المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌(1) مصادر الترجمة:

- ‌(2) اسمه ونسبه ومولده:

- ‌(3) شيوخه ورحلاته في طلب العلم:

- ‌(4) مناصبه وأعماله التعليمية والإدارية:

- ‌(5) صفاته وأخلاقه:

- ‌(6) ثقافته وعلومه:

- ‌(7) تلامذته:

- ‌(8) مصنفاته:

- ‌أولاً: الآثار المطبوعة:

- ‌ثانياً: الآثار المخطوطة:

- ‌(9) وفاته وثناء العلماء عليه:

- ‌كتاب مفردات القرآن

- ‌(1) كتب غريب القرآن قبل الفراهي:

- ‌(2) كتاب المفردات: أسباب التأليف ومقاصده:

- ‌(3) هل أنجز التأليف

- ‌أولاً: المقدمات:

- ‌ثانياً: عدد الألفاظ:

- ‌ثالثاً: تفسير الألفاظ:

- ‌(4) منهج الكتاب:

- ‌(5) القيمة العلمية للكتاب:

- ‌المثال الأول: كلمة الآلاء:

- ‌المثال الثاني: كلمة العصر:

- ‌المثال الثالث: كلمة الدرس:

- ‌(6) النشرة الأولى للكتاب:

- ‌(7) الأصل المخطوط:

- ‌(8) عملي في الكتاب:

- ‌روابط الكتب الخمسة

- ‌مفردات القرآن

- ‌المقدمة الأولى في مقصد الكتاب وحاجتنا إليه

- ‌المقدمة الثانية في الأصول اللسانية

- ‌تذكرة

- ‌المقدمة الثالثة في كون القرآن خالياً عن الغريب

- ‌تذكرة:

- ‌في ألفاظ القرآن

- ‌العام والخاص

- ‌الحروف المقطعات

- ‌(1) الآل

- ‌(2) الآلاء

- ‌(3) الآية

- ‌(4) الأبابيل

- ‌(5) أَتَى يَأتي

- ‌(6) أحوَى

- ‌ومن شواهد الأحوى:

- ‌(7) الإسلام

- ‌(8) إلَاّ

- ‌(9) أنْ

- ‌(10) الإيمان

- ‌(11) تنازع

- ‌(12) الحُبُك

- ‌(13) حَرْد

- ‌(14) الحَقّ

- ‌(15) الحُكْم وَالحِكْمَة

- ‌(16) خاتمَ النبيين

- ‌(17) درس

- ‌(18) الرحمن

- ‌(19) الزكاة

- ‌(20) س وسَوْفَ

- ‌(21) سَارِبٌ

- ‌(22) السَّعْي

- ‌(23) السُّنَّة

- ‌(24) الشهيد

- ‌(25) الشوَى

- ‌(26) الصبر والشكر

- ‌(27) الصدقة

- ‌(28) الصفح

- ‌(29) الصلاة

- ‌(30) الضريع

- ‌(31) الطوفان

- ‌(32) العَرْش

- ‌(33) العشي

- ‌(34) العصر

- ‌(35) غثاء

- ‌(36) القُرْبان

- ‌(37) الكِتاب

- ‌(38) كشَفَ عَنْ سَاقِه

- ‌(39) لا

- ‌(40) لَعَلّ

- ‌(41) اللعنة

- ‌(42) مَن

- ‌(43) وَرِيد

- ‌(44) يثرب

- ‌الملحق الأول زيادات المطبوعة

- ‌(45) الأبّ

- ‌(46) الأبتر

- ‌(47) ابن الله والربّ والأب

- ‌المزمور 82

- ‌ترجمتهم الباطلة

- ‌الترجمة الصحيحة

- ‌(48) الاتِّقَاء

- ‌(49) إنَّ اللهَ مَعَنَا

- ‌(50) أهل البَيْت

- ‌(51) البِرّ

- ‌(52) التكذيب

- ‌(53) التّين

- ‌(54) الجَنَّة

- ‌(55) الحُكم والحِكمة والصالح

- ‌(56) الذِكر

- ‌(58) سَبَّحَ

- ‌(59) سُبْحَانَكَ

- ‌(60) سَفَرَة

- ‌(61) الشَّيْطَانُ

- ‌(62) الصبر

- ‌(63) الصُّحُف

- ‌(64) صرَّة

- ‌(65) الصَّغْو

- ‌(66) الظنّ

- ‌(67) الغيب

- ‌(68) الفتنة

- ‌(69) الفكر والذكر والآية

- ‌(70) قَاتَلَ واقتَتَلَ

- ‌(71) كفر

- ‌(72) الكوثر

- ‌(74) مُصدِّقاً لِما بَيْن يَدَيْهِ

- ‌(75) مكّة

- ‌(76) المَنّ

- ‌(77) النصارى

- ‌(78) هَادُوا

- ‌(79) هدى

- ‌الملحق الثاني زيادات هذه الطبعة

- ‌(82) أحْصَنَتْ فرْجَها

- ‌(83) إسرائيل

- ‌(84) أغْنَى وأَقْنَى

- ‌(85) أفلح

- ‌(86) الإنجيل

- ‌(87) الإنفاق

- ‌(88) البارئ

- ‌(89) بَدَّلَ

- ‌(90) جَهْرَةً

- ‌(91) الجِيد

- ‌(92) الحِجَارة

- ‌(93) ختَمَ

- ‌(94) الخَلْق

- ‌(95) ذلك الكتاب

- ‌(96) الرجز

- ‌(97) الركوع

- ‌(98) الريب

- ‌(99) الزيتون

- ‌(100) السَّلوى

- ‌(101) الصابئون

- ‌(102) الصوم

- ‌(103) ضُرِبَتْ عَليهم الذِّلَّةُ

- ‌(104) طور سنين

- ‌(105) الطير

- ‌(106) الفرقان

- ‌(107) الفِسْق

- ‌(108) الفُوم

- ‌(109) القضْب

- ‌(110) القول

- ‌(111) كفات

- ‌(112) الكَيد

- ‌(113) المرض

- ‌(114) المسد

- ‌(115) المسكنة

- ‌(116) مَكين

- ‌(117) الملائكة

- ‌(118) المهيمن

- ‌(119) موسى

- ‌(120) النهر

- ‌(121) يطيقون

- ‌ثبت المصادر والمراجع

- ‌أولاً: العربية

- ‌المجلات:

- ‌ثانياً: الأجنبية:

- ‌الفهارس العامة

الفصل: ‌(15) الحكم والحكمة

فالقيامة حق، والله تعالى حق بالمعنى الأول والثالث. والعدل حق بالمعنى الثاني، والحكمة بالمعنى الثالث (1).

والشواهد على المعنى الأول والثاني كثيرة، وأما المعنى الثالث فقوله تعالى:

{قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا} (2).

(15) الحُكْم وَالحِكْمَة

(3)

"الحكم": فعل للقضاء المطلق حقاً أو باطلاً. قال تعالى:

= [الخَرَع: الضعف واللين].

وقال لبيد [من قصيدة في ديوانه: 286]:

فإنْ تَقْبَلُوا الْمَعْروفَ نَصْبِرْ لِحَقِّكم

وَلَنْ يَعدَمَ المعروفُ خُفًّا ومَنْسِمَا

وهذا كثير في كلامهم" انظر الفصل السادس: 7 - 8.

ثم يقول في الفصل الحادي عشر (16 - 17):

"أما المعنى الخاص الذي ذكرناه في الفصل السادس -وهو المواساة بالضعفاء- فمتفرع من معناه العام. كأنّ أجلّ الحقوق عند العرب هذه: فهي لازمة على المستطيع حاصلة لذوي الحاجة. وكأنها ثابتةٌ عند العقل، ومعلومةٌ للناس -ولذلك سموا الإحسان "معروفاً"- ومعمولةٌ بينهم كالقانون الثابت المستقر، فالحق بمعنى المواساة كأنه قد أُشرب من تلك العروق كلها".

وانظر المناسبة بين "الحق" و "الصبر" في الفصلين السادس والثاني عشر.

(1)

والحقّ من أسماء الموت بالمعنى الأول والمعنى الثالث. قال عَامِر بن حَوطٍ من بني عامر:

وَأزورُ بيتَ الحَقِّ زَورةَ مَاكِثٍ

فَعَلامَ أَحْفِلُ مَا تَقوَّضَ وَانْهَدَمْ

انظر شرح المرزوقي: 1676.

(2)

سورة البقرة، الآية:71.

(3)

وانظر "الحكم والحكمة والصالح" تحت رقم 55. وتفسير سورة آل عمران (مخطوط): 46 تحت قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الآية 79.

ص: 172

{ما لكم كيف تحكمون} (1)

أيضاً:

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (2).

ويطلق على القوة التي هي منشأ القضاء، وحينئذٍ يراد به الفهم. وسيأتيك شواهده (3).

وأما "الحِكْمَة" فهي اسم للقوة التي منها ينشأ القضاء بالحق. قال تعالى في نعت داود عليه السلام:

{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (4).

فذكَر الأثر بعد القوة التي هي مصدر ذلك (5) الأثر.

وكما أن القول الفصل من آثار الحكمة، فكذلك طهارة الخلق وحسن الأدب من آثارها. ولذلك كانت العربُ تطلِق اسمَ الحكمة على قوة جامعة لرَزانةِ العقل والرأي، وشَرافةِ الخلق الناشئة منها. فسَمَّوا الرجلَ العاقلَ المهذبَ "حكيما".

وكذلك يطلقون اسم الحكمة على فصل الخطاب، وهو: القول الحق الواضح (*) عند العقل والقلب (6).

................................

(*) والآن انظر في نظم قوله تعالى: =

(1) سورة الصافات، الآية: 154 وسورة القلم، الآية:36.

(2)

سورة المائدة، الآية:50.

(3)

سقطت هاء الضمير في المطبوعة.

(4)

سورة ص، الآية:20.

(5)

في الأصل: تلك، وهو من سبق القلم. والتصحيح من المطبوعة.

(6)

انظر في تعريف "الحكمة" وأسمائها كتاب حكمة القرآن للمؤلف: ق 6 و7.

ص: 173

وكل هذه الوجوه من معاني الحكمة جاء فى كلام العرب. فاستعملها القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بما عرفوه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مِنَ الشَعْرِ لَحِكْمَة"(1)

....................................

= {

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

فاعلم أن المخاطب على ثلاث مدارج: خالي الذهن، ومعترف، ومنكر. وبعبارة أخرى: تخاطب أولاً، أو بعد اعتراف، أو بعد إنكار. فأولاً تخاطبه بما يتقبل عقله من الحق الواضح والخير المعروف. فهذا هو الدعوة بالحكمة. فإذا رأيت أنه مقِرّ بحسن ما تدعو إليه، ولكنه لا يوافق عمله علمه، فتحثّه على (2) العمل بالموعظة الحسنة. وإذا رأيت أنه يخالف (3) دعوتك فتجادله بالطريق التي هي أحسن. فالأول: إلقاء العلم، وهذا يكفي للسابقين. والثاني: جذب إلى العمل. وهذا ينفع الصالحين الذين جاء فيهم:

{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].

والثالث: إزالة العوائق، وبهذا هُدِي خلقٌ، وتمت الحجة على الآخرين. كما جاء في قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].

وبعبارة أخرى: الدعوة بالحكمة عامة للناس، ثم هم يفترقون: فمنهم من يستمع ويميل، ومنهم من يجادل. فللأول "الموعظة"، وللثاني "حسن المجادلة"[حاشية المؤلف].

(1) أخرج البخاري عن أبي بن كعب في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه. افظر فتح الباري 10:537. وفيه "حكمة" بدون اللام. أما باللام "لحكمة" فانظره في حديث أبي أيضاً في سنن ابن ماجه: 1235. وانظر النهاية 1: 419.

(2)

في الأصل: إلى، والتصحيح من المطبوعة.

(3)

في المطبوعة: يخاف. خطأ مطبعي.

ص: 174

أي ليس كل شعر غواية، بل منه ما يتضمن على الحق (1) والحث على الخير.

هذا. ثم استعملها الله تعالى في أكمل أفرادها، فسمى الوحي "حكمةً" كما سماه "نوراً"، و "برهاناً"، و "ذِكراً" و "رحمةً". ومن هذه الجهة سَمَّى القرآنَ "حكيماً" أي ذا حكمة، كما سمَّى نفسه حكيماً وعليماً. فهذه وجوه.

فإذا سمّى القرآن "كتاباً" و "حكمة" معاً، فذلك من جهتين: سمى "كتاباً" من [جهة](2) كونه مشتملاً على الأحكام المكتوبة، و "حكمة" من جهة اشتماله على حكمة الشرائع من العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة. واستدللنا على هذا الفرق من تتبع استعمال الكلمتين معاً، ومما علمنا من استعمال "الكتاب" للأحكام و "الحكمة" لأصولها.

وتسامح بعض أهل العلم في هذا المقام، وتبعه الإمام الشافعي رحمه الله، وتبعه أكثر المحدثين، فظنوا أن "الحكمة" أريد بها الحديث (3)، فإنّ

(1) انظر ما قلنا في ص: 98 الحاشية 3.

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

روي تفسير "الحكمة" بالسنة عن قتادة. انظر الطبري 3: 87 والتصاريف: 201. وفسرها الإمام مالك فيما رواه الطبري عن ابن وهب عنه بالمعرفة بالدين والفقه في الدين والاتباع له. وقال الإمام الشافعي رحمه الله في رسالته (76 - 79) بعد نقل الآيات التي قرن الكتاب فيها بالحكمة:

"فذكر الله الكتاب -وهو القرآن- وذكر الحكمة، فسمعتُ مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال، والله أعلم. لأن القرآن ذُكِرَ وأُتبِعتْه الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجُز -والله أعلَم- أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله. وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله وحتّم على الناس اتباع أمره. فلا يجوز أن يقال لقول: فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، لِما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به. وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد: دليلاً على خاصّه وعامّه، ثم قرن الحكمة بها بكتاب فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله". =

ص: 175

............................

= نقل المؤلف رحمه الله كلام الإمام الشافعي في كتابه (حِكمة القرآن) ثم عقّب عليه بقوله: "فهذا كلامه فيما يتعلق بمعنى الحكمة في الآيات التي زوجت فيها بالكتاب أو الآيات. وهذا الذي ذهب إليه الإمام رحمه الله مذهب في التأويل، فإن العام ربما يستعمل في بعض أفراده. ولما كان "الحكمة" بمعنى الفهم، وقد خصَّها بفهم الكتاب من تقدمه من علماء التأويل، كما روي عن مجاهد وغيره، وقد رأى الإمام في عهده من مدعي فهم الكتاب من كان يؤوّله إلى العقليات الزائفة ويظن أنها هي الحكمة - نبه الإمام على أن فهم الكتاب إنما يكون بالسنة، واستدل على ذلك: (1) بما بينه من كون السنة مبينة للكتاب و (2) من أن الله لم يفرض علينا اتباع قول أحد غير السنة، ومَنّ علينا بتعليم الكتاب والحكمة، فلا نجد شيئاً يكون جديراً بأن يقون بكتاب الله غير سنة نبيه. فلم يذهب الإمام إلى ما ذهب إليه إلا على حسن نية ونصيحة للمسلمين فجزاه الله عنا خير جزاء. وأما في غير هذه المواضع فهو على ما هو المعنى المشهور كما قال في خطبة كتابه هذا ما نصّه".

ثم نقل كلام الإمام مع تفسير بعضه بين القوسين. ومما نقله:

"فكل ما أنزل الله جل ثناؤه في كتابه رحمة وحجة، علمه من علِمه وجهِله مَن جهِله، لا يعلم مَن جهله ولا يجهل مَن علمه. والناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به. فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه: نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه. فإنّ من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً. ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه. وانتفت عنه الريب. وَنوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة". (انظر الرسالة: 19 - 20. ونسخة الفراهي: 4 - المحقق) ثم قال: "هذا الكلام يشتمل على فوائد عظيمة. ولمتانته يستدعي شرحاً وتنبيهاً، وقد دل فيه على أصل عظيم في الحكمة فنذكر بعض ما يستفاد منه:

" انظر حكمة القرآن: ق 13، 14.

وعلق الفراهي كذلك على كلام الإمام في حاشية نسخته من الرسالة: 13 فقال: "كل ما ذكر الإمام من مكانة الإيمان بالرسول واتباعه، فلا شك فيه. وأما قوله رحمه الله في تفسير الحكمة فضعيف -والله أعلم-. وإنما أراد الإمام رحمه الله أن يجعل السنة حيث يسوغ بها تخصيص الكتاب وصرفه عن ظاهر معناه لكي يوفق بين الكتاب والسنة والآثار. والمجتهد قد يخطئ، وإنما الأعمال بالنيات. فاعلم أن قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اَللهُ =

ص: 176

الكتاب كتاب الله. ومثار الخطأ أنهم أخطأوا معنى "الكتاب" حيث جاء مع الحكمة. والدليل على ما قلنا آيات: فمنها قوله تعالى:

{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (1).

وهكذا قوله تعالى:

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (2).

وكلمة (يتلى) و (أنزل) لم يستعملها القرآن للحديث.

نعم إن الحديث ربما يتضمن الحكمةَ، ولا شك أن الحديث ربما يبيّن ما في القرآن من الحكمة. ولعل مراد الذين تبعهم الإمام رحمه الله كان هذا. ولكن الحديث يشتمل على الأحكام، كما أنه يشتمل على الحكمة، فلا وجه لتخصيصه باسم (الحكمة).

= عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ، وأمثال ذلك يبين أن الحكمة شيء نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يتلوه، ويعلمه الناس، فلا يكون أحكاماً جاءت بها السنة. وقد ذُكِر معنى الحكمة مجملاً على صفحة 7".

يعني تعليقه في حاشية الصفحة المشار إليها: "الحكمة لها معنيان: الأول ما أنزل الله، والثاني ما آتاه الله عباده. كما أن العلم والمعرفة والذكر وأمثالها يراد بها ما يعبّر عنها، وما هو صفة العقول. والقرآن يستعمل هذه الألفاظ في كلا المعنيين".

وقال في حاشية الصفحة نفسها تعقيباً على قول الإمام الشافعي في (البيان الرابع): "أفاد الإمام رحمه الله تعالى: كل ما سنّ النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه كتاب فهو المراد من الحكمة في قوله تعالى {ويعلمهم الكتاب والحكمة}. قال الفراهي: "الكتاب": ما شرع لهم، و "الحكمة": ما أودع صدورهم من العلم وذكر في القرآن وكتبه". وانظر تعليق المؤلف على كلام الإمام ابن تيمية في حاشية "معارج الأصول"(مجموعة مقالات ندوة الفراهي: 210).

(1)

سورة النساء، الآية:113.

(2)

سورة الأحزاب، الآية:34.

ص: 177

وجاء أوضح من ذلك حيث قال تعالى بعد ذكر ما قضى من أصول الدين:

{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (1).

وقال تعالى في صفة عيسى عليه السلام:

{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (2).

فسمى التوراة "كتاباً"، لأن معظمها الأحكام، والإنجيلَ "حكمة" لما كثر فيه الدلائل والمواعظ، كما قال تعالى:

{وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (3).

فكان الإنجيل مشتملاً على هدى ونور، وهدى وموعظة، وعلى قليل من الأحكام وتصديق التوراة. ولغلبة الأمر الأول سمي "حكمة". ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى:

{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} (4).

فاتضح أن تأويل "الحكمة" إلى الأَحاديث غير صحيح، وأن اسمَ "الكتاب" إذا يُتبَع بالحكمةِ (5) فالمراد منه الأحكام. فلا تنسَ هذا الفرق.

رجعنا إلى بيان معنى "الحكم"، فاعلم أنه أيضاً مثل "الحكمة" يُطلق على القولِ المشتملِ على القضاء الحقِ الواضحِ الذىِ قُضي بالعلم. وهذا من

(1) سورة الإسراء، الآية:39.

(2)

سورة المائدة، الآية:115. وكتب المؤلف رقم 1 تحت الكتاب والتوراة ورقم 2 تحت الحكمة والإنجيل.

(3)

سورة المائدة، الآية:46.

(4)

سورة الزخرف، الآية:63.

(5)

في المطبوعة: "قُرِنَ بالحكمة".

ص: 178

استعمال الكلمة العامّة في أحسن أفرادها (1). قال تعالى:

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (2).

وهكذا استعمال "الحكم" في معنى القوة، إذا أريد به الفهم الصائب. قال تعالى:

{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} (3).

أي آتيناه صفاتٍ ثلاثاً: الفهمَ، والمحبةَ، وطهارةَ الأخلاق. فاتَّصَفَ حسبَ ذلك، فصار تقياً: فاجتنب ما يَضر، وأحبَّ والدَيه، وحسن خلقه: فلم يَظلم مَن دونه، ولم يُسخِط مَن فوقه.

وقال تعالى:

{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ} (4) الآية.

فذكر "العلم" بعد "الحكم" ليعلم أن "الحكم" هاهنا هو الحكم المطلق، فإنه لا يكون إلا بالعلم. وهكذا قوله تعالى في موسى عليه السلام:

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} (5).

وأيضاً:

{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ

(1) في الأصل: أفراده، والصواب من المطبوعة.

(2)

سورة الرعد، الآية:37.

(3)

سورة مريم، الآيات: 12 - 14.

(4)

سورة الأنبياء، الآية:74.

(5)

سورة القصص، الآية:14. ومثله قوله تعالى في يوسف عليه السلام:

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} سورة يوسف، الآية:22.

ص: 179

(1) سورة الأنبياء، الآيتان: 78 - 79.

(2)

سورة يوسف، الآية:40.

من شواهد "الحكم":

1 -

قال الأعشى من قصيدة:

لا يَأخُذُ الرُّشْوَةَ في حُكْمِهِ

وَلَا يُبَالِي غَبَنَ الخَاسِرِ

الحكم: القضاء. انظر مجاز القرآن 1: 187.

2 -

قال النابغة الذبياني من قصيدة في ديوانه: 23:

اُحْكُمْ كحُكمِ فَتاةِ الحَيِّ إِذْ نظرَتْ

إلى حَمامٍ شِراعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ

فتاةُ الحي: يعني زرقاءَ اليمامة. قال الأزهري: الحكم: القضاء بالعدل، وأنشد هذا البيت. (التهذيب 4: 111).

شِراع: قاصدة إلى الماء -الثمد: الماء القليل- ومنه " أحكم من زرقاء اليمامة".

3 -

وقال حاتم الطائي من قصيدة (ديوانه ط 264:2):

تبيَّنْ فإنّ الحكمَ يهدِي مِن العَمى

إذا ما التقينا أيَّنا أنت ضائرُ

4 -

قال المُسَيَّبُ بن عَلَس من مفضلية له (61):

فرأيتُ أن الحُكم مُجْتَنِبُ الصِّبَا

وَصَحوتُ بعدَ تَشَوُّقٍ ورُوَعِ

الحكم: الحكمة، الرُّواع: الرَّوع.

5 -

قال لبيد بن ربيعة، وهو مطلع قصيدة في ديوانه 107:

سَفَهاً عَذَلْتِ وَقُلْتِ غَيْرَ مُلِيمِ

وبُكاكِ قِدْماً غيرُ جدِّ حَكيمِ

علق الفراهي في حاشية نسخته من ديوانه لبيد (طبعة الخالدي - 81): "حكيم أي عاقل".

6 -

وقال بشر بن أبي خازم من قصيدة في ديوانه 192:

تناهيتَ عن ذكر الصَّبابة فاحكمِ

وما طرَبي ذكراً لِرسمٍ بسَمْسَمِ

7 -

وقال المخبَّل السعدي من مفضلية (118):

لتنقِّبَنْ عنّي المنيّةُ إنَّ

م اللَّهَ ليس كحكمه حكمُ =

ص: 180