الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الرواية بجهل جِلَّة الصحابة رضي الله عنهم بمعنى بعض الألفاظ فلا نثِق بصحتها (1)، لكونها خلافَ صريحِ العقل وتصريح القرآن، كما قال تعالى:
{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} معناه هاهنا: وُضِّحت، فإن هذا كان اعتراضهم. وأما كونها تفصيلاً لإجمالٍ فذلك لا قدح فيه. قال تعالى:
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (3).
وقوله: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أي بعيد عن العقل أن يأتي الرسول بكلام لا يفهمه قومه. فأيّ فائدة لهذا الكلام؟ ولذلك قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (4).
........................
تذكرة:
روَوا أنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يَعلم معنى {وأبَّاً} (5)، أفأظهر عدم علمه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأن عمر رضي الله عنه بقي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غيرَ عالم بمعنى {تَخَوُّفٍ} (6). هيهات! كانت السورتان تقرآن كثيراً، وهم في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسألوه، ولا سمعوا أحداً يسأله!
(1) قال السيوطي في الإتقان 2: 4: "فهذه الصحابة -وهم العرب العرباء وأصحاب اللغة الفصحى ومن نزل القرآن علهيم وبلغتِهم- توقّفوا في ألفاظ لم يعرفوا معناها، فلم يقولوا فيها شيئاً". فَعَلَّق الفراهي على كلامه في حاشية نسخته (141):
"لا يصح أن كلمةً من القرآن خفِيَ معناها على علماء الصحابة، لا سيّما القرشيون".
(2)
سورة فصلت، الآية:44.
(3)
سورة هود، الآية:1.
(4)
سورة إبراهيم، الآية:4.
(5)
في قوله تعالى في سورة عبس، الآية: 31 {وفاكهةً وأبَّاً} وقد ردّ المؤلف هذه الرواية ردّاً مفصلاً في تفسير سورة عبس، انظر الفصل العاشر.
(6)
في قوله تعالى في سورة النحل، الآية: 47 {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
وقال تعالى:
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1).
فبيّن أن المقصود أن تعقلوا، فلذلك جعلناه عربياً وكتاباً واضحاً.
ولم يُنقل إلينا أنّ الصحابة خاصتهم ولا عامتهم رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم معنى كلمةٍ من القرآن، ولا حرجَ في سؤال معنى الكلمة، بل لا بدّ منه.
وقريش حكام في عُكاظ يُذعن لحكمهم شعراءُ العرب وخطباؤهم (2).
(1) سورة الزخرف، الآيات: 1 - 3.
(2)
نقل ابن فارس في الصاحبي: 33 "عن إسماعيل بن أبي عبيد الله قال: أجمع علماؤنا لكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالّهم أن قريشاً أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة. وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبي الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قُطّانَ حرمه وجيران بيته الحرام وولاته. فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب".
وفي الخزانة 1: 61 "ومعنى "المعلَّقة" أن العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به، ولا ينشده أحد حتى يأتي مكة في موسم الحج، فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه رُوي وكان فخراً لقائله، وعلّق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه. فإن لم يستحسنوه طرح ولم يعبأ به".
وفي الأغاني 21: 225 عن حماد الرواية: "كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردّوه كان مردوداً، فقدِم عليهم علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:
هل ما عَلِمتَ وما استُودِعتَ مكتومُ
فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم:
طحَا بكَ قلبٌ في الحِسان طَروبُ=
أفَهُم لا يعرفون بعضَ كلمات القرآن مع كونه على غاية السهولة والعذوبة بالنسبة إلى عامَّة كلام ذلك العصر؟ فمَن كان من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنَه هُدِي إن شاء الله تعالى. وأما المتعسِّفُ فلا يُسكِتُه شيء عن المِراء. والله يَهدي من يشاء!.
فالغايةُ من هذا البحث الخلاصُ عن الجهل والشك الناشِئَين مِن سُوء فهمِ المفردات. أما الجهلُ فاثنان: الأول هو الجهل بنفس معنى الكلمة، فنفهم خلافَ المراد. والثاني هو الجهل بكيفِه وكمِّه، فيخفى علينا نظم الكلام ودلالة نسقه.
وأما الشكّ فهو أيضاً اثنان: الأول في تعيين وجه من وجوه متباينة، فنقف حَيارَى، أو نقع في الخطأ. والثاني هو التذبذب في تعيين وجه من وجوه بينها عموم وخصوص.
والخلاص من ذلك بأمرين: الأول معرفة معنى الكلمة ووجوهه وأحواله. والثاني الاعتصام بنظم الكلام.
فوضعتُ هذا الكتاب للأمر الأول، وفيه عَون على الأمر الثاني. فإن من عرف معنى الكلمة، وأحاطَ بوجوهه وما يتعلق له من الأحوال أمكنه أن يطلع على ما هو أكملُ رِباطاً وأحسنُ تأويلاً.
= فقالوا: هاتان سمطا الدهر".
مقتضى هذه النصوص أن تكون الحكومة بين الشعراء في سوق عكاظ في أيدي قريش، كما ذكر المؤلف، ولكن لم أجد نصّاً صريحاً في ذلك.