الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم" (1) والآية كما قدمنا فيها أصول ذلك كله ففيها تقرير التوحيد والحجة له وتبرير كل الأحوال التي ذكرها ابن القيم رحمه الله.
(1) مدارج السالكين 3/ 450.
المبحث الثاني: معاني ألفاظ الآية:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ}
(الواو) واو الاستئناف - ولهذا الاستئناف دلالات ستأتي في المبحث القادم - وليست واو العطف (1)(2) لأن المعنى الذي تضمنته الآية معنى مستأنف لم يسبق نظيره في حكم فيشرك بينهما بالعطف، بل هو تبرير لما ذكر في السياق من خبر وقص وأمر ونهي ووعد ووعيد.
(ما) هي النافية، وهو نفي يؤسس للاستثناء الآتي في الآية، فهو نفي غير مقصود لذاته ولكن للاستثناء، لتخليص المستثنى من الشركة.
(خلقت) الخلق: هو اختراع الشيء وتقديره في الوجود (3) وخلقه سبحانه مخلوقاته هو إيجادهم من عدم. والتاء ضمير المتكلم يعود
(1) خلافًا لابن عاشور في التحرير والتنوير 27/ 24 فقد جعلها للعطف وتكلف في تعيين المعطوف عليه.
(2)
خلافًا لابن عاشور في التحرير والتنوير 27/ 24 فقد جعلها للعطف وتكلف في تعيين المعطوف عليه. ') ">
(3)
انظر معجم مقاييس اللغة 2/ 213. ') ">
إليه عز وجل، وهي في محل رفع فاعل فعل الخلق، فهو سبحانه الخالق لا غيره. والخلق هو قاعدة البوبية وينبني عليها أصلان في الربوبية هما: الملك والتدبير، فإن الخالق يملك ما خلق، والمالك هو الذي يتصرف في ملكه.
(الجن) هم الجنس من المخلوقات الذين قال الله في خلقهم {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} ، {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} وهم مخاطبون بالرسالات مكلفون بها كما قال سبحانه:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ،
وهم فريقان مسلمون موحدون وكافرون كما حكى الله عنهم مقرًا قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} ، والمسلمون منهم الصالحون ومنهم أهل طرائق وأهواء دون الصلاح كما حكى الله عنهم مقرًا قولهم:{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} ، وهم ولد إبليس كما أن البشر بنو آدم - كما في قول الحسن البصري وقتادة وابن زيد وروي نحوه عن ابن عباس - (1) وسموا جنا لأنهم مجتنون أي مستترون عن أعين الناس (2) قال سبحانه:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} .
(الواو) واو العطف التي معناها الجمع، وهي هنا جمعت المعطوف والمعطوف عليه في حكمين:
1 -
في كونهما جميعًا خلق الله عز وجل.
2 -
في علة الخلق.
(1) تفسير القرطبي 1/ 294. ') ">
(2)
انظر معجم مقاييس اللغة 1/ 422. ') ">
وهي هنا من عطف الشيء على سابقه؛ لأن خلق الجن سابق على خلق الإنس كما ورد في كتاب الله، قال الله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} أي من قبل خلق الإنسان، وهذا ظاهر فإن إبليس كان من قبل خلق آدم.
(الإنس) وهم بنو آدم، وسموا بذلك لظهورهم، من الأنس وهو ظهور الشيء، يقال: آنست الشيء إذا رأيته (1) قال الله: {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} ، فهو اسم معناه مقابل لمعنى اسم (الجن).
(إلا) حرف للاستثناء، والاستثناء هو إخراج بعض الكلام مما هو داخل فيه (2) فهو نقل للكلام من العموم إلى الخصوص، والأصل في نقل الكلام للحروف لا للأسماء فـ (ما) تنقل الكلام من الإثبات إلى النفي، و (هل) تنقل الكلام من البر إلى الاستفهام وهكذا.
ولذلك كانت (إلا) أصل أدوات الاستثناء، وما عداها من الأدوات فمحمول عليها لأنه إما اسم كـ (غير) أو فعل كـ (عدا).
و (إلا) إذا وقعت بعد إثبات لزم إخلاص ما بعدها للنفي، كأن تقول:
(1) انظر معجم مقاييس اللغة 1/ 145. ') ">
(2)
انظر معجم مقاييس اللغة 1/ 392. ') ">
مررت بالقوم إلا زيدًا، فنفت المرور عن زيد وحده، وإذا وقعت بعد نفي لزم إخلاص ما بعدها للإثبات، كأن تقول: ما مررت بالقوم إلا زيدًا، فأثبتت المرور لزيد وحده.
فهي يلزم منها أن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها في النفي والإثبات (1) فالاستثناء من النفي إثبات والاستثناء من الإثبات نفي.
(اللام) حرف للتعليل، والفعل بعدها (يعبدوا) منتصب بأن مضمرة – على مذهب جمهور النحاة (2) – فيكون التقدير:"لأن يعبدون"، وأن والفعل بعدها تأول بالمصدر فيكون المعنى:(لعبادتي)، أو الفعل منصوب بعدها بكي المصدرية - على مذهب بعض النحويين (3) – فيكون التقدير:(لكي يعبدون)، أو الفعل بعدها منصوب باللام نفسها أصالة - على مذهب بعض الكوفيين (4) أو باللام نفسها نيابة عن (أن) على مذهب بعض النحويين (5) فيكون التقدير:(إلا أن يعبدون).
(1) انظر الاستغناء في أحكام الاستثناء 115. ') ">
(2)
انظر مغني اللبيب 1/ 210. ') ">
(3)
انظر مغني اللبيب 1/ 210. ') ">
(4)
انظر مغني اللبيب 1/ 210. ') ">
(5)
انظر مغني اللبيب 1/ 210. ') ">
وللتعليل معان سيأتي ذكرها في المبحث القادم.
(يعبدون) هذا فعل، والفعل يلاحظ فيه ثلاثة أمور يعبر به عنها: إرادته، والقدرة عليه، ووقوعه (1) و (يعبدون) معبر به عن الإرادة أي أريد أن يعبدون، ويدل له أمران:
1 -
قوله في الآية بعدها: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} فعلق الفعل بالإرادة وهو يفسر المعبر به بفعل (يعبدون) فيكون بمعناه، فيكون المعنى: أريد منهم أن يعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون.
2 -
أنه لا يحتمل التعبير به عن الوقوع ولا عن القدرة، أما عدم احتمال التعبير به عن الوقوع فلأن أكثر الخلق لم يقع ولا يقع منهم أن يعبدوا الله وحده، قال سبحانه:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ، والآية نفسها في التعريض بمخالفة المشركين للواجب عليهم من عبادة الله وخروجهم عن مقتضاه إلى عبادة سواه سبحانه، وأما عدم احتمال التعبير به عن القدرة؛ فلأن الله وإن كان قادرًا على أن يجعل الخلق عابدين له إلا أنه شاء ألَاّ
(1) انظر مغني اللبيب 1/ 688. ') ">
يهديهم أجمعين، قال سبحانه:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} والآيات في هذا المعنى عديدة.
قال الكفوي: "ما وصف بكونه مرادًا بلا وقوع له فليس المراد به إلا إرادة التكليف به فقط، فليس المراد بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وقوع العبادة بل الأمر بها"(1)
فيكون معنى: {لِيَعْبُدُونِ} لآمرهم بعبادتي، وأكلفهم بطاعة الأمر، سواء وقعت منهم الطاعة أو لم تقع، فإن الوقوع غير ملاحظ في الفعل ولم يعبر به له بل لإرادته.
وإذا كان ذلك كذلك فإن العبادة المرادة في الفعل هنا هي العبادة الشرعية التي هي: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"(2) ويكون المراد من الخلق أن يخضعوا لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة خضوعًا
(1) الكليات 76. ') ">
(2)
الفتاوى 10/ 149. ') ">