الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الألوان الطيبة، والمآكل الشهية، فإذا شبعت منها نفوسهم، طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص، والاستمتاع بالنظر إلى وجوه المرد، ولو نظروا فيما ذكر من التقليل من الغذاء، وما فيه من المجاهدة دون الشهوات؛ لأخذوه بقدر، ولم يحنوا إلى سماع ونظر
المبحث السادس: الصلة بين التوكل والأخذ بالأسباب
تطالعنا أخبار بعض السالكين والعباد على قصص لهم فيها أنهم تركوا العمل، وطلب الرزق، والتكسب، بدعوى التوكل على الله، أو أنهم دخلوا المفازات بدون زاد، وساروا في البراري وحدهم دون أن يعدوا العدة، وهكذا في مظاهر يزعم أصحابها أن فعلهم هذا نابع من توكلهم على ربهم تعالى، فصار هناك تفريق بين التوكل والأخذ بالأسباب (1)
ولجلالة هذه المسألة، فإن للحافظ ابن رجب رحمه الله تحقيقات حيالها، ويمكن ترتيب بحثه فيها في مقامين:
الأول: في التأصيل الشرعي لمسألة الأسباب.
(1) ينظر مزيد أمثلة في هذا المعنى من أفعال القوم في: لطائف المعارف 564، وجامع العلوم والحكم 1/ 472، 473، 2/ 503 - 504، ونور الاقتباس ضمن مجموع الرسائل 3/ 114، 115، 119، 129 - 131، 166.
والثاني: في تقسيم الأعمال التي يعملها العبد من حيث صلتها بالأسباب.
أما المقام الأول، وهو تأصيل مسألة الأسباب شرعا، فإن القاعدة المقررة هي أن التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} ، وقال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ، وقال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1)(2)
وقد كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فيحجون، فيأتون مكة، فيسألون الناس، فأنزل الله قوله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (3)
(1) ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 498.
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 498. ') ">
(3)
رواه البخاري في صحيحه: كتاب الحج، باب قول الله تعالى:(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) 247 رقم 1523.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال لناس من اليمن لما قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله (1)
وقد أنكر الإمام أحمد رحمة الله عليه على من ترك الكسب، وعلى من دخل المفازة بغير زاد، وخشي عليه التعرض للسؤال (2)
ولما سئل الإمام أحمد عمن يقعد ولا يكتسب، ويقول: توكلت على الله، فقال: ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب (3)
ولما ذكر للفضيل بن عياض رحمه الله حال من يقعد في بيته
(1) رواه ابن أبي الدنيا في التوكل على الله عز وجل 45 رقم 10، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان 2/ 429، ونقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم 2/ 507.
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 505، ويراجع: كتاب الحث على التجارة والصناعة والعمل في مواضع عدة منها 138، 140، 141، 142، 144، 158، وفي الموضع الأخير أن الإمام أحمد سئل عن قوم لا يعملون، ويقولون: نحن متوكلون، فقال: هؤلاء مبتدعة.
(3)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 505، ويراجع: مسائل الإمام الأحمد رواية ابنه عبد الله 406 رقم 1624، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 2/ 233.
زاعما أنه يثق بالله تعالى، فيأتيه رزقه؟
قال الفضيل: لكن لم يفعل هذا الأنبياء، ولا غيرهم، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم (1)
«وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤجر نفسه (2) وأبو بكر (3) وعمر» (4) ولم يقولوا: نقعد حتى يرزقنا الله عز وجل، وقال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ، ولا بد من طلب
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن داود النبي عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده). رواه البخاري في صحيحه: كتاب البيوع، باب كسب الرجل من عمل يده 333 رقم 2073.
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم)، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: (نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة). صحيح البخاري: كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط 360 رقم 2262.
(3)
قالت عائشة رضي الله عنها: "كان أبو بكر رضي الله عنه أتجر قريش حتى دخل في الإمارة". كتاب الحث على التجارة والصناعة والعمل 91، وينظر تخريج محققه.
(4)
قال عمر رضي الله عنه: **ألهاني الصفق بالأسواق**، يعني الخروج إلى التجارة. صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب الخروج في التجارة 331 رقم 2062.
المعيشة (1)
وقال سهل التستري: من طعن في الحركة - يعني في السعي والكسب -، فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل، فقد طعن في الإيمان (2)
فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته، فمن عمل على حاله، فلا يتركن سنته (3)
والحاصل أن حقيقة التوكل صدق الاعتماد على الله عز وجل في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وكِلة الأمور كلها إلى الله، وتحقيق الإيمان بأن لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه (4)
فالتوكل من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (5)
(1) ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 505 - 506، ويراجع كلام الفضيل في: كتاب الحث على التجارة والصناعة والعمل 56.
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 498، ويراجع: حلية الأولياء 10/ 195، والجامع لشعب الإيمان 4/ 463 رقم 1231.
(3)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 498. ') ">
(4)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 497. ') ">
(5)
ينظر: جامع العلوم ولحكم 2/ 496 - 497. ') ">
والنصوص الدالة على تعاطي الأسباب كثيرة ساق منها ابن رجب رحمه الله طائفة مباركة، منها:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز» (1)
وفي حديث أنس رضي الله عنه «قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: "اعقلها، وتوكل» (2)
ولما قضى النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبت على أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل» (3)
وفي معنى الكيس يقول ابن رجب: "ومعناه أن الإنسان يأخذ
(1) رواه مسلم في صحيحه 1161 رقم 2664.
(2)
رواه الترمذي في الجامع 572 رقم 2517.
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند 39/ 408 - 409 رقم 23983، وفيه تمام تخريجه.
بالكيس، والسعي في الأسباب المباحة، ويتوكل على الله بعد سعيه، وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب، بل قد يكون جمعهما أفضل" (1)
وإذ تمهدت القاعدة الشرعية في الأسباب، وأن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب، وأن الجمع بينهما هو الأفضل، فيبقى النظر في المقام الثاني، وهو أقسام الأعمال التي يعملها العبد وصلتها بالأسباب، وهي عند ابن رجب ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يلزم من الإتيان بالأسباب فيها.
وهي الطاعات التي أمر الله تعالى عباده بها، وجعلها سببا للنجاة من النار، ودخول الجنة.
فهذه لا بد من الإتيان بها مع التوكل على الله فيها والاستعانة به عليها، فمن قصر في شيء مما وجب عليه من ذلك استحق العقوبة في الدنيا والآخرة، شرعا وقدرا (2)
القسم الثاني: ما يلزم من تعاطي الأسباب فيها، وإن كان الناس يتفاوتون في مقدار ما يتعاطونه من هذه الأسباب.
وهذا فيما أجرى الله العادة به في الدنيا، وأمر عباده بتعاطيه،
(1) جامع العلوم والحكم 2/ 507. ') ">
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 499. ') ">
كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش، والاستظلال من الحر، والتدفؤ من البرد، ونحو ذلك، فهذه يجب على المرء تعاطي أسبابه، ومن قصر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على استعماله، فهو مفرط يستحق العقوبة، لكن الله سبحانه قد يقوي بعض عباده من ذلك على ما لا يقوى عليه غيره، فإذا عمل بمقتضى قوته التي اختص بها عن غيره، فلا حرج عليه، ومن كلف نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات، فإنه ينكر عليه ذلك (1)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل في صيامه، وينهى عن ذلك أصحابه، ويقول لهم:«إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى» (2)
وكان لبعض السلف من القوة على ترك الطعام والشراب ما ليس لغيرهم، ولا يتضررون بذلك، كابن الزبير (3) وإبراهيم التيمي (4)
(1) ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 499. ') ">
(2)
رواه البخاري في صحيحه 315 رقم 1962، ومسلم في صحيحه 448 رقم 1102.
(3)
ينظر: المصنف، لابن أبي شيبة 19/ 262 رقم 35974. ') ">
(4)
أبو أسماء إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، المتوفى سنة 92 هـ. أخباره في: سير أعلام النبلاء 5/ 61، وتهذيب التهذيب 1/ 92، وتقريب التهذيب 118.
وقد أنكر السلف على عبد الرحمن بن أبي نعم (1) حيث كان يترك الأكل مدة حتى يعاد من ضعفه.
القسم الثالث: ما أجرى الله به العادة في الدنيا في الأعم والأغلب، وقد يخرق الله العادة ي ذلك لمن يشاء من عباده.
ويدخل تحت هذا القسم عند ابن رجب ما يقع من قصص فيمن ترك السعي في طلب الرزق، أو دخل المفازة بلا زاد، ونحو ذلك، والذي يراه ابن رجب أن هؤلاء صنفان:
الصنف الأول: من رزقه الله صدق يقين وتوكل، وثقة بالله، وقوة إيمانه بربه وقضائه وقدره، وعلم من الله أنه يخرق العوائد، ولا يحوجه إلى الأسباب المعتادة في هذه الأمور، فهذا يجوز له ترك الأسباب، ولا ينكر عليه ذلك، بل يرخص له ترك الأسباب بالكلية، ما دام قد انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية (2)
فمن قوي يقينه، وتوكله على الله، ووثوقه به، فإنه يجوز له دخول المفاوز بغير زاد، وترك التكسب، والتطبب، ونحو ذلك من
(1) أبو الحكم عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي الكوفي، مات بعد المائة. أخباره في: الطبقات الكبرى 5/ 298، وحلية الأولياء 5/ 69 - 73، وسير أعلام النبلاء 5/ 62 - 63.
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 501، 505. ') ">
ترك الأسباب الظاهرة، وأما من لم يبلغ هذه المنزلة، فإنه يمنع من ذلك.
وقد نسب رحمه الله هذا الرأي إلى الإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهما (1)
ومما احتج به على مذهبه هذا حديث «لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصا، وتروح بطانا» (2)
قال ابن رجب: "الناس إنما أتوا من قلة تحقيق التوكل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم، ومساكنتهم لها، فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم؛ لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، ولكنه سعي يسير"(3)
(1) ينظر: لطائف المعارف 140، وجامع العلوم والحكم 2/ 503، 505، ويراجع بعض ما جاء في هذا المعنى: كتاب الحث على التجارة والصناعة والعمل 176، 177.
(2)
رواه الإمام أحمد في مسنده 1/ 332 رقم 205، وينظر فيه تمام تخريجه.
(3)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 502. ') ">
«وذكر أن إبراهيم عليه السلام قد ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع، وترك عندهم جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء» (1) وفي ذلك أسوة لمن دخل المفازة بغير زاد (2)
وعلل رحمه الله بأن التوكل أعظم الأسباب التي يستجلب بها المنافع، ويستدفع بها المضار (3)
وقال رحمه الله:" فلا يشرع ترك الأسباب الظاهرة إلا لمن تعوض عنها بالسبب الباطن، وهو تحقيق التوكل عليه، فإنه أقوى من الأسباب الظاهرة لأهله، وأنفع منها، فالتوكل علم وعمل، فالعلم معرفة القلب بتوحيد الله بالنفع والضر، وعامة المؤمنين تعلم ذلك، والعمل هو ثقة القلب بالله تعالى، وفراغه من كل ما سواه، وهذا عزيز، ويختص به خواص المؤمنين"(4)
والصنف الثاني من أهل القسم الثالث: من كان ضعيفا،
(1) رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) 561 رقم 3364.
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 503. ') ">
(3)
ينظر: لطائف المعارف 140 - 141. ') ">
(4)
لطائف المعارف 141. ') ">
وخشي على نفسه ألاّ يصبر، أو أن يتعرض للسؤال، أو أن يقع في الشك والسخط، فهذا لا يجوز له ترك الأسباب، وينكر عليه غاية الإنكار (1)
قال ابن رجب رحمه الله: "وبكل حال من لم يصل إلى هذه المقامات العالية (2) فلا بد له من معاناة الأسباب، لا سيما من له عيال لا يصبرون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» (3) وكان بشر (4) يقول: لو كان لي عيال لعملت واكتسبت (5)
وكذلك من ضيع بتركه الأسباب حقا له، ولم يكن راضيا بفوات حقه، فإن هذا عاجز مفرط" (6)
هذا هو ما قرره العلامة ابن رجب رحمه الله في قضية
(1) ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 505. ') ">
(2)
يعني أصحاب الصنف الأول من القسم الثالث. ') ">
(3)
رواه الإمام أحمد في مسنده 11/ 36 رقم 6495 وفيه تمام تخريجه، وهو عند مسلم 404 رقم 996 بلفظ (كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوت يومه).
(4)
تقدمت ترجمته. ') ">
(5)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 506، ويراجع: كتاب الحث على التجارة والصناعة والعمل 58. ') ">
(6)
جامع العلوم والحكم 2/ 506. ') ">
الأسباب وصلتها بالتوكل، وعلاقة العبد بها، والناظر في جانبه التأصيلي للمسألة، وما نقله من نصوص وأقوال للأئمة يجدها واضحة الدلالة على أن ترك الأسباب ترك للتوكل، وما ساقه دليلا على أن للعبد أن يتوكل ويترك فعل السبب، فمحل تأمل:
فأما حديث: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصا، وتروح بطانا» (1)، فهو دليل على أن التوكل يتطلب السعي وبذل السبب.
وأما قوله رحمه الله أن ما تقوم به الطير سعي يسير، فهو بالنسبة للطير غاية وسعها، وليس بعده سبب، وكما هو معلوم أن كل سبب بحسب صاحبه (2)
وأما الاستدلال بقصة إبراهيم عليه السلام، وتركه لهاجر وابنها، وأن في هذا حجة لمن دخل المفازة بغير زاد.
فإن سياق القصة لا يدل على ذلك، فإن إبراهيم عليه السلام كما جاء في الخبر «وضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء» (3) ثم بذل السبب الأعظم، وهو التوجه إلى ربه بالدعاء، فأين هذا ممن
(1) سنن الترمذي الزُّهْدِ (2344)، سنن ابن ماجه الزُّهْدِ (4164)، مسند أحمد (1/ 52).
(2)
ينظر: الجامع لشعب الإيمان 2/ 405. ') ">
(3)
رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) 561 رقم 3364.
يدخلون المفازات بلا زاد؟
وقد جاء في رواية الخبر: «فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه، فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1)
ثم إن إبراهيم عليه السلام رسول يوحى إليه، وقد جاء في سياق القصة ما يدل على أن صنيعه عليه السلام عمل بأمر الله تعالى، فقد جاء فيها أن أم إسماعيل تبعت إبراهيم فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا» (2)
ومن نظر في هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهم المثال
(1) رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) 561 رقم 3364.
(2)
الموضع نفسه من الحديث.