الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك في أسرع وقت «1» ، وبنوا فيها البنيان العظيم، وانتقل إليها الرجال والنساء من كل مكان، وسمّيت دار الهجرة وذلك في سنة سبع وسبعين ومائتين «2» .
فلم يبق بعد هذا أحد إلا خافهم، ولا بقى أحد يخافونه لقوّتهم وتمكّنهم في البلاد، وكان الذى أعانهم على ذلك تشاغل السلطان ببقيّة الخوارج وصاحب الزنج بالبصرة، وقصر يد السلطان وخراب العراق وركوب الأعراب واللصوص وتلف «3» الرجال وفساد البلدان وقلّة رغبة من يلى الأعمال من ذوى الاصلاح والأمانة من العمّال وأصحاب الحروب، فتمكّن هؤلاء الدعاة ومن تبعهم بهذا السبب، وبسطوا أيديهم في البلاد وعلت كلمتهم، فغلبوا على ذلك سنين
ذكر انتفاض الدعوة عن حالتها الأولى ومقتل عبدان وما كان من أمر زكرويه بعده
قال الشريف: وكان قرمط يكاتب من بسلمية من الطواغيت «4» فلما توفّى من كان في وقته وجلس ابنه من بعده كتب إلى حمدان قرمط كتابا، فلما ورد عليه الكتاب وقرأه أنكر ما فيه، وتبيّن فيه ومنه ألفاظا قد تغيّرت، وشيئا ليس هو على النظام الأوّل، فاستراب به
وفطن أنّ حادثة حدثت، فأمر قرمط ابن مليح- وكان داعيا من دعاته- أن يخرج فيتعرف الخبر، فامتنع عليه واعتذر، فأنفذ من أحضر عبدان الداعية من عمله، فلما حضر أنفذه ليتعرف ما حدث من هذا الأمر، ويكشف عن سبب تغيّره، فسار عبدان لذلك، فلما وصل عرّف بموت الطاغية الذى كانوا يكاتبونه، فاجتمع بابنه وسأله عن الحجّة ومن الإمام بعده، الذى يدعو إليه، فقال الابن: ومن الإمام؟
قال عبدان: محمد بن إسماعيل بن جعفر صاحب الزمان الذى كان أبوك يدعو إليه، وكان حجّته، فأنكر ذلك عليه وقال: محمد بن إسماعيل لا أصل له، ولم يكن الإمام غير أبى وهو من ولد ميمون بن ديصان، وأنا أقوم مقامه، فعرف عبدان القصة واستقصى الخبر وعلم أنّ محمد بن إسماعيل ليس له في هذا الأمر حقيقة، وإنما هو شىء يحتالون به على الناس، وأنّه ليس من ولد عقيل بن أبى طالب، فرجع عبدان إلى قرمط فعرّفه الخبر، فأمره قرمط أن يجمع الدعاة ويعرّفهم صورة الأمر وما تبين منه، ويقطع الدعوة، ففعل عبدان ذلك وقطعت الدعوة من ديارهم، ولم يمكنهم قطعها من غير ديارهم، لأنها كانت قد امتدّت في سائر الأقطار وامتدّ شرها، وفطعت الدعاة مكاتبة أصحابهم الذين بسلمية.
وكان رجل من أولاد القدّاح قد نفذ إلى الطالقان يبث الدعاة، ونزل بقرمط وهو بسواد الكوفة عند عبوره إلى الطالقان، وكانت الدعاة يكاتبونه، فلما انقطعت المكاتبة عن جميع أولاد القدّاح قطعت عن هذا الذى بالطالقان، فطال انتظاره، فشخص عن الطالقان ليقصد قرمط، وكان قرمط قد سار إلى كلواذى، فلما وصل
إلى كلواذى سأل عن قرمط، فعرف أنّه انتقل فلا يدرى أين مضى وما عرف لقرمط بعد ذلك خبر، ولا علمت وفاته ولا ما اتفق له، فقصد ابن القدّاح سواد الكوفة، فنزل على عبدان، فعتب عليه وعلى جميع الدعاة في انقطاع كتبهم عنه، فعرّفه عبدان أنهم قطعوا الدعوة وأنهم لا يعودون فيها وأن أباه كان قد غرّهم «1» وادّعى نسبه من عقيل بن أبى طالب كذبا ودعا إلى المهدى، فكنّا نعمل على ذلك، فلما تبينا أنّه لا أصل لذلك، وعرفا أن أباك من ولد ميمون بن ديصان وأنّه صاحب الأمر، تبنا إلى الله تعالى مما تحمّلناه، وحسبنا ما كفرنا أبوك فتريد أن تردّنا كفارا؟! انصرف عنا إلى موضعك.
قال: وكان عبدان قد تاب من هذه الدعوة حقيقة، فلما أيس منه صار إلى زكرويه بن مهرويه، فعرّفه خبر عبدان وما ردّ عليه، فلقيه زكرويه بكل ما يحب، وقدر أنّه ينصبه داعيا مقام أبيه، فيستقيم له أخذ الأموال وجمع الرجال، وواطأه على ذلك، وقال له:
إن هذا الأمر لا يتم مع عبدان، لأنه داعى البلد كلّه، والدعاة من قبله والناس من تحت يده، وأنه لا يجيبه إلا أهل دعوته خاصة. وشرعا في إعمال الحيلة على قتل عبدان، واتّفقا على ذلك، ثم وجّه زكرويه إلى رجل من بنى تميم بن كليب وأخ له كانا من أهل دعوته، وأحضر جماعة من قراباته وثقاته فأظهرهم على ابن اللعين، وعرّفهم أنّه ابن الحجّة، وأن الحجّة توفى وأن ابنه هذا يقوم مقامه، فأجلّوه وأعظموه
وقالوا له: مرنا بأمرك، فأمرهم بقتل عبدان، وعرّفهم أنه نافق وعصى وخرج عن الملّة، فساروا إليه من ليلتهم وبيّتوه فقتلوه، وكان زكرويه هذا من تحت يد عبدان، وعبدان هو الذى أقامه داعية فلما شاع في الناس أنّ زكرويه قتل عبدان طلبه الدعاة والقرامطة ليقتلوه فاستتر، وخالفه القوم بأسرهم إلا أهل دعوته، وخاف على نفسه، ولم يتم له أمره الذى دبّره، فقال لابن اللعين: قد ترى ما حدث، ولا آمن عليك وعلى نفسى، فارجع إلى بلدك ودعنى، فإنى أرجو أن يتغيّر الأمر، فأتمكّن من الناس وأدعوهم إليك، فإذا تمكّنت من ذلك أرسلت إليك لتصير «1» إلىّ، فانصرف إلى الطالقان واستتر زكرويه وتنقّل في القرى، وذلك في سنة ست وثمانين ومائتين، والقرامطة تطلبه وأصحاب عبدان يرصدونه، وكان قد اتّخذ مطمورة تحت الأرض على بابها صخرة، فإذا دخل قوم إلى القرية في طلبة قامت امرأة في الدار التى هو فيها إلى تنّور ينقل، فوضعته بقرب الصخرة ثم أشعلت النار، وأرت أنها تريد أن تخبز، فيخفى أمره على من يطلبه، فمكث كذلك سنة ست وسنة سبع وثمانين ومائتين فلما رأى انحراف أهل السواد عنه «2» إلا أهل دعوته وطال أمره، أنفذ ابنه الحسن في سنة ثمان وثمانين ومائتين إلى الشام، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا لأخبار أبى سعيد الجنّابى.