الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد في التعريف بالتصوف، ونشأته، وتطوره
.
نقل الإمام ابن رجب رحمه الله مستحسنا ما قاله من وصفه ببعض العارفين وقد سئل عن الصوفي:
من لبس الصوف على الصفا، وسلك طريق المصطفى وذاق الهوى بعد الجفا، وكانت الدنيا منه خلف القفا.
وهذا يتضمن اشتقاقين قيلا في كلمة التصوف، أحدهما: أنه من لبس الصوف، والثاني: أنه من الصفاء (1)
وقد وجه ابن رجب هاتين النسبتين في صلتهما بمعنى التصوف بأن التصوف ليس مجرد لبس اللباس الدنيء إظهارا للزهد في الدنيا، مع تعلق القلب بها، وإنما يصح ذلك ممن صفا قلبه، وفرغ من التعلق بالدنيا، بحيث لا يتعلق قلبه بأكثر من قيمة ما لبسه
(1) ينظر: شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ضمن مجموع الرسائل 1/ 80، ويراجع: مجموع الفتاوى 11/ 6، 16، والرسالة القشيرية 279، ومظاهر الانحرافات العقدية 1/ 25، 26.
في الظاهر، حتى يستوي ظاهره وباطنه في الفراغ من الدنيا (1)(2) 0
وبخصوص نشأة التصوف، فإن لابن رجب رحمه الله تحليلا دقيقا لنشأته، وتطور مراحله، وانتهائه إلى المقالات الإلحادية.
فقد ذكر رحمه الله أن الأغلب على القرون الثلاثة المفضلة الجمع بين العلم والعمل، وتعلم شرائع الإسلام الظاهرة، وحقائق الإيمان الباطنة، ولم يكن قد ظهر الفرق بين مسمى الفقهاء وأهل الحديث، ولا بين علماء الأصول والفروع، ولا بين الصوفي والفقير والزاهد، وإنما انتشرت هذه الفروق بعد القرون الثلاثة، وإنما كان السلف يسمون أهل العلم والدين: القراء، ويقولون: يقرأ الرجل إذا تنسك (3)
ثم إن أول من أظهر الكلام في المحبة، والشوق، وجمع الهمة، وصفاء الفكر، وتكلم به على رؤوس الناس أبو حمزة
(1) ينظر: شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ضمن مجموع الرسائل 1/ 80.
(2)
ينظر: شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ضمن مجموع الرسائل 1/ 80. ') ">
(3)
ينظر: مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام، ضمن مجموع الرسائل 2/ 560 - 561، والحكم الجديرة بالإذاعة، ضمن مجموع الرسائل 1/ 248، ويراجع: مجموع الفتاوى 11/ 5 ويقول الإمام البخاري رحمه الله: "كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبابا". صحيح البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1253 رقم 7286، قال الحافظ ابن حجر في معنى القراء:"المراد بهم العلماء - بالكتاب والسنة - العباد". فتح الباري 13/ 271، وينظر منه: 13/ 272.
الصوفي (1)
ثم بعد طبقة الحسن البصري (2) رحمه الله كان عباد البصرة، كعبد الواحد بن زيد (3) وأصحابه: عتبة (4) وضيغم (5) وكرابعة العدوية (6) والفضيل بن عياض (7) وداود الطائي (8) يظهر منهم
(1) أبو حمزة محمد بن إبراهيم البغدادي الصوفي، المتوفى سنة 269 هـ. أخباره في: طبقات الصوفية 295 - 298، وحلية الأولياء 10/ 320 - 322، وسير أعلام النبلاء 13/ 165 - 168، وينظر عنه: استنشاق نسيم الأنس ضمن مجموع الرسائل 3/ 389.
(2)
أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، الإمام الجليل، المتوفى سنة 110 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 2/ 131 - 161، وصفة الصفوة 3/ 164 - 167، وسير أعلام النبلاء 4/ 563 - 588.
(3)
أبو عبيدة عبد الواحد بن زيد البصري. المتوفى بعد الخمسين والمائة. أخباره في: حلية الأولياء 6/ 255 - 25، وصفة الصفوة 3/ 229 - 232، وسير أعلام النبلاء 7/ 178 - 180.
(4)
عتبة الغلام بن أبان بن صمعة البصري، أخباره في: حلية الأولياء 6/ 226 - 238، وصفة الصفوة 3/ 263 - 266، وسير أعلام النبلاء 7/ 62 - 6.
(5)
أبو بكر ضيغم بن مالك الراسبي البصري، المتوفى سنة 180 هـ. أخباره في: صفة الصفوة 3/ 253 - 255، وسير أعلام النبلاء 8/ 421.
(6)
أم عمرو رابعة بنت إسماعيل العدوية. المتوفاة على قول سنة 180 هـ. أخبارها في: صفة الصفوة 4/ 292 - 294، وسير أعلام النبلاء 8/ 241 - 243.
(7)
أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي الخراساني، المتوفى سنة 187 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 8/ 84 - 139، وصفة الصفوة 2/ 543 - 549، وسير أعلام النبلاء 8/ 421 - 442، 447 - 448.
(8)
أبو سليمان داود بن نصير الطائي، المتوفى سنة 162 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 7/ 335 - 367، وصفة الصفوة 3/ 93 - 102، وسير أعلام النبلاء 7/ 422 - 425.
الكلام في المحبة كثيرا، مع شدة الخوف (1) ثم اتسع بعد ذلك الكلام في المحبة من زمن أبي سليمان الداراني (2) وأصحابه بالشام، كأحمد ابن أبي الحواري (3) وقاسم الجوعي (4) وفي العراق زمن السري (5) والجنيد (6) وأصحابهما، وفي مصر زمن
(1) سيأتي أن رابعة ممن يجرد الكلام في المحبة، وينكر على من يقول أعبده خوفا ورجاء. يراجع: المبحث الثاني.
(2)
أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد بن عسكر العنسي الداراني، المتوفى سنة 205 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 9/ 254 - 280، وصفة الصفوة 4/ 441 - 449، وسير أعلام النبلاء 10/ 182 - 186.
(3)
أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن ميمون الثعلبي الغطفاني الدمشقي، المتوفى سنة 246 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 10/ 5 - 33، وصفة الصفوة 4/ 454، وسير أعلام النبلاء 12/ 85 - 94.
(4)
أبو عبد الملك القاسم بن عثمان العبدي الدمشقي المعروف بالجوعي، المتوفى سنة 248 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 9/ 322 - 323، وصفة الصفوة 4/ 453 - 454، وسير أعلام النبلاء 12/ 77 - 79.
(5)
أبو الحسن السري بن المغلس السقطي البغدادي، المتوفى سنة 253 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 10 - 116 - 128، وصفة الصفوة 2/ 624 - 634، وسير أعلام النبلاء 12/ 185 - 187.
(6)
أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري البغدادي، المتوفى سنة 298 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 10/ 255 - 287، وصفة الصفوة 2/ 652 - 657، وسير أعلام النبلاء 14/ 66 - 70، 76 - 77.
ذي النون (1) وأقرانه.
وكان بعض من يذكر بالمحبة ربما حصل له وسوسة ونوع تغير عقل، كسعدون وسمنون (2) ومنهم من يسمى مجنونا، ويسمون أيضا عقلاء المجانين، وكانت أقوالهم وأحوالهم محفوظة غالبا، ويصدر منهم من الكلام الحسن شيء كثير.
ثم توسع الأمر، فدخل في هذه الطائفة من وقع منهم من الأعمال والأقوال الشنيعة المخالفة للشريعة، وقد أحسن الظن بهم؛ لما يظهر من بعضهم من الإخبار بالمغيبات في بعض الأحيان، مما قد يظهر أكثر منه من الرهبان والكهان.
ثم نشأ بسبب ذلك اعتقاد أن الأولياء لهم طريقة غير طريقة
(1) أبو الفيض ذو النون ثوبان بن إبراهيم النوبي الإخميمي المصري، المتوفى سنة 245 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 9/ 331 - 10/ 3 - 4، وصفة الصفوة 4/ 510 - 516، وسير أعلام النبلاء 11/ 532 - 536.
(2)
أبو القاسم سمنون بن حمزة الخواص البغدادي. أخباره في: طبقات الصوفية 195 - 199، وحلية الأولياء 10/ 309 - 312، وصفة الصفوة 4/ 441 - 449.
الأنبياء، وأنهم واقفون مع الحقيقة، ولا يتقيدون بالشريعة.
ثم دخل في القوم من كان في صدره النفاق كامنا من أنواع الحلولية والإباحية، فعظم الخطب، واشرأب النفاق (1)
ومن العرض المتقدم ينجلي للناظر دقة ابن رجب - رحمة الله عليه - واستقراؤه التام للتصوف وتطوره، وهذا المعنى يهمنا جدا استحضاره ونحن نتتبع نقد ابن رجب للمتصوفة، فإن له رحمه الله في مواضع متعددة ثناء على بعض رجالات التصوف، وأحوالهم، والاعتذار لهم (2) وهذا المنهج قد يكون للناظر مجال في نقده ومراجعته، وبوقوفنا على إحاطة ابن رجب لتاريخ التصوف نعلم أنه رحمه الله لم يثن إلا على من يراه صادقا في دعواه، وإن أخطأ الطريق السوي.
ولا يخفى أن الاجتهاد في تقويم الرجال مجاله واسع، إن
(1) ملخص من استنشاق نسيم الأنس ضمن مجموع الرسائل 3/ 389 - 393، ويراجع: الاستقامة 2/ 15، 22، ومجموع الفتاوى 11/ 5 - 7، ومظاهر الانحرافات العقدية 1/ 34.
(2)
سيأتي أمثلة على ذلك في مباحث الدراسة، وينظر مثلا: لطائف المعارف 303 - 304، ورسالة مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل دينهم الإسلام ضمن مجموع الرسائل 2/ 560.