الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري» (1)
الثانية: من جهة إرادة الخالق سبحانه، فإنه أراد منهم العبادة شرعًا ولم يأمرهم بالكفر أو الشرك بل أمرهم بها.
(1) شعب الإيمان للبيهقي 4/ 134 رقم 4563، والفردوس 3/ 225 رقم 4506 وانظر الجامع الصغير 2/ 81، والدر المنثور 6/ 117 وفيض القدير 4/ 469.
المبحث الرابع: (معنى الآية والأقوال فيه)
مما تقدم في المباحث السابقة يتضح أن معنى قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} إلا لآمرهم بالعبادة الشرعية على جهة الابتلاء؛ لأنظر من يحسن عملاً فيطيع أمر ربه ويمتثل شرعه، ومن يسيء فيعصي ويكفر.
فالآية عامة تشمل جميع المكلفين من الثقلين والمقصود بالعبادة فيها العبادة الشرعية المعلقة بطاعة الأمر والنهي الشرعيين، وتدل على هذا المعنى أدلة:
1 -
أن الاستقراء من كتاب الله دال على أن المراد بعبادة الله في استعمال القرآن العبادة التي أمرت بها الرسل، وهي عبادته وحده لا
شريك له، هي التوحيد المطلوب من الخلق، هي العبادة التي تكون مخالفتها والخروج عن مقتضاها بعبادة غير الله.
قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} .
ونحو هؤلاء الآيات، وفي آيات عديدة قرن الله الأمر بالعبادة بالنهي
عن الشرك، فذكرهما معًا جميعًا مقترنين، وفي ذلك دلالة بينة على أن المراد بالعبادة التوحيد وإفراد الله بها؛ لأنه نهي عن عبادة غير الله مع الله وأمر بالتوحيد، وإفراد الله بالعبادة، قال الله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} وقال: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} .
2 -
ما تقدم ذكره من أن المعنى المعبر عنه بالفعل في الآية هو الإرادة، أي أريد أن يعبدون، وقد تقدم ذكر أدلة ذلك، وتقدم بيان تعيُّن أن يكون المراد بالإرادة هنا الإرادة الشرعية التي هي الأمر والنهي
والتكليف بهما فقط.
3 -
أن هذا المعنى: (إلا لآمرهم بالعبادة ابتلاءً) دلت عليه آيات أخرى في كتاب الله، وجاءت دلالتها له على وجهين: إما مفسرة له، أو شاهدة له.
أما المفسرة فنحو قوله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} .
فالتصريح في هؤلاء الآيات بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً يفسر قوله: {لِيَعْبُدُونِ} في الآية (1)(2)
ومن الآيات المفسرة أيضًا: قوله سبحانه:
(1) انظر أضواء البيان 7/ 673.
(2)
انظر أضواء البيان 7/ 673. ') ">
{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} فهذا هو الذي أراده الله من خلق خلقه أن يأمرهم بألا يعبدوا إلا الله.
وأما الشاهدة فنحو قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} فهذا إنكار من الرب سبحانه على أن يحسب الإنسان أنه يترك سدى بلا أمر ولا نهي يبتليهم به، وأنكر سبحانه عليه ظنه أن ما يمده به ربه من مال وبنين هو لمجرد تزويده بالخيرات، وبيَّن أن الأمر ليس كذلك وأن خلقه إنما هو لتكليفه وابتلائه فإن عبد الله فهو أهل لفضل الله في الدنيا والآخرة، قال سبحانه:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} .
وهذا الإنكار من الرب شاهد لمعنى قوله {لِيَعْبُدُونِ} في آية الذاريات هذه.
فهذه الأدلة ودلائل أخر ستأتي في الجواب عن الأقوال الأخرى تدل على أن معنى {لِيَعْبُدُونِ} : لآمرهم أن يعبدوني.
وهذا التفسير هو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1) فقد ذكر عنه أنه قال في تفسير الآية: "إلا ليعبدون، أي: إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي"(2) وهو قول مجاهد أيضًا فقد قال: "لآمرهم وأنهاهم"(3) ووصف ابن تيمية هذا المروي عن مجاهد بأنه معروف بالإسناد الثابت عنه (4) وقال عكرمة: "إلا ليعبدون ويطيعون، فأثيب العابد، وأعاقب الجاحد"(5) وعن الربيع بن أنس: "ما خلقتهما إلا للعبادة"(6) ونسبه ابن عطية لابن عباس أيضًا (7) وهذا المعنى هو الصواب؛ للأدلة المذكورة.
(1) انظر تفسير السمعاني 5/ 264، وزاد الميسر 8/ 42، وتفسير القرطبي 17/ 155، وتفسير النسفي 4/ 188. ') ">
(2)
تفسير البغوي 4/ 235، وانظر درء تعارض العقل والنقل 8/ 477، والفتاوى 8/ 52. ') ">
(3)
تفسير السمعاني 5/ 264، وتفسير القرطبي 17/ 56، ودرء التعارض 8/ 478. ') ">
(4)
الفتاوى 8/ 52. ') ">
(5)
تفسير القرطبي 17/ 56. ') ">
(6)
درء التعارض 8/ 478 والفتاوى 8/ 52، وتفسير ابن كثير 4/ 239. ') ">
(7)
المحرر الوجيز 5/ 182. وانظر روح المعاني 27/ 21. ') ">
ولكن ثمة أقوال أخرى لا يسلم حمل الآية على واحد منها من خطإ.
وهذه الأقوال هي:
القول الأول: أن المعنى: إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللوا، إلا لأستعبدهم، فالمراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهره لهم ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم وأنه أصارهم إلى ما خلقهم له (1) فهي عبودية القهر والخضوع لربوبيته لا العبودية الشرعية عبودية الطاعة وامتثال الأمر والنهي، وعلى هذا المعنى حمل ابن تيمية رحمه الله المروي عن زيد بن أسلم أنه قال في:{إِلا لِيَعْبُدُونِ} : "ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة"(2) وقول وهب بن منبه: "جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية"(3) وذكر ابن تيمية رحمه الله أن قول ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: "إلا ليقروا بالعبودية طوعًا وكرهًا"(4) فُسِّر بهذا
(1) انظر تفسير السمعاني 5/ 264، وتفسير البغوي 4/ 235، وزاد المسير 8/ 43، وتفسير القرطبي 17/ 56، والفتاوى 8/ 45.
(2)
أخرجه الطبري في التفسير 27/ 8، وانظر تفسير البغوي 4/ 235، وتفسير القرطبي 17/ 56، والدر المنثور 6/ 116، ونقله ابن تيمية عن ابن أبي حاتم في الدرء 8/ 480، وانظر الفتاوى 8/ 45.
(3)
نقله ابن تيمية في الدرء 8/ 480 عن ابن أبي حاتم. ') ">
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير 10/ 3313 رقم 18668، والطبري في التفسير 27/ 8. ') ">
المعنى المذكور، ولكنه صحح تفسيره بمعنى آخر هو القول الثاني الآتي (1) وقد قال القرطبي في قول ابن عباس هذا:"فالكره ما يُرى فيهم من أثر الصنعة"(2)
وهذا المعنى وإن كان صحيحًا في نفسه إلا أنه ليس هو مراد الآية لوجوه:
أولاً: أن المخلوقات كلها خاضعة لله متذللة له نافذة فيها قدرته ومشيئته، فليس هذا خاصًا بالجن والإنس، وهما المذكوران دون سواهما، فذكرهما خاصة يدل على عبودية مرادة منهما خاصة دون سواهما، وهي عبودية الطاعة والامتثال للأمر الشرعي والابتلاء فيها.
ثانيًا: ما تقدم من أنه لا يراد بعبادة الله في القرآن "إلا العبادة التي أمرت بها الرسل، وهي عبادته وحده لا شريك له، والمشركون لا يعبدون الله، بل يعبدون الشيطان، وما يدعونه من دون الله، سواء عبدوا الملائكة أو الأنبياء والصالحين أو التماثيل والأصنام المصنوعة، فهؤلاء المشركون قد عبدوا غير الله، كما أخبر الله بذلك فكيف يقال: إن جميع الإنس والجن عبدوا الله؛ لكون قدر الله جاريًا عليهم؟! والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم
(1) انظر الدرء 8/ 480 والفتاوى 8/ 49. ') ">
(2)
تفسير القرطبي 17/ 55. ') ">
واختيارهم وإخلاصهم الدين له وطاعة رسوله، وبين أن يعبِّدهم هو وينفذ فيهم مشيئته، وتكون عبادتهم لغيره للشيطان وللأصنام من المقدور" (1)
ثالثًا: أن قوله: {لِيَعْبُدُونِ} يقتضي فعلاً يفعلونه هم، وكونه ينفذ فيهم مشيئته ليس فيه إلا فعله فقط، ليس فيه فعل لهم (2)
رابعًا: أن الآية واردة في سياق ذم من لم يعبده مفردًا إياه بالعبادة وذكر عقوبته في الدنيا والآخرة، كل سياق السورة في ذلك كما تقدم، فلو كان المراد بالعبادة الخضوع لربوبيته لكانت وقعت منهم، ولا محل لذمهم ووعيدهم، والآية فيها معنى التوبيخ لمن لم يعبده مع كونه خلق لذلك.
القول الثاني: أن المعنى: إلا ليذعنوا ويقروا لي بالعبودية، وقد وقعت منهم جميعهم طوعًا وكرهًا، وهذا قول ابن عباس المتقدم قريبًا:"إلا ليقروا بالعبودية طوعًا وكرهًا" وهو اختيار ابن جرير الطبري (3) وقال ابن تيمية في قول ابن عباس هذا: "وهذه العبودية
(1) هذا نص كلام ابن تيمية في الفتاوى 8/ 47. ') ">
(2)
انظر درء التعارض 8/ 481. ') ">
(3)
انظر تفسيره 27/ 8. ') ">
كقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} " (1) قال رحمه الله: "وفسرت طائفة (الكره) بأنه جريان حكم القدر فيكون كالقول قبله" يقصد القول بخضوعهم لربوبيته، قال: "والصحيح أنه انقيادهم لحكمه القدري بغير اختيارهم (2) كاستسلامهم عند المصائب وانقيادهم لما يكرهون من أحكامه الشرعية، فكل أحد لا بد له من انقياده لحكمه القدري والشرعي، فهذا معنى صحيح" قال رحمه الله:"لكن ليس هو العبادة"(3) وقوله: "ليس هو العبادة" هو وجه دال على أن هذا المعنى غير مراد بالآية وأن العبادة في إطلاق الشرع لا يراد بها هذا المعنى.
وثمة وجه آخر وهو المذكور رابعًا في نقد القول الأول الذي قبل هذا.
القول الثالث: أن المعنى: إلا ليوحدون، وقد وقع التوحيد منهم جميعًا، فأما المؤمنون فيوحدونه في الرخاء والشدة، وأما الكافرون
(1) الفتاوى 8/ 49 والآية الأولى رقمها 83 من سورة آل عمران والثانية رقمها 15 من سورة الرعد. ') ">
(2)
هكذا في موضعه والصواب الموافق لسياق الكلام: **باختيارهم** لأنهم يختارون الاستسلام للمصائب كارهين. ') ">
(3)
الفتاوى 8/ 49. ') ">
فيوحدونه في الشدة والبلاء دون الرخاء، بدليل قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وهذا قول الكلبي (1) قال الألوسي: (ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق)(2) وهو كما قال.
وقد ذكر الألوسي قولاً قريبًا من هذا، وهو أن التوحيد واقع منهم جميعًا في الآخرة وأن توحيد المشرك في الآخرة يدل عليه قوله سبحانه:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (3) وهذا أشد بعدًا من سابقه.
القول الرابع: أن المعنى: خلقهم للعبادة، وقد وقعت منهم جميعهم إلا أن من العبادة عبادة تنفع ومن العبادة عبادة لا تنفع {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} هذا منهم عبادة وليس تنفعهم مع شركهم، وهذا قول السدي (4) ولكن مجرد الإقرار بالخالق ليس هو العبادة المرادة، ولو كان هو العبادة المرادة بالآية، لم يكن ثمة وجهٌ لذم ووعيد هؤلاء المذمومين في الآيات؛ لأنهم أتوا بهذا الإقرار.
(1) انظر درء التعارض 8/ 479، وتفسير القرطبي 17/ 56. ') ">
(2)
روح المعاني 27/ 21. ') ">
(3)
وانظر المرجع السابق. ') ">
(4)
انظر درء التعارض 8/ 478، والفتاوى 8/ 50 وتفسير ابن كثير 4/ 239. ') ">
القول الخامس: أن المعنى: إلا ليعرفون، وهو مروي عن مجاهد (1) وابن جريج (2) وقتادة (3) قال البغوي:"وهذا أحسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، دليله قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} "(4) قال ابن تيمية في هذا القول: "هذا المعنى صحيح، وكونه إنما عرف بخلقهم يقتضي أن خلقهم شرط في معرفتهم، لا يقتضي أن يكون ما حصل لهم من المعرفة هو الغاية التي خلقوا لها، وهذا من جنس قول السدي، فإن هذا الإقرار العام هم مشركون (5) فيه، كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} لكن ليس هذا هو العبادة"(6) وقال الألوسي: "وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز وجل كالطبيعيين اليوم"(7)
وقد وجَّه أبو السعود هذ القول توجيهًا لطيفًا، فجعل المراد بالمعرفة
(1) انظر تفسير البغوي 4/ 235، والفتاوى 8/ 50 والدرء 8/ 479. ') ">
(2)
انظر الفتاوى 8/ 50 وتفسير ابن كثير 4/ 239. ') ">
(3)
انظر الفتاوى 8/ 50. ') ">
(4)
تفسيره 4/ 235، ونسب ابن تيمية ذات الكلام إلى الثعلبي في الدرء 8/ 479. ') ">
(5)
هكذا في الأصل ولعلها: **مشتركون**. ') ">
(6)
الفتاوى 8/ 50 - 51. ') ">
(7)
روح المعاني 27/ 21. ') ">
المعرفة المعتبرة الحاصلة بعبادته، لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة (1)
وهذه الأقوال الخمسة جميعها واردة على أن المراد بالجن والإنس عام غير مخصوص.
القول السادس: أن الآية خاصة في أهل طاعته من الفريقين الذين وقعت منهم العبادة، فيكون المعنى من وجدت منه العبادة فهو مخلوق لها، ومن لم توجد منه، فليس مخلوقًا لها.
وهو قول سعيد بن المسيب، إذ قال:"ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني" وقال الضحاك والفراء وابن قتيبة: هذا خاص لأهل طاعته (2)
وكذا قال الكلبي وسفيان (3)
ونسبه ابن عطية لزيد بن أسلم أيضًا (4) واستدل له البغوي (5) بقراءة ابن عباس: (وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون)(6)
(1) انظر تفسيره 4/ 145. ') ">
(2)
انظر زاد المسير 8/ 42، والفتاوى 8/ 40. ') ">
(3)
تفسير البغوي 4/ 235، وانظر تفسير القرطبي 17/ 55. ') ">
(4)
المحرر الوجيز 5/ 183. ') ">
(5)
انظر تفسيره 4/ 235. ') ">
(6)
نسب هذه القراءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابن خالويه في مختصر القراءات الشاذة 145، وكذا ابن عطية في المحرر 5/ 183، ونسبها إلى أبي بن كعب السمعاني في تفسيره 5/ 264.
مع قوله في الآية الأخرى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} فيكون من خلقهم لجهنم لم يخلقهم لعبادته.
وهذا القول كما قال ابن تيمية رحمه الله: "هو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور ولما تدل عليه الآية، فإن قصد العموم ظاهر في الآية، وبين بيانًا لا يحتمل النقيض، إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة، فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له، ولم يذكر الإنس والجن عمومًا. ولم تذكر الملائكة مع أن الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن"(1) فذكر رحمه الله في كلامه هذا وجهين من الجواب:
الأول: لفظ الآية وظهور العموم فيه.
الثاني: عدم ذكر الملائكة ولو كانت الآية خاصة بالمؤمنين لذكروا فإن الله خلقهم عابدين لا تمكن منهم المعصية.
ثم ذكر رحمه الله بعد الكلام المتقدم وجهًا ثالثًا وهو سياق السورة وموقع الآية فيه، فإنه استدل بذكر عقوبات الدنيا والآخرة في السورة لمن لم يعبده والوعيد الذي توعد به من لم يعبده وقوله بعد الآية {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} كل هذا يدل على أن الآية تقتضي ذم وتوبيخ من لم يعبد الله؛ لأن الله خلقه لشيء، فلم يفعل
(1) الفتاوى 8/ 40 - 41. ') ">
ما خلق له، فإذا قيل: لم يرد إلا المؤمنين كان هذا مناقضًا لسياق السورة وصار كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه، وغايته أن يقول: أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك، ولو خلقتني لها لكنت عابدًا وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك، وأنا خلقتني لأكفر بك وأشرك بك وقد فعلت ما خلقتني له كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له، قال رحمه الله:"فهذا وأمثاله مما يلزم أصحاب هذا القول، وكلام الله منزه عن هذا"
فجميع هذه الأقوال الستة غلط، ومنشأ الغلط في حمل الفعل (يعبدون) على الوقوع، ثم من حمل العبادة على العبادة الشرعية عبادة الطاعة والامتثال جعل الآية خاصة بالمؤمنين؛ لأنهم هم الذين وقعت منهم عبادة الطاعة دون سواهم، أو جعلها عامة واعتبر توحيد الكفار حال الشدة هو العبادة الواقعة منهم، أو اعتبر إقرارهم بالربوبية هو العبادة الواقعة منهم، ولكن لا تنفعهم. ومن حمل العبادة على العبادة العامة عبادة القهر والخضوع، جعل الآية عامة؛ لأن هذه العبودية العامة واقعة من العموم، وكذا من حمل العبادة على المعرفة.
والصواب ما قدمناه من أن المراد بالعبادة العبادة الشرعية عبادة
الطاعة والامتثال وأن الفعل (يعبدون) معبر به عن إرادته لا عن وقوعه، وأن ما وصف بكونه مرادًا بلا وقوع له فليس المراد به إلا إرادة التكليف به، والأمر به فقط، فليس المراد بقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وقوع العبادة بل الأمر بها على وجه الابتلاء. والله الموفق للصواب لا شريك له.
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بالمملكة العربية السعودية حول ما يجري في القدس
وبيت المقدس من قتل وحصار وتشريد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
أما بعد:
فإن القدس وبيت المقدس، أرض مباركة نص القرآن على مباركتها في أكثر من موضع منها قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ، وقوله:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} ، وقوله:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} .
والمسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: «يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: " المسجد الحرام "، قال: قلت: ثم أي؟ قال: " المسجد الأقصى "، قلت: كم كان بينهما؟ قال:"أربعون سنة» . الحديث. أخرجه البخاري ومسلم، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال للصلاة فيها، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى» .
وهو أحد المساجد التي تضاعف فيها الصلاة كما جاء في حديث أبي الدرداء رفعه «الصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة» ، قال الحافظ في الفتح 3/ 67: قال البزار: إسناده حسن.
لذلك ولما لبيت المقدس والقدس من فضل ولما له من مكانة في الشريعة الإسلامية ومكانة في نفوس المسلمين واستشعارا للمسؤولية، فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية تابعت ولا تزال تتابع بكل ألم ما جرى ويجري من التعديات والممارسات الظالمة التي تزداد يوما بعد يوم
وإخراج أهل الدور من دورهم، وتشريد الآلاف من ممتلكاتهم، والاستيلاء على بيوتهم، ومزارعهم، ومساكنهم؛ ليقيم عليها اليهود مغتصباتهم التي يسمونها مستوطنات، وما يقومون به من اعتداء على المصلين والمتعبدين وإقامة الجدار العازل، وتشديد الحصار الاقتصادي وسحب الهويات، والاعتقالات، وتدني مستوى الخدمات وإغلاق المؤسسات الخيرية، ومضايقة السكان بشتى ألوان المضايقات ولا شك أن هذا إجرام وظلم وبغي في حق القدس والمسجد الأقصى وأهل فلسطين، وهذه الأحداث الأليمة توجب على ولاة أمر المسلمين الوقوف مع إخوانهم الفلسطينيين، والتعاون معهم ونصرتهم، ومساعدتهم، والاجتهاد في منع اليهود من الاستمرار في عدوانهم، واعتداءاتهم على المسجد الأقصى، وإنهاء الاحتلال الظالم، كل في ميدانه وموقعه، قياما بالمسؤولية، وبراءة للذمة.
هذا وإننا نوصي إخواننا المسلمين في فلسطين والقدس بتقوى الله تعالى والرجوع إليه سبحانه، كما نوصيهم بالوحدة على الحق وترك الفرقة والتنازع لتفويت الفرصة على العدو الذي استغلها وسيستغلها بمزيد من الاعتداءات والتوهين.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يكشف الغمة عن هذه الأمة، وأن يعز دينه، ويعلي كلمته وأن ينصر أولياءه، ويخذل أعداءه ويجعل كيدهم في نحورهم، ويكفي المسلمين شرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو الرئيس
أحمد بن علي سير المباركي صالح بن فوزان الفوزان عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
عضو عضو عضو
محمد بن حسن آل الشيخ عبد الله بن محمد خنين عبد الله بن محمد المطلق