الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس:
في خروج دم الاستحاضة
يدخل دم الاستحاضة، ومن به حدث دائم في عموم الخارج من أحد السبيلين، فهل يعتبر خروجه حدثاً ناقضاً للوضوء؟
اختلف أهل العلم في ذلك:
فقيل: يجب أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وهو مذهب الحنفية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
وقيل: يجب أن تتوضأ لكل فريضة، مؤداة أو مقضية، وأما النوافل فتصلي بطهارتها ما شاءت. وهو مذهب الشافعية
(3)
.
وقيل: لا يعتبر خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، بل يستحب منه الوضوء ولا يجب. وهو مذهب المالكية
(4)
.
(1)
الاختيار لتعليل المختار (3/ 508) حاشية ابن عابدين (1/ 504) البحر الرائق (1/ 226) مراقي الفلاح (ص 60) شرح فتح القدير (1/ 181) تبيين الحقائق (1/ 64) بدائع الصنائع (1/ 28).
(2)
المغني (1/ 421) شرح منتهى الإرادات (1/ 120) كشاف القناع (1/ 215) الإنصاف (1/ 377) الفروع (1/ 279) شرح الزركشي (1/ 437).
(3)
المجموع (1/ 543، 363)، مغني المحتاج (1/ 111)، روضة الطالبين (1/ 147، 125).
(4)
قال صاحب مواهب الجليل (1/ 291): " طريقة العراقيين من أصحابنا، أن ما خرج على وجه السلس لا ينقض الوضوء مطلقاً، وإنما يستحب منه الوضوء ". ثم قال:
" والمشهور من المذهب طريقة المغاربة أن السلس على أربعة أقسام: =
وقيل: الوضوء واجب لكل صلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، خرج الوقت أو لم يخرج. وهذا اختيار ابن حزم
(1)
.
وقد رويت أحاديث في وضوء المستحاضة لكل صلاة، منها:
(1007 - 236) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا محمد، قال: ثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي.
قال هشام: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت
(2)
.
= الأول: أن يلازم، ولا يفارق، فلا يجب الوضوء، ولا يستحب؛ إذ لا فائدة فيه فلا ينتقض وضوء صاحبه بالبول المعتاد.
الثاني: أن تكون ملازمته أكثر من مفارقته، فيستحب الوضوء إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو ضرورة فلا يستحب.
الثالث: أن يتساوى إتيانه ومفارقته، ففي وجوب الوضوء واستحبابه قولان"، ثم قال:
والرابع: " أن تكون مفارقته أكثر، فالمشهور وجوب الوضوء خلافاً للعراقيين فإنه عندهم مستحب " اهـ.
وانظر حاشية الدسوقي (1/ 116) وانظر بهامش الصفحة التاج والإكليل.
وانظر الخرشي (1/ 152)، فتح البر في ترتيب التمهيد (3/ 508)، الاستذكار (3/ 225 - 226) القوانين الفقهية لابن جزي (ص29).
(1)
المحلى (مسألة: 168).
(2)
صحيح البخاري (228).
[زيادة قال هشام: قال أبي: الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ]
(1)
.
(1)
سبب اختلاف العلماء في دم الاستحاضة، هل هو حدث أم لا؟ اختلافهم في قول هشام:" وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " هل هذه الزيادة موقوفة أو مرفوعة؟ وهل هي متصلة أو معلقة؟ وعلى تقدير كونها مرفوعة، هل هي محفوظة أو شاذة؟
فالحديث مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
ورواه عن هشام جمع كثير على اختلاف يسير في متنه، وبعضهم يذكر هذه الزيادة وبعضهم لا يذكرها.
وقد جاءت الزيادة بالوضوء من طريق أبي معاوية عن هشام به.
واختلف على أبي معاوية فيه، فروى بعضهم الحديث عن أبي معاوية دون ذكر الزيادة، وبعضم رواه عن أبي معاوية مصرحاً برفعها، وبعضهم روى الزيادة عن أبي معاوية موقوفة على عروة.
وممن روى الزيادة أبو حمزة السكري، واختلف عليه أيضاً:
فروي عنه مرفوعاً، وروى عنه مرسلاً.
وروى الزيادة أيضاً حماد بن زيد، وحماد بن سلمة عن هشام، إلا أنهما ذكرا الوضوء ولم ينصا على التكرار لكل صلاة بل قال:" فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي " فكما أن الاغتسال يكفي فيه الامتثال مرة واحدة، ولا يطلب تكراره عند كل وقت صلاة، فكذلك الوضوء بحسب لفظ الحمادين، على أن حماد بن سلمة قد روى عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه ولم يذكر عنه الوضوء.
وممن روى الزيادة أيضاً أبو عوانة (الوضاح بن عبد الله اليشكري) وأبو حنيفة واختلف عليهما فيه كما سيأتي.
هؤلاء هم الذين انفردوا بذكر الزيادة على الخلاف السابق، وخالفهم جمع كثير، وفيهم من هو أحفظ منهم، فقد روى الحديث عن هشام ستة عشر حافظاً ولم يذكروها، منهم مالك، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وزهير، وسفيان بن عيينة، وأبو أسامة، والليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، وعبدة، ومحمد بن كناسة، ومعمر، وجعفر بن =
(1008 - 237) ومنها: ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة،
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير))
(1)
.
[الحديث ضعيف، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وعروة مختلف فيه، قيل: عروة المزني، وهو مجهول، وقيل: عروة بن الزبير]
(2)
.
= عون، والدراوردي، وعبد الله بن نمير، وسعيد بن عبد الرحمن. هذا بعض من وقفت عليه ممن رواه عن هشام ولم يذكر الزيادة، فلو كان من ذكر هذه الزيادة لم يضطرب فيها لكانت شاذة؛ لأن الحكم عند أهل الحديث للأحفظ، وللأكثر عدداً على من دونهم، كما فصلت ذلك في بحث زيادة الثقة، في مقدمة كتاب المياه والآنية.
وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/ 72): والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب.
فهنا فصل مالك الحديث المرفوع من الموقوف في روايته عن هشام، فحين روى المرفوع لم يورد قال هشام: قال أبي ثم توضئي لكل صلاة، وحين روى الموقوف لم يذكر المرفوع، والله أعلم.
وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 201): " وهذه اللفظة - أعني: توضئي لكل صلاة- هي معلقة عند البخاري، عن عروة في صحيحه "، ثم قال:" وقد جعل ابن القطان في كتابه مثل هذا تعليقاً ". اهـ
هذا الكلام المجمل حول الحديث، وأما تفصيله فانظره في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية فقد بسطت الكلام على هذا الحديث فأغنى عن إعادته هنا، والله الموفق.
(1)
المسند (6/ 204).
(2)
سبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية (474).
(1009 - 238) ومنها: ما رواه الدرامي، قال: أخبرنا محمد بن عيسى، ثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها في كل شهر، فإذا كان عند انقضائها اغتسلت وصلت، وصامت، وتوضأت عند كل صلاة
(1)
.
[ضعيف جداً].
(1010 - 239) ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا أحمد بن القاسم الطائي، ثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا أبو يوسف القاضي، عن عبد الله بن علي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،
عن جابر: «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة» .
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي أيوب الأفريقي، وهو عبد الله ابن علي، إلا أبو يوسف
(2)
.
[إسناده ضعيف]
(3)
.
(1011 - 240) ومنها: ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا مورع بن عبد الله، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا حفص بن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن الحكم بن عتيبة عن جعفر، عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
سنن الدارمي (793)، وقد سبق تخريجه. انظر: حديث رقم (60) من كتاب الحيض والنفاس
(2)
المعجم الأوسط (1620).
(3)
سبق تخريجه في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (476).
المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ لكل صلاة))
(1)
.
[إسناده ضعيف].
وقد اختلف العلماء في حكمهم على هذه الآثار الواردة في وضوء المستحاضة لكل صلاة، فمنهم من ضعف الأحاديث الواردة في الباب.
قال ابن رجب: أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة وهي مضطربة ومعللة
(2)
.
ولهذا ذهب المالكية إلى عدم وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة.
قال ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دون الوجوب، قال: وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي» ولم يذكر وضوءاً، قال: وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة ومالك وأيوب وطائفة
(3)
.
وإذا لم تصح الآثار عن الرسول صلى الله عليه وسلم في وضوء المستحاضة، فإن النظر أيضاً يؤيد القول بعدم اعتبار خروج دم الاستحاضة وسلس البول ونحوهما حدثاً يوجب الوضوء، وذلك من وجوه:
(1)
الأوسط (1984) سبق تخريجه انظر رقم (463) من كتاب الحيض والنفاس.
(2)
شرح البخاري لابن رجب (2/ 73).
(3)
المرجع السابق، نفس الصفحة.
الوجه الأول:
أن من كان به حدث دائم لو تطهر فلن يرتفع حدثه، وإذا كان كذلك، كانت طهارته استحباباً لا وجوباً.
الوجه الثاني:
إذا كان دم الاستحاضة لايبطل الطهارة بعد الوضوء، وقبل الصلاة، لم يكن حدثاً يوجب الوضوء عند تجدد الصلاة أو خروج الوقت، ولذا حملنا الأمر على الاستحباب.
الوجه الثالث:
إذا كان دم العرق لاينقض الوضوء، فلو خرج دم من عرق اليد أو الرجل لم ينتقض وضوءه على الصحيح، فكذلك دم الاستحاضة، فإنه دم عرق كما في أحاديث الصحيحين، ولا يقال: إن خروجه من الفرج جعل حكمه مختلفاً؛ لأن المني يخرج من الفرج، ومع ذلك هو طاهر.
الوجه الرابع:
الشارع حكيم، فلا يؤاخذ الإنسان إلا بما فعل، فإذا كان خروج الدم ليس من فعل الإنسان ولا من قصده، لم تفسد عبادته، ولهذا لايؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين لعدم توفر القصد.
قال ابن المنذر في الأوسط: ((والنظر دال على ما قال ربيعة - يعني: في عدم وجوب الوضوء - إلا أنه قول لا أعلم أحداً سبقه إليه. وإنما قلت: النظر يدل عليه؛ لأنه لافرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم
الاستحاضة إن كان يوجب الوضوء فقليل ذلك وكثيره في أي وقت كان يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا، وابتدأت المستحاضة في الوضوء، فخرج منها دم بعد غسلها بعض أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء، لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة قائم.
وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه لا ينقض طهارة، وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة لا تنقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة هذا الذي يدل عليه النظر)). اهـ
(1)
هذه أدلة المالكية على عدم اعتبار خروج دم الاستحاضة حدثاً ناقضاً للوضوء، وهذا القول هو الراجح عندي، لأن الآثار في الباب لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، ولأن هذا القول موافق لقواعد الشريعة من جهة أخرى كما سبق بيانه، وفيه تيسير على المبتلى من النساء ومن به سلس بول، وقد أفتى به جماعة من أهل العلم على رأسهم الإمام مالك وربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة، كما سبق ذكره عنهم، وذكر ابن المنذر أن القياس يقتضيه، وهل الشرع كله إلا على وفق القياس، وصرح الحافظ ابن رجب بأنه لم يصح في أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة حديث، وقد بسطت الخلاف في هذه المسألة بأكثر من هذا الكلام في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فارجع إليه إن أردت الاستزادة من هذه المسألة المهمة
(2)
.
(1)
الأوسط (1/ 164).
(2)
في مبحث خلاف العلماء في وجوب الوضوء من دم الاستحاضة.