الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن هذا الكتاب الجليل الذي بين أيديكم من الكتب الأصيلة في تفسير ألفاظ القرآن، ويحفل بنظرات جديدة وتحقيقات بارعة واستدراكات قيمة على كتب اللغة والتفسير. ولو لم يتضمن إلا تفسير كلمة (الآلاء) لكفاه شرفاً وتميزاً عن أمثاله من كتب غريب القرآن.
وهو من تأليف الإمام عبد الحميد الفراهي رحمه الله (1280 - 1349 هـ) أحد أفذاذ العلماء المتأخرين. كانت شخصيته الجامعة بين علوم الشرق والغرب نادرة العصر كما يقول العلامة السيد سليمان الندوي. لقيه العلامة الدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي قبل وفاته بسبع سنوات، فوصفه في مذكراته بأنه "نادر في علماء العرب فضلاً عن علماء الهند". انتهى إليه فقه العربية فكان فيه السابق المبرّز والجواد المبِرّ، وأفنى عمره في تدبر كتاب الله ومدارسته، فبلغ في علمه شأواً لم يبلغه إلا قليل من أهل العلم. "ومن نظر في تصانيفه علم أنه لاحق سبق السابقين"(1)، ولم يسعه إلا أن يصدّق قول القائل: كم ترك الأول للآخر.
(1) من قول أبي الحسن البيهقي في جامع العلوم الأصفهاني (معجم الأدباء 4: 1737).
ولد في الهند وتوفي فيها، مع ذلك ألّف كل مصنفاته العلمية في اللغة العربية، دون الأدوية التي كانت لغة العلم والأدب في شبه القارة الهندية، ولم يسمع في ذلك لنصح الناصحين وعلل العاذلين، فإنه ألّف ما ألّف لعلماء العالم الإسلامي أجمع، وهل للعالم الإسلامي من لغة غير لغة القرآن؟.
ولكن مما يؤسف له أن كتبه كلها (غير كتاب أقسام القرآن) صدرت في الهند، ونفدت نسخها قبل أن تصل إلى أيدي العلماء والباحثين في البلاد العربية، فلم يقفوا عليها لينهلوا من معينها العذب، ويقتطفوا من روضها الأُنُف. فلا هي وُفّيت حقها من الإفادة والدراسة والنقد، ولا هو وفّي حقه من التقدير والإنصاف والاعتراف. ولا أدلّ على ذلك من غياب ترجمته عن كتاب الأعلام للزركلي، وخلوّ الدراسات القرآنية والعربية التي ظهرت في العالم العربي في غضون سبعين عاماً مضت بعد وفاة المؤلف عن الدلالة على مكانته والإشارة إلى آرائه والنقل من كتبه إلا نادراً.
وقد دفعني ذلك في سالف أيامي إلى أن أقبل على بعض مؤلفاته وأخرجها للدارسين بعد ضبطها وتصحيحها وشرحها. وألفيت نفسي -على قصور باعي وضعف حيلتي- نازعة إلى خدمة كتاب مفردات القرآن، لأهميته البالغة في علم القرآن وعلم اللغة معًا، وكان ذلك عام 1395 هـ.
وكتاب المفردات هذا من الكتب التي لم يقدّر للمؤلف رحمه الله أن يكملها أو يحرر المادة التي كتبها في أزمنة مختلفة، فتوفاه الله، والكتاب في المسودة. فلما أنشأ تلامذته وأصدقاؤه الدائرة الحميدية ومطبعتها لنشر ما لم ينشر من مؤلفاته أسندوا تحرير المسودات وإعدادها للنشر إلى تلميذه الشيخ أختر أحسن الإصلاحي رحمه الله، فأصدر عدة كتب، منها هذا الكتاب الذي نشر سنة 1358 هـ.
وكنت قرأت الكتاب في زمن الطلب، فحيرتني أمور منها أن عدداً كبيراً من الألفاظ التي فسرت في الكتاب موجودة بنصها في أجزاء التفسير المطبوعة،
فأيهما الأصل؟ ولم أجد جواباً عن هذا السؤال وغيره لأن الكتاب صدر بدون مقدمة من الناشر. ولكن إذ طبع بعد وفاة المؤلف توقعت أن تكون مسودته بخطه محفوظة. وكانت بالفعل محفوظة، ولم تكن دونها "مهامِهُ فِيح" أو "خَرقٌ تجرُّ به الرياح ذيولاً"، بل كانت على طرف الثمام، ولكن لم يتيسّر بلوغ المرام، إلا بعد بضعة أعوام!.
وتبين بعد النظر في الأصل أن الناشر رحمه الله لم يقتصر على تصحيح النص وتحريره بل أكمل المواد الناقصة منه بما ضم إلييها من نصوص التقطها من كتب المؤلف الأخرى، ثم أضاف إليه جملة مختارة من الألفاظ التي فسرت فيها، وأنزلها في الكتاب منازلها حسب ترتيب المؤلف. فلم يكن بد من الرجوع إلى تلك الكتب التي نقلت منها النصوص المزيدة لمعارضتها بالأصول. ومرة أخرى كانت تلك الكتب على حبل الذراع، ولكن تصرّم زمن حتى أمكن الوصول إليها والاطلاع. ثم شغلتني شواغل عن العناية بالكتاب فلم أتمكن من إنجاز العمل إلا سنة 1403 هـ.
ولكن مواطن عدة في الكتاب كانت خارجة عن طوقي، وهي التي رجع فيها المؤلف إلى اللغة العبرانية، وكتب بعض الألفاظ بحروفها، فشقّ عليّ أن أمرّ بها دون أن أفهمها وأوثقها. فكان من فضل الله سبحانه أن تهيأت لي فرصة للإلمام باللغة العبرانية إلماماً يمكّنني من مراجعة معاجمها والنسخة العبرية للعهد القديم، فحققت النصوص المتعلقة بها في الكتاب.
ثم بدا لي أن أتقيل ناشر الطبعة الأولى، فأضفت إلى نشرتي أيضاً ألفاظاً استخرجتها من كتب المؤلف، ولا سيما تفسير سورة البقرة الذي كان مخطوطاً آنذاك، وجمعتها في ملحق، وحققتها وعلقت عليها حسب المنهج الذي اتبعته في سائر الكتاب. وبعدما نجز هذا العمل أيضاً تجرّمت حِجَج خلون حلالها وحرامها!.
وأخرجت في خلال هذه الفترة كتابين آخرين من كتب المؤلف وهما:
"إمعان في أقسام القرآن"(1415 هـ) و"الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح"(1420 هـ). ولكن كتاب المفردات الذي كان أول كتاب اشتغلت به ظل ينتظر من ينهض بأعباء نشره، وظل المعنيون بآثار الفراهي يترقبون صدوره إلى أن قيّض الله لنشره الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي في بيروت، الذي وقف حياته على خدمة العلم وأهله، وإخراج كنوز التراث الإسلامي العظيم ودرره.
وإني إذ أصدر اليوم نشرة جديدة للكتاب بعد ما مضى نحو خمسة وستين عاماً على نشرته الأولى التي أصدرها جدي لأمي رحمه الله، لا أراني إلا مقتفياً أثره في خدمة الكتاب. وإن اختلفت هذه عن تلك في بنائها ومنهجها، فذلك لأنني حرصت على أن تجمع نشرتي بين خصائص أصل المؤلف وفوائد النشرة الأولى كاملة غير منقوصة ومميزاً بعضها عن بعض.
ولما كانت سيرة المؤلف لا تزال مجهولة عند كثير من الدارسين العرب صدّرت الكتاب بفصل في ترجمة المؤلف وآثاره المطبوعة والمخطوطة. وأتبعته فصلاً آخر تحدثت فيه عن كتاب المفردات مشيراً إلى مقاصده والأسباب التي بعثته على تأليفه مع وجود كتب كثيرة في هذا الموضوع، ونوهت بمنهج المؤلف في تفسير الألفاظ والقيمة العلمية للكتاب. وبعد ذلك وصفت نشرته الأولى ومنهجها، ومسودة الكتاب، ثم بينت الطريقة التي سلكتها في إعداد هذه النشرة الجديدة.
وقبل أن أختم كلمتي هذه، أقدّم خالص شكري إلى كل من أعانني، أو أبدى اهتماماً بهذا العمل، وحثّني على إنجازه والتعجيل في إصداره، راجياً أن يشكر معي شيخنا الحاجّ الحبيب اللبيب الذي تولّى نشر الكتاب، وألبسه هذه الحلة القشيبة، سائلاً الله أن يبارك في عمره ويتقبل مساعيه.
اللهم اغفر لمؤلف هذا الكتاب وتلميذه الناشر نشرتَه الأولى وأحببهما وارضَ عنهما واجعلهما مع السفرة الكرام البررة، فقد كانا من أهل القرآن الذين
هم أهلك وخاصتك، ومن المتبعين لسنة نبيك، والمجتهدين في ابتغاء مرضاتك.
اللهم لك الحمد على أن وفقتني لخدمة هذا الكتاب الخادم لكتابك العزيز، فاجعل عملي -على ما فيه من ضروب النقص والتقصير- خالصاً لوجهك الكريم، واغفر لي ولوالديَّ وللمؤمنين. وصلِّ اللهمّ وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرياض
10/ 11/ 1422هـ
الموافق 24/ 1/ 2002
محمد أجمل أيوب الإصلاحي