الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الحرب بين القرامطة وعسكر المعتضد بالله وانتصار القرامطة
قال: ولما كان من أمر أبى سعيد الجنّابى ما كان، اتصلت أخباره بالمعتضد بالله، وكتب إليه أحمد بن محمد بن يحيى الواثقى- وهو إذ ذاك يتولى البصرة- يعلمه خبر أبى سعيد، وأنّه اتّصل به أنّه يريد الهجوم على البصرة، فأمره المعتضد بالله أن يعمل على البصرة سورا فعمله، فكان مبلغ ما صرف عليه أربعة عشر ألف دينار، ثم كتب الواثقى إلى المعتضد يسأله المدد، فسيّر إليه ثلاثمائة رجل في سماريّات، وأنفذ المعتضد بالله العبّاس بن عمرو الغنوى في ألفى رجل، وأقطعه اليمامة والبحرين وأمره بمحاربة القرامطة- وكان يتولّى بلاد فارس- فسار إلى البصرة فوردها وذلك في سنة سبع «1» وثمانين ومائتين، وخرج منها نحو هجر وبينهما بضع عشرة ليلة في فلاة مقفرة، وتبعه من مطوّعة البصرة نحو من ثلاثمائة رجل من بنى ضبة وغيرهم، وعرف أبو سعيد خبرهم فسار نحوهم وقدّم أمامه مقدّمة، فلما عاينهم العبّاس بن عمرو خلف سواده وسار إليهم فيمن خفّ من أهل العسكر وأدرك أبو سعيد مقدّمته في باقى أصحابه، فتناوشوا القتال فكانت بينهم حملات، ثم حجز الليل بينهم فانصرفوا على السواء فلما جاء الليل انصرفت مطوّعة البصرة ومن معهم من بنى ضبّة، فكسر ذلك الجيش وفتّ في أعضادهم، وأصبح العباس بن عمرو فعبّى أصحابه للقتال والتقوا، فجعل بدرا غلام أحمد بن عيسى بن
الشيخ في نحو مائة من أصحابه على ميمنة أبى سعيد، فأوغل فيهم فلم يرجع منهم أحد، وحمل أبو سعيد على العبّاس وأصحابه فانهزموا، وأسر العبّاس بن عمرو ومعه «1» نحو من سبعمائة رجل من أصحابه، واحتوى القرامطة على عسكره، وقتل أبو سعيد من غديومة جميع الأسرى ثم أحرقهم، وترك العبّاس بن عمرو «2» ومضى المنهزمون فتاه كثير منهم في البرّ وتلف كثير منهم عطشا، وورد قوم منهم البصرة فارتاع الناس لهم، حتى أخذوا في الانتقال عن البصرة فمنعهم الواثقى.
قال: ولما كان بعد الوقعة بأيام أحضر أبو سعيد الجنّابى العبّاس ابن عمرو، وقال له: أتحب أن أطلقك؟ قال: نعم قال: على أن تبلغ عنى صاحبك ما أقول، قال: أفعل، قال: تقول الذى أنزل بجيشك ما أنزل بغيك، هذا بلد كان خارجا عن يدك غلبت عليه وأقمت به وكان فيّ من الفضل ما آخذ غيره، فما عرضت لما كان في يدك ولا هممت به، ولا أخفت لك سبيلا، ولا نلت أحدا من رعيّتك بسوء، فتوجيهك إلىّ الجيوش لأى سبب؟! اعلم إنّى لا أبرح عن هذا البلد ولا يوصل إليه وفيّ، وفي هذه العصابة التى معى روح، فاكفنى نفسك ولا تتعرّض لما ليس لك فيه فائدة، ولا تصل إلى مرادك منه إلا ببلوغ القلوب الحناجر، وأطلقه وأرسل معه من يردّه إلى مأمنه، فأوردوه بعض السواحل فصادف مركبا فركب فيه إلى الأبلة، ووصل إلى بغداد في شهر رمضان من السنة. قال: وقد كان الناس يعظّمون
أمر العباس ويكثرون ذكره ويسمّونه قائد الشهداء، فلما وصل إلى المعتضد بالله عاتبه على تركه الاستظهار والتحرّز وأنّبه، فاعتذر بهرب بنى ضبّة ومن كان معهم من المطوّعه وهرب أصحابه عنه، وأنّه لو أراد الهرب لأمكنه، فلم يبرح حتى رضى عنه وزال همّه، ثم سأله عن خبره فعرّفه جميعه، ووصف له أحوال القرامطة وما قاله أبو سعيد بعد أن استأذنه في ذلك فأذن له، فقال: صدق ما أخذ شيئا كان في أيدينا، وأطرق مفكرا ثم رفع رأسه، فقال: كذب عدوّ الله الكافر، المسلمون رعيّتى حيث كانوا من بلاد الله، والله لئن طال بى عمر لأشخصنّ بنفسى إلى البصرة وجميع غلمانى، ولأوجهنّ إليه جيشا كثيفا فإن هزمه وجّهت جيشا، فإن هزمه خرجت في جميع قوّادى وجيشى إليه، حتى يحكم الله بينى وبينه، وشغله بعد ذلك أمر وصيف غلام ابن أبى السّاج وأحفزه، فخرج في طلبه وهو عليل، وذلك في شوّال من هذه السنة، فأخذه وعاد إلى بغداد فدامت علّته واستمرّ وجعه ومات.
قال القاسم بن عبيد الله: ما زال أمير المؤمنين المعتضد بالله يذكر أمر أبى سعيد في مرضه ويتلهّف، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟
قال: حسرة في نفسى كنت أحب أن أبلغها قبل موتى، والله لقد كنت وضعت في نفسى أن أركب، ثم أخرج إلى باب البصرة متوجّها نحو البحرين، ثم لا ألقى أحدا أطول من سيفى إلا ضربت عنقه، وإنى أخاف أن يكون من هناك حوادث عظيمة.
قال: وأقبل أبو سعيد بعد اطلاق العبّاس على جمع الخيل وإعدا
السلاح واتخاذ الإبل وإصلاح الرجال ونسج الدروع والمغافر ونظم الجواشن وضرب السيوف والأسنّة واتخاذ الروايا والمزاد والقرب وتعليم الصبيان الفروسية، وطرد الأعراب عن قربه وسدّ الوجوه التى يتعرّف منها أمر بلده وأحواله بالرجال واصلاح أراضى المزارع وأصول النخل وعمارته، واصلاح مثل هذه الأمور وتفقدها، ونصب الأمناء على ذلك، وإقامة العرفاء على الرجال، والاحتياط على ذلك كلّه، حتى بلغ من تفقّده واحتياطه أنّ الشاة كانت تذبح فيسلّم اللحم إلى العرفاء، ليفرّقوه على من يرسم لهم، ويدفع الرأس والأكارع والبطن إلى العبيد والإماء، ويجزّ الصوف والشعر من الغنم ويفرّقه على من يغزله، ثم يدفع إلى من ينسجه عبيّا وأكسبة وغرائر وجوالقات ويفتل منه حبال، ويسلّم الجلد إلى الدبّاغ، فإذا خرج من الدبّاغ سلّم إلى خرّازى القرب والروايا والمزاد، وما كان من الجلود يصلح نعالا وخفافا عمل منه، ثم يجمع ذلك كلّه إلى خزائن، فكان ذلك دأبه لا يغفل عنه، ويوجّه في كلّ مديدة بخيل إلى ناحية البصرة، فتأخذ من وجدت فتصير بهم إليه فيستعبدهم، فزادت بلاده وعظمت هيبته فى صدور الناس.
قال الشريف أبو الحسين: وقد كان واقع بنى ضبّة عند طرده لهم عن قرب بلده، فأصاب منهم وأصابوا منه، ولم يتب عدوا عنه بعيدا، فلما شخص مع العبّاس بن عمرو منهم من شخص- فى وقت مسيره لقتاله- ازداد بذلك حنقا عليهم، فواقعهم وقائع مشهورة بالشدّة والعظم، ثم ظفر بهم فأخذ منهم خلقا، وبنى لهم حبسا عظيما وجمعهم فيه وسدّه عليهم، ومنعهم الطعام والشراب فصاحوا وضجّوا