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2/ 959، رقم: 2550)، بلفظ:**من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد**، كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.