الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا في الديانة والتقوى" (1).
وقد أقبلت الدنيا على الفراهي، فتهيأت له فرص لو اغتنمتها وسعى إلى ما يسعى إليه أهل الدنيا لنال أجلّ الرتب وأعلى المناصب، وحاز كل ما تطمع فيه النفوس من الأموال والألقاب وحسن الصيت، ولكنه كان زاهداً في كل ذلك، مقبلاً على الله، قائلاً للدنيا ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. "يا دنيا غُرِّي غيري"(2). وكان من تيقظه وحذره في ذلك أنه قال في أثناء بعض تلك الفرص (3) التي يتمنى الناس حصولها في حياتهم مقطوعة رباعية في الفارسية يخاطب نفسه محذراً إياها، ترجمتها:"الجاهل مشغول بالبحث عن لذيذ المآكل، والعاقل مصروف همه إلى نيل الصيت والسمعة. أما أنت أيها الفراهي فاجتنب الاثنين، فيوشك أن ترى كليهما قد نشبت حلوقهما في الحبالة"(4).
وكان من ورعه وعدله أنه حكم في قضية -جعله الخصم حكماً فيها- على والده، مع كونه من أبرّ الناس به، وخرج بذلك جزء كبير من ضياعه إلى ملك الخصم (5).
(6) ثقافته وعلومه:
كان الفراهي عالماً ذا ثقافة واسعة متنوعة، فقده برع في العلوم النقلية والعقلية، ومهر في اللغات العربية والفارسية والإنجليزية، وتعلّم اللغة العبرانية. وانفرد من بين معاصريه من علماء الهند بأنه درس مع كل ذلك علوم الغرب وآدابه في اللغة الإنجليزية دراسة الناقد البصير، ثم لم يزده ذلك إلا قوة في الدين واستقامةً عليه علماً وعملاً.
(1) مقال الدريابادي في صحيفته (صدق) عدد 19/ 6/ 1945 م.
(2)
الرقة والبكاء: 198.
(3)
مقال الأستاذ شير محمد في مجلة الضياء 2/ 7.
(4)
نواي فهلوي: 40.
(5)
حيات حميد (الإصلاحي): 53.
لكن العلم الذي غلب عليه هو علم القرآن الذي بلغ فيه إلى منزلة تتقاصر دونها الهمم. ونكتفي هما بلمحة موجزة عن ثقافته الواسعة التي امتازت في كل جوانبها بالكيف أكثر من الكم.
قد اعترف أقران الفراهي وشيوخه بعلو منزلته في معرفة اللغتين الفارسية والعربية فيقول الأستاذ عبد الماجد الدريابادي: "قد بذّ العلامة الفراهي في الآداب الفارسية والعربية أقرانه بل شيخه شبلي النعماني أيضاً"(1) وقد ذكرنا فيما سبق معارضته -وهو ابن ستة عشر عاماً- للشاعر الفارسي الشهير (خاقاني) بقصيدة صعبة الرديف بهرت أحد كبار علماء الفارسية وخيّل إليه أنها لبعض الشعراء المتقدمين.
وقد طبع ديوان شعره الفارسي عام 1903 م فأرسل العلامة شبلي النعماني نسخة منه إلى الأمير العالم صاحب المكتبة الشهيرة الشيخ حبيب الرحمن الشيرواني وكتب إليه: "طبع شيء من شعر حميد الدين، نرسل إليكم نسخة منه، ولعلكم تنظرون في القصيدتين اللتين في آخر الكتاب لتتذوقوا اللسان الفارسي الأصيل"(2). وقد طبع الديوان مرة أخرى في طبعة أوفى بعنوان (نواي فهلوي) سنة 1967 م.
للفراهي ديوان آخر ترجم فيه صحيفة أمثال سليمان إلى الفارسية الدريّة التي لا يشوبها شيء من ألفاظ العربية، وقد طبع في حياته في حيدر آباد بعنوان (خردنامه).
ومما يدل على علو كعبه في الآداب الفارسية رسائل العلامة شبلي النعماني إليه في أثناء تأليفه كتاب (شعر العجم)، يقول في بعضها:"الآبيات التي سترسلها إلي من شاهنامة الفردوسي، ينبغي أن تفسر الغريب من ألفاظها في مواقعها، فإن أكثر ألفاظها غير مألوفة الآن"(3). وكتب في رسالة أخرى:
(1) مقاله (مولانا حميد الدين الفراهي) في صحيفة الداعي، عدد 3 ديسمبر 1976م.
(2)
مكاتيب شبلي 1:124.
(3)
المرجع السابق 2: 28، وكتاب شعر العجم في تاريخ الشعر الفارسي في خمسة مجلدات.
"أرسل إلي أمثلة من التخييل في الشعر الفارسي حسب آراء النقاد الغربيين"(1).
أما الإنجليزية فقد أتقن الفراهي دراستها، وألّف فيها وحاضر، وقد اطلع بواسطتها على كتابات المستشرقين عن القرآن وتاريخ العرب، وعلى الأدب الإنجليزي شعراً ونثراً وبلاغةً، وعلى كتب الفلسفة الحديثة وما ترجم إليها من كتب الفلسفة والآداب اليونانية. ومن آثاره بالإنجليزية مقالة في عقيدة الشفاعة والكفارة، ردّ بها على بعض علماء النصارى (2).
وقد أقرت ندوة العلماء في اجتماعها السنوي الذي عقد في دلهي عام 1328 هـ إعداد ترجمة إنجليزية لمعاني القرآن الكريم، نظراً لأن التراجم الأخرى الموجودة في ذلك الحين قد تمت على أيدي النصارى. فشكّلت لجنة مؤلفة من العلامة الفراهي والنواب عماد الملك البلجرامي والشيخ محمد صالح، على أن يقوم عماد الملك بالترجمة ويراجعها الفراهي والشيخ محمد صالح (3).
وقد درس الفراهي رحمه الله اللغة العبرانية، والذي دعاه إلى ذلك انتشار جمعيات التنصير في عهده في الهند، والرد على اليهود والنصارى من خلال كتبهم يقتضي دراستها الدقيقة وبصورة مباشرة. فاستفاد الفراهي بمعرفته للغة العبرانية ووقوفه على الدراسات المتعلقة بصحف أهل الكتاب في اللغة الإنجليزية، في كشف كثير من تحريفاتهم بنصوص كتبهم، كما نرى في كتابه (الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح) فقد جاء بثلاثة عشر دليلاً من التوراة نفسها للرد على زعمهم بأن الذبيح إسحاق عليه السلام، وناقش علماء أهل الكتاب، وفسّر بعض ما أشكل عليهم من كتبهم. ومن مؤلفاته التي لم يكملها (الطريف
(1) المرجع السابق 2: 18.
(2)
ذكرها السيد سليمان الندوي في ترجمة الفراهي الملحقة بكتابه (إمعان في أقسام القرآن). انظر طبعة دار القلم: 19.
(3)
حيات شبلي: 582.
في التحريف) الذي كان يريد أن يجمع فيه جملة من تحريفاتهم. وقد استفاد أيضاً بمعرفته للغة العبرانية -وهي من أخوات العربية- في تحقيق بعض ألفاظ القرآن الكريم وأساليبه.
ومن ثم لما جاءت فكرة الرد على شبهات المستشرقين وافتراءاتهم على القرآن الكريم، وكتب بعض المسؤولين في حكومة (بهويال) إلى العلامة شبلي النعماني رد عليه بأنه لا يوجد في الهند كلها من يستطيع أن يقوم بهذا العمل مثل حميد الدين الفراهي (1). وكتب في رسالة أخرى:"يندر في المسلمين من يجيد الكتابة في اللغة الإنجليزية (مع تبحره في القرآن) ولذلك فإن حميد الدين هو الذي يستطيع أن يقوم بهذا العمل خير قيام"(2).
أما العلوم العقلية فدرسها الفراهي أيام طلبه إذ كانت جزءاً لازماً من نظام الدرس في عصره، ثم اهتم بالفلسفة الحديثة حينما دخل كلية عليكره، ونال فيها درجة الامتياز، وقد واصل اطلاعه على ما كتبه فلاسفة الغرب. يقول الأستاذ عبد الماجد الدريابادي الذي كان من المختصين في الفلسفة الحديثة:"إن الفراهي قد درس الفلسفة دراسة واسعة وعميقة جداً، وكان يقرأ أحدث ما يصدر في الغرب من كتب الفلسفة والمنطق، ولم يكن يكتفي بالاطلاع عليها، بل يقرؤها قراءة بحث ونقد ومقارنة"(3). ومن هنا كان أعرف بخطرها وضررها وضلالها. وقد نبّه على ذلك في كتبه (4)، ثم لما قرر المنهج الدراسي لمدرسة الإصلاح حذف منه كتب المنطق والفلسفة، ولم يترك إلا مبادئهما ليلمّ الطالب بالمصطلحات المستعملة في الفنين فيتمكن من الاستفادة من كتب علماء الإسلام في أصول الفقه والكلام. وكان من أعظم كتبه التي لم يكملها كتاب حجج القرآن، والأبواب الثلاثة الأولى منه في نقد الفلسفة والمنطق وعلم
(1) مكاتيب شبلي 1: 25.
(2)
المرجع السابق 1:254.
(3)
مقالته في صحيفة الداعي، عدد 3 ديسمبر 1976 م.
(4)
من ذلك قوله في كتاب المفردات: "ومضرة كتب الفلسفة أضلّ وأوغل"(ص 5).
الكلام. والعلماء والباحثون الذين حضروا مجالسه ومحاضراته في نقد هذه العلوم وبيان زيفها، كانوا يشبهونه بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك وفي تبحره في علوم القرآن.
أما العربية فكان فيها إماماً لا يشق له غبار، وكان له في كل علم من علومها من لغة، ونحو، وبلاغة، وعروض، تحقيقات واجتهادات واستدراكات على الأئمة. ونكتفي هنا بالإشارة إلى كتابه (جمهرة البلاغة)، الذي نقض فيه الأساس الذي يقوم عليه فن البلاغة عند أرسطاطاليس، وهو نظرية المحاكاة، التي يرى الفراهي أن فن البلاغة العربية تأثر بها، فجار عن قصد السبيل، وانتقد في ذلك الإمام عبد القاهر الجرجاني مع اعترافه بجلالته. وقصد في هذا الكتاب إلى تأسيس فن البلاغة على قواعد جديدة في ضوء القرآن الكريم وكلام العرب الأقحاح.
ولما أرسل الفراهي فصولاً من جمهرة البلاغة إلى العلامة شبلي النعماني أعجب به إعجاباً جعله يلخص مباحثه المهمة وخاصة نقده لنظرية المحاكاة في مجلة الندوة التي كان يصدرها باللغة الأردية، مع أن النعماني نفسه يعدّ من أشهر النقّاد والكتّاب ومن الأركان الخمسة للأدب الأردي، وقد نشر الكتاب بعد وفاة المؤلف، ونفد قبل أن يصل إلى البلاد العربية ليأخذ مكانه من البحث والنقاش، فهو كتاب فريد في تاريخ البلاغة العربية.
وللفراهي ديوان شعر لطيف في العربية، طبع سنة 1387 هـ، وقد ذكره الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله فقال في مذكراته: "وللشيخ المذكور ديوان شعر، سمعته منه، بليغ مؤثر في استنهاض همم المسلمين وبث الحياة في قلوبهم، وذكر عداء الإفرنج لهم، وذكر حرب طرابلس والحرب الكبرى، والرجل فصيح في التكلم لغاية
…
".
أما العلوم الشرعية فتشهد بطول باعه فيها الفصول التي سوّدها من كتبه: الرائع في أصول الشرائع، وإحكام الأصول بأحكام الرسول، وفقه القرآن، وكان
ينوي تدوين فن أصول الفقه على نحو جديد بعد تخليصه مما اختلط به من مباحث الفنون الأخرى، وله تعليقات على طرر كتب الحديث والفقه والأصول وغير ذلك. ولكن العلم الذي استحوذ على عقله وقلبه، فأقبل عليه إقبالاً منقطع النظير هو علم القرآن. وكل ما درسه من علوم المنقول والمعقول وآداب الأمم وتاريخها وفلسفتها سخره لخدمة القرآن الكريم والمنافحة عنه.
وقد شرع في تدبر القرآن الكريم أيام طلبه في كلية عليكره، كما ذكر في فاتحة نظام القرآن، وكان كتاب الله أحب الكتب إليه، والنظر فيه ألذ من كل ما في الدنيا (1). وكان يعكف كل يوم بعد قيام الليل على تدبر القرآن الكريم، ثم يشتغل بالبحث والنظر والتأليف، ويستمر على ذلك بعد صلاة الفجر إلى الساعة التاسعة صباحاً، وظل ذلك دأبه أكثر من ثلاثين سنة. ولما استقال من عمادة دار العلوم بحيدر آباد صار يقضي معظم وقته في تدبر القرآن والتأليف فيه.
فحاز السبق في علم القرآن وفتح الله عليه من علومه ما شاء، وبلغ في ذلك شأواً لم يبلغه إلا قليل من أهل العلم، فلقبه معاصروه بترجمان القرآن. يقول العلامة السيد سليمان الندوي:"ثم انقطع إلى تدبر القرآن ودرسه، والنظر فه من كل جهة، وجمع علومه من كل مكان، فقضى فيه أكثر عمره، ومات وهو مكب على أخذ ما فات من العلماء، ولف ما نشروه ولمّ ما شتتوه، وتحقيق ما لم يحققوه. فكان لسانه ينبع علماً بالقرآن، وصدره يتدفق بحثاً عن مشكلاته، وقلمه يجري كشفاً عن معضلاته"(2).
وقد ألف في تفسير القرآن وعلومه بضعة عشر كتاباً أجلّها تفسيره (نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان) الذي صدر منه أحد عشر جزءاً في حياته وجزءان بعد وفاته. ولعله لم يشرع في التفسير من أوله إلا في آخر حياته فوافاه الأجل وهو في تفسير الآيات (47 - 62) من سورة البقرة.
(1) فاتحة نظام القرآن: 2.
(2)
ترجمته الملحقة بكتابه إمعان في أقسام القرآن ط دمشق: 17.
وكان للإمام الفراهي منهج فريد في التفسير، اشتهر به في شبه القارة الهندية، وقد أفاض القول في بيان أصوله في مقدمة تفسيره (فاتحة نظام القرآن) وكتابيه دلائل النظام والتكميل في أصول التأويل، وأبانت عنه أجزاء التفسير التي صدرت في حياته. وأهمها أصلان يدل عليهما عنوان التفسير نفسه: الأول نظام القرآن، والآخر تأويل الفرقان بالفرقان.
أما تأويل الفرقان بالفرقان فهو أصل معروف مجمع عليه ولا يحتاج إلى بيان، غير أن منهج الفراهي يتميز بالتمسك الشديد بهذا الأصل والاستفادة منه على أنحاء لم يفطن لها كثير من المفسرين.
أما "النظام" فالمقصود به ما يسميه الكتاب المعاصرون بالوحدة الموضوعية، فكل سورة لها موضوع معين -يسميه الفراهي عمود السورة- تدور عليه بأجزائها المترابطة فيما بينها ترابطاً معنوياً محكماً. ويختلف النظام عن التناسب الذي عني به جماعة من علمائنا القدامى، وعدّوه علماً شريفاً، والفرق بينهما "أن التناسب جزء من النظام، فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئاً واحداً مستقلاً بنفسه، وطالب التناسب ربما يقنع بمناسبة ما، فربما يغفل عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام، فيصير شيئاً واحداً. وربما يطلب المناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها، فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بعد منها. فإن عدم الاتصال بين آيات متجاورة يوجد كثيراً. ومنها ما ترى فيه اقتضاباً بيناً، وذلك إذا كانت الآية أو جملة من الآيات متصلة بالتي على بعد منها"(1).
ومراعاة النظام عند الفراهي ليس أمراً مقصوداً لذاته، وإنما هو المنهاج الصحيح لتدبر القرآن، والنظام هو الحكم عند تضارب الأقوال، وهو المرجح عند تعدد الاحتمالات، وهو الإقليد الذي تفتح به كنوز حكمة القرآن.
(1) دلائل النظام: 87 - 89.