الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(74) مُصدِّقاً لِما بَيْن يَدَيْهِ
(1)
كلمتان، لم يفهمهما أكثر الناس، فظنّوا أن القُرآن يشهد بالكتب المحرفة المبدَّلَة: أما "مصدِّقاً" فقد كان مظنّة للشبهة، لاشتراكِ كلمة "التصديق". وأما "بين يديه"(2) فلجهل الناس بالعربية، لا سيّما في هذا الزمان.
فاعلم أن "صَدَّقَه" له معنيان:
(1)
شهد بِصدق رجل أو كلام (3).
(2)
والمعنى الثاني أنْ جعله صادقاً فيما توقَّع. قال الحماسي (4):
فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلكَتْ يَمِيني
…
فَوارِسَ صَدَّقَتْ فِيهم ظُنوني (5)
= 6 - وقال ابن ميّادة من حماسية في المرزوقي: 1355 وانظر شعره: 206:
وما أنسَ مِ الأشياء لا أنسَ قولَها
…
وأدمعُها يُذرينَ حَشوَ المَكاحِلِ
تمتَعْ بذا اليومِ القصير فإنَّه
…
رهينٌ بأيام الشهورِ الأطاولِ
(1)
الدفتر الأول: ق 27، المطبوعة: 64 - 67، وانظر مقال الأستاذ بدر الدين الإصلاحي في مجلة الإصلاح 1: 11، 2: 6؛ 7. وقد بسط فيه رأي المؤلف.
(2)
"بين يديه" من الكلمات التي كان المؤلف ينوي شرحها في هذا الكتاب ولكن لم يتيسر له، إلا أنه فسرها في تعليقاته على سورة المائدة: 46، 48 (106) والأنعام: 92 (128) بما "نُزل قبلَه".
(3)
في الوجه الأول يتعدى الفعل بنفسه، تقول: صدّقتُ الرجلَ. أما الوجه الثاني فقد جاء فيه في القرآن الكريم متعدياً بالباء، كقوله تعالى:{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} التحريم: 12 وقوله {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} آل عمران: 39 - (ن).
(4)
هو أبو الغُول الطُهَوِي. وهو من قوم من بني طُهَيّةَ يقال لهم: بنو عبد شمس، ويكنى "أبا البلاد" من شياطين الأعراب وشعراء الدولة الأموية. انظر الحيوان 235:6 والآمدي: 245 والخزانة 440:6 والسمط: 580 وانظر الشعر في الخزانة 552:9 عن الأغاني 82:6. وانظر شرح الحماسة للتبريزي 1: 14.
(5)
من حماسية له في المرزوقي: 39 والتبريزي 1: 15، والحيوان 3: 106، والقالي =
في القرآن: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} (1).
ثم إذا تأملت في مواقع هذا القول، عَلِمت أن المراد هو المعنى الثاني. فإنّ النبي -والقرآنَ- جاء كما أخبرت به التوراة، فجعلها صادقة. فإن كذَّبوا القرآن والنبي يكن ذلك تكذيباً لكتبهم.
وهذا أيضاً يظهر إذا تأملت أن محمداً وعيسى عليهما الصلوات يأتيان (2) بهذا القول مُسْتدلَّينِ بصحة نبوتهما. فأيّ استدلال في أنهما يشهدان بصدق ما عند اليهود؟ أرأيت (3) إن تنبأ أحد في هذا اليوم، وقال: إني آمنت بالأنبياء، وأنا نبيّ مثلهم، فهل يكون هذا حجةً على دعواه؟.
أما موقع الآية، فقال تعالى:
(1)
= 1: 260، واللآلي: 580 ومن الحيوان واللآلي في الخزانة 6: 434. وأورد ابن قتيبة أبياتاً منها في الشعراء: 429 معزوة إلى أبي الغول النهشلي.
في الأصل: (صدّق) سهو، وما أثبتناه من المطبوعة. ووواية المرزوقي والقالي: صدّقوا. ومن شواهد معنى التصديق هذا قول ساعدة بن جُوَيّة الهذلي من قصيدة في أشعار الهذلين 1118:
فَحَبَتْ كَتيبَتُهم وصَدَّقَ رَوْعَهُم
…
مِنْ كُلِّ فَجٍّ غَارَةٌ لا تَكذِبُ
حَبَتْ: أي تهيأت للقتال وعطفت.
وقد مضى قول قَيس بن عَيزارة الهذلي في ص 218 (الضريع):
وإذا جَبانُ القومِ صدَّق نفرَه
…
حَبضُ القِسِيِّ وَضَرْبةٌ أخدودُ
سبأ، الآية:20.
(1)
سورة سبأ، الآية:20.
(2)
في الأصل والمطبوعة: يأتون، مستدلاً، أنهم يشهدون.
(3)
"أرأيت" سقط من المطبوعة.
(4)
هذا الرقم في الأصل فوق "الآية" في السطر السابق.
(5)
سورة البقرة، الآية:101.
أي لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم حسب ما وجدوا في كتبهم، أعرضوا عن كتبهم، وأنكروه، كأنهم لا يعلمون. وقبل هذه الآية:
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1).
فاستدلّ بأنّ فريقاً منكم عاهدوا بالإيمان بهذا النبي، فكيف تنبذون ذلك العهد؟ ولكنكم غير مؤمنين (2) وقد ذكر في سورة آل عمران عهدهم بإيمان نبي يأتيهم بصفات محمد عليه الصلوات (3).
(2)
(4) ومثل ذلك ما قال:
أي جاء هذا الكتاب حسب ما وُعدوا في كتبهم مع وعد النصر بالإيمان بصاحب هذا الكتاب، فكانوا يستفتحون على الكفار. ولكن لما جاء الكتاب، وعرفوا أنه حسب ما وعدوا، جحدوا به، فلعنة الله على الكافرين. وهذه اللعنة أيضاً موعودة في كتبهم بتفصيل طويل.
(3)
في سورة يوسف:
(1) سورة البقرة، الآية:100.
(2)
مقتضى لفظ الآية أن يقال: فاستدلّ بأنكم عاهدتم جميعاً بالإيمان بهذا النبى، فكيف ينبذ فريق منكم ذلك العهد، ولكن أكثركم غير مؤمنين (ن).
(3)
وهو قوله تعالى في سورة آل عمران: 81 {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
(4)
سقط الرقم 4 من المطبوعة.
(5)
سورة البقرة، الآية:89.
(6)
سورة يوسف، الآية:111.
فهاهنا (1) ذكر التصديق، لا من جهة إثبات القرآن، بل لإظهار فوائد القرآن، لأنه يثبت ما سبقه، ويفصّل، ويهدي، وهو الرحمة، فما أبعده عن الحديث المفترى!.
(4)
في الأحقاف:
أي لأنه يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، فهو على نمط كتاب موسى. فكما أنه حق، هذا حق، ويثبت ما سبق، ولا يبطله في أمر الهداية.
(5)
في سورة الصف:
فاستدلّ عيسى عليه الصلوات على نبوّته من جهتين: بإخبار خاص عن نبيّ بعده، وبأن قد أُخبر عنه في كتبهم، ثم الآية التالية:
تؤيد هذا المعنى، فإنهم إذا لم يؤمنوا بما أخبرت عنه التوراة، فقد افتروا على الله كذباً لإنكارهم ما أنزِل في التوراة من الله. وقوله:{وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} يضيّق عليهم بابَ الفرار، فإنّ النبي الموعود جاء، ويدعوهم إلى دين الحق، فهم كذبوا على الله ومرقوا من الإسلام. في سورة القصص (53):
(1) سقط (فهاهنا) من المطبوعة.
(2)
سورة الأحقاف، الآية:30.
(3)
سورة الصف، الآية:6.
(4)
سورة الصف، الآيتان: 7 - 8.
أي وُعِدوا بالنبي وصفته الخاصّة، فوجدوا في القرآن تلك الصفة، وقالوا: إنّا كنا مسلمين بهذه الآيات (1) إجمالاً: وهو إكمالُه الدينَ، ووضْعُ الإصر والأغلالِ.
(6)
في سورة النساء (47):
فهذا الوعيد الشديد ينبغي أن يكون على عصيانِ أمرٍ كتِب عليهم. ثمّ نرى أن قبل هذه الآية حكماً (2) يهدي إلى أن النبي الموعود هذا النبي: وهو تحريم الخمر قبل الصلاة. انظروا المقدمة على البشارات (3).
وقد ذكر الرازي (4) رحمه الله وغيره (5) المعنيين من غير تخصيصه بالمعنى الثاني، فتركوا الأمر مشتبهاً. ولم يتبين لهم وجه الاستدلال من مواقع الكلام. قال الرازي رحمه الله (6):
"اعلم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوة موسى عليه السلام وبصحة التوراة، أو مصدقاً لما معهم من حيث إنّ التوراة
(1) لا يقال: أسلم به، ولكنه ضمّن معنى الإيمان.
(2)
في المطبوعة: حكم.
(3)
العبارة "انظروا
…
البشارات" سقطت في المطبوعة. والمؤلف يعني كتاب البشارات له. وقد ذكره أيضاً في مسودة كتابه (الرسوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ، وسماه هنا مقدمة، لأن كثيراً من كتبه في علوم القرآن -في الأصل- من مقدمات تفسيره، أفردها لتوسع مباحثها. ولم نجد هذا الكتاب في ذخيرة مسوداته، فلعله لم يتمكن من تأليفه.
(4)
هو أبو عبد الله محمد بن عمر التيمي البكري، فخر الدين الرازي (544 - 606 هـ) العلاّمة المتفنن، وحيد عصره في المعقولات، صاحب التفسير الكبير. ابن خلكان 248:4، الأعلام 313:6، معجم المؤلفين 11:79.
(5)
في الأصل: غيرهم، والصواب من المطبوعة. والعبارة "وقد ذكر الرازي" إلى آخرها وردت في الأصل في الحاشية، ووضعت في المطبوعة في غير مكانها.
(6)
في تفسير الآية الأولى التي استدل بها المؤلف رحمه الله، وهي الآية الكريمة 101 من سورة البقرة.
بشرت بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا أتى محمد صلى الله عليه وسلم كان مجرد مجيئه مصدّقاً للتوراة. أما قوله {نبذ فريق} فهو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه (1) أما قوله تعالى {مِنَ الذِينَ أُوتواْ الكتاب}
…
" (2).
وقال الرازي رحمه الله في تفسير الآية الثانية (3):
"المسألة الأولى: لا شبهة في أن القرآن مصدّق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة. واللائق بذلك هو كونه موافقاً لما معهم في دلالة نبوته، إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع (لم يفهم معنى الموافقة) (4) وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلّة القرآن، لأنّ (5) جميع كتب الله كذلك. ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت والصفات"(6).
ألا ترى أنّ الرازي رحمه الله يجتهد في (7) إثبات النبوة من هذه الآية، فهو مصيب فيما تحرّى، وموقع الكلام يهدي إليه. أما دليله فكما ترى!.
ثم قال تحت قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} قولاً ضعيفاً يدلّ على قلّة معرفته بالتوراة والقرآن معاً، لما قال:
"لم يعرفوا [نبوته] بمجرد تلك الأوصاف بل بظهور المعجزات صارت تلك الأوصاف كالمؤكدة"(8).
(1)(إليه) زيادة من المطبوعة. وقد سقط في الأصل.
(2)
التفسير الكبير 3: 301.
(3)
التي استدلّ بها المؤلف رحمه الله. وهي الآية الكريمة 89 من سورة البقرة.
(4)
من تعليق المؤلف على كلام الرازي.
(5)
في المطبوعة: لأنّه، خطأ مطبعي.
(6)
التفسير الكبير 3: 180.
(7)
في المطبوعة: إلى.
(8)
التفسير الكبير 3: 301، وما بين المعقوفين تكملة منه.