الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمرو- وهما باصطخر- فقصدا دار بجرد فتحصّنا بها، فصارت فارس في يد عمرو، وأرسل إبراهيم، هارون بن سعد «1» العجلىّ في سبعة عشر ألفا إلى واسط، وبها هارون بن حميد الإيادي من قبل المنصور- فملكها العجلىّ، وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسماعيل المسلىّ «2» فى خمسة، آلاف وقيل في عشرين ألفا، وكانت بينهم وقعات ثم تهادنوا على ترك الحرب، حتى ينظروا ما يكون من إبراهيم والمنصور، فلما قتل إبراهيم هرب هارون بن «3» سعد عنها، واختفى حتى مات.
قال: ولم يزل إبراهيم بالبصرة، يفرّق العمّال والجيوش حتى أتاه نعى أخيه محمد قبل الفطر بثلاثة أيام، فخرج بالناس يوم العيد وفيه الانكسار، فصلى بهم وأخبرهم بقتل محمد، فازدادوا في قتال المنصور بصيرة، وأصبح من الغد فعسكر واستخلف على البصرة نميلة، وخلف ابنه حسنا معه.
ذكر مسير ابراهيم ومقتله
قال: ثم عزم إبراهيم على المسير، فأشار عليه أصحابه البصريون أن يقيم ويرسل الجنود، فيكون، إذا انهزم لك جند أمددنهم بغيرهم، فخيف مكانك واتقاك عدوك، وجبيت الأموال وثبتت وطأتك، فقال من عنده من أهل الكوفة: إنّ بالكوفة أقواما لو رأوك ماتوا دونك،
وإن لم يروك قعدت «1» بهم أسباب شى؛ فسار عن البصرة إلى الكوفة، وكان المنصور- لما بلغه ظهور إبراهيم- فى قلة من العسكر فقال: والله ما أدرى كيف أصنع!! ما في عسكرى إلا ألفا رجل، فرّقت جندى!! فمع المهدى بالرىّ ثلاثون ألفا، ومع محمد بن الأشعث بأفريقية أربعون ألفا، والباقون مع عيسى بن موسى، والله:
لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكرى ثلاثون ألفا، ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعا، فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرة فتركها، وعاد وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الرىّ، فقال له المنصور: اعمد إلى إبراهيم ولا يروعنّك جمعه، فو الله- إنّهما جملا بنى هاشم المقتولان، فثق بما أقول، وضمّ إليه غيره من القوّاد.
وكتب إلى المهدى يأمره بانفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز، فسيّره فى أربعة آلاف فارس فوصلها، وقاتل المغيرة، فرجع المغيرة إلى البصرة، واستباح خزيمة الأهواز ثلاثا، وتوالت على المنصور الفتوق: من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمداين والسواد، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل، ينتظرون به صيحة، فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد:
وجعلت نفسى للرماح دريّة
…
إن الرئيس بمثل ذاك فعول «2»
ثم إن المنصور رمى كل ناحية بحجرها، وبقى على مصلّاه خمسين يوما، ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبة ملوّنة، قد «1» اتسخ جيبها، ما غيّرها ولا هجر المصلى، إلا أنه، إذا ظهر للناس لبس السواد، فإذا فارقهم رجع إلى هيئته، وأهديت إليه امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله والأخرى أمة «2» الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد، فلم ينظر إليهما، فقيل له: إنّهما قد ساءت ظنونهما، فقال: ليست هذه أيام نساء، ولا سبيل إليهما حتى أنظر: أرأس «3» إبراهيم لى أم رأسى له؟ قال الحجّاح بن قتيبة: لما تتابعت الفتوق على المنصور، دخلت مسلما عليه وقد أتاه خبر البصرة والأهواز وفارس، وعساكر إبراهيم قد عظمت، وبالكوفة مائة ألف سيف بازاء عسكره، تنتظر صيحة واحدة فيثبون به؛ فرأيته أحوذيا «4» مشمرا قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها، فقام بها ولم تقعد به نفسه، وإنّه لكما قال الأوّل:
نفس عصام سوّدت عصاما
…
وعلّمته الكرّ والإقداما
وصيّرته ملكا هماما
ثم وجّه المنصور إلى إبراهيم، عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا، وعلى مقدّمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف، وقال له- لمّا ودّعه-:
إنّ هؤلاء الخبثاء- يعنى المنجّمين- يزعمون أنّك إذا لاقيت إبراهيم، تجول أصحابك جولة حين تلقاه، ثم يرجعون إليك وتكون العاقبة لك.
قال: ولمّا سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلة في عسكره سرا، فسمع أصوات الطنابير، ثم فعل ذلك ليلة أخرى فسمعها أيضا، فقال:
ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا، وسمع وهو ينشد في طريقه أبيات القطامىّ:
أمور لو تدبّرها حليم
…
إذا لنهى وهيّب ما استطاعا
ومعصية الشفيق عليك ممّا
…
يزيدك مرّة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه
…
وليس بأن تتبّعه اتباعا
ولكنّ الأديم إذا تفرّى
…
بلى وتعيّبا غلب الصّناعا
فعلموا أنّه نادم على مسيره، وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف، وقيل كان معه في طريقه عشرة آلاف، وقيل له في طريقه ليأخذ غير الوجه الذى فيه عيسى بن موسى ويقصد الكوفة، فإن المنصور لا يقوم له وينضاف أهل الكوفة إليه، ولا يبقى للمنصور مرجع دون حلوان، فلم يفعل، وقيل له ليبيّت عيسى بن موسى، فقال: أكره البيات إلا بعد الإنذار، وقال له بعض أهل الكوفة: إئذن لى بالمسير إلى الكوفة، أدعو الناس سرا ثم أجهر، فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة، لم يردّ وجهه شىء دون حلوان، فاستشار إبراهيم بشير الرحّال، فقال: لو وثقنا بالذى تقول لكان رأيا، ولكنّا لا نأمن أن
تجيئك منهم طائفة، فيرسل إليهم المنصور الخيل، فيأخذ البرىء والصغير والمرأة، فيكون ذلك تعرّضا للمآثم، فقال الكوفى: كأنّكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتوقون قتل الضعيف والصغير والمرأة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سراياه، فيقاتل ويكون نحو هذا، فقال بشير: أولئك كفار وهؤلاء مسلمون، فاتّبع إبراهيم رأيه وسار حتى نزل باخمرا، وهى من الكوفة على ستة عشر فرسخا، مقابل عيسى بن موسى، فأرسل إليه سلم بن قتيبة يقول: إنك قد أصحرت «1» ، ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من وجه واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه، فدعا إبراهيم أصحابه وعرض عليهم ذلك، فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم؟! لا والله لا نفعل؛ قال: فنأتى أبا جعفر، قالوا:
ولم وهو في أيدينا، متى أردناه؟! فقال إبراهيم للرسول: أتسمع، فارجع راشدا.
ثم إنّهم تصافوا، فصفّ إبراهيم أصحابه صفا واحدا، فأشار عليه بعض أصحابه بأن يجعلهم كراديس، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس، فإنّ الصفّ إذا انهزم بعضه تداعى سائره، فقال الباقون: لا نصفّ إلا صفّ أهل الإسلام، يعنى قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)
«2» ، ثم التقوا
واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فلا يلوون عليه، وأقبل حميد منهزما فقال له عيسى: الله الله والطاعة، فقال لا طاعة فى الهزيمة، ومرّ الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير، فقيل له: لو تنحّيت عن مكانك حتى يثوب إليك الناس، فتكرّ بهم؟ فقال:
لا أزول عن مكانى هذا أبدا حتى أقتل أو يفتح الله على يدى، والله لا ينظر أهل بيتى إلى وجهى أبدا وقد انهزمت عن عدوّهم، وجعل يقول لمن يمرّ به: اقرأوا أهل بيتى السلام، وقولوا لهم لم أجد فداء أفديكم به أعزّ من نفسى، وقد بذلتها دونكم، فبينما هم كذلك لا يلوى أحد على أحد إذ أتى جعفر ومحمد ابنا سليمان بن على من ظهور أصحاب إبراهيم، ولا يشعر باقى أصحابه الذين يتّبعون المنهزمين، حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم، فعطفوا نحوه ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم، فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم، فلولا جعفر ومحمد لتمّت الهزيمة، وكان من صنع الله للمنصور أن أصحابه لقيهم نهر في طريقهم، فلم يقدروا على الوثوب ولم يجدوا مخاضة فعادوا بأجمعهم، وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة، وقيل أربعمائة، فقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى، وجاء إبراهيم سهم عائر «1» فوقع في حلقه فنحره، فتنحّى عن موقفه وقال: أنزلونى، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول: وكان
أمر الله قدرأ مقدورأ، أردنا أمرا وأراد الله غيره، واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، فقال حميد بن قحطبة لأصحابه:
شدّوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم، وتعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدّوا عليهم فقاتلوهم أشد القتال، حتى أفرجوهم عن إبراهيم وخلصوا إليه وحزّوا رأسه، فأتوا «1» به عيسى بن موسى، فأراه ابن أبى الكرام الجعفرىّ، فقال: نعم هو رأسه «2» ، فنزل عيسى إلى الأرض فسجد، وبعث برأسه إلى المنصور، وكان مقتله يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذى القعدة سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام.
وقيل كان سبب انهزام أصحاب إبراهيم، أنّهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم نادى منادى إبراهيم: ألا تتبعوا مدبرا فرجعوا، فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنّوهم منهزمين، فعطفوا في آثارهم وكانت الهزيمة. قال: وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولا، فعزم على اتيان الرىّ، فأتاه نوبخت المنجّم فقال: يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وسيقتل إبراهيم فلم يقبل منه، فبينما هو كذلك إذ أتاه الخبر بقتل إبراهيم، فتمثل:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى
…
كما قرّ عينا بالإياب المسافر
فأقطع المنصور نوبخت ألفى جريب بنهر جوبر «3» ، وحمل رأس
إبراهيم إلى المنصور، فوضع بين يديه فلما رآه بكى، حتى جرت دموعه على خد إبراهيم، ثم قال: أما والله إن كنت لهذا كارها، ولكنك ابتليت بى وابتليت بك، ثم جلس مجلسا عاما وأذن للناس، فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم، ويسىء القول فيه ويذكر فيه القبيح، التماسا لرضا المنصور، والمنصور ممسك متغيّر لونه، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهرانى، فوقف فسلّم ثم قال: عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك، وغفر له ما فرط فيه من حقك، فاستقرّ لون المنصور وأقبل عليه، وقال: مرحبا أبا خالد ههنا، فعلم الناس «1» أن ذلك يرضيه، فقالوا مثل قوله. قيل ولما وضع الرأس بين يدى المنصور بصق في وجهه رجل من الحرس، فأمر به المنصور فضرب بالعمد، فهشمت أنفه ووجهه، وضرب حتى خمد وأمر به فجروا برجله فألقوه خارج الباب.
قال: وممّا رثى به محمد بن عبد الله وأخوه إبراهيم قول عبد الله ابن مصعب بن ثابت:
يا صاحبىّ دعا الملامة واعلما
…
أن لست في هذا بألوم منكما
وقفا بقبر ابن النبىّ فسلّما
…
لا بأس أن تقفا به فتسلّما
قبر تضمّن خير أهل زمانه
…
حسبا وطيب سجية وتكرّما
رجل نفى بالعدل جور بلاده
…
وعفا عظيمات الأمور وأنعما
لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر
…
عنه ولم يفتح بفاحشة فما
لو أعظم الحدثان شيئا قبله
…
بعد النبىّ به لكنت المعظما
أو كان أمتع بالسلامة قبله
…
أحدا لكان قصاره أن يسلما
ضحّوا بإبراهيم خير ضحيّة
…
فتصرّمت أيامه وتصرّما
بطلا يخوض بنفسه غمراتها
…
لا طائشا رعشا ولا مستسلما
حتى مضت فيه السيوف وربما
…
كانت حتوفهم السيوف وربّما
أضحى بنو حسن أبيح حريمهم
…
فينا وأصبح نهبهم متقسّما
ونساؤهم في دورهنّ نوائح
…
سجع الحمام إذا الحمام ترنّما
يتوسّلون بقتلهم ويرونه
…
شرفا لهم عند الامام ومغنما
والله لو شهد النبىّ محمد
…
صلّى الإله على النبىّ وسلّما
إشراع أمّته الأسنّة لابنه
…
حتى تقطر من ظباتهم دما
حقا لأيقن أنّهم قد ضيّعوا
…
تلك القرابة واستحلّوا المحرما
هذا ما كان من أخبار محمد بن عبد الله بن حسن وأخيه إبراهيم رحمهما الله تعالى، ثم لم يتحرك بعدهم أحد من الطالبيين إلى أن ظهر الحسين بن على بن الحسن.