الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجعل من ظفر منهم بشىء حمله إلى سفينته، فلما رآهم الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا منهم مقتله عظيمة «1» ، وكان جماعة من غلمان الموفّق قد قصدوا دار صاحب الزنج، فتشاغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضا، فأطمع ذلك الزنج فيهم فكشفوهم واتبعوا آثارهم، وثبت جماعة من أبطال الموفّق فردّوا الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم، ودامت الحرب إلى العصر فأمر الموفّق غلمانه بصدق الحملة عليهم ففعلوا، فانهزم صاحب الزنج ومن معه وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضا، فرأى الموفّق أن يصرف أصحابه فردّهم، وقد استنقذوا جمعا من النساء المأسورات فحملن إلى الموفقيّة، وكان أبو العبّاس قد أرسل في ذلك اليوم قائدا فأحرق بيادر كانت ذخيرة لصاحب الزنج وكان ذلك مما أضعفه وأضعف أصحابه. قال: ثم وصل إلى الموفّق كتاب لؤلؤ غلام أحمد بن طولون يستأذنه في القدوم عليه، فأمره بذلك وأخّر القتال إلى أن يحضر.
ذكر مقتل صاحب الزنج
قال: ولما ورد كتاب لؤلؤ على الموفّق يستأذنه في الحضور إليه أذن له، وأحبّ أن يؤخر القتال إلى أن يحضر فيشهده، وكان لؤلؤ قد خالف على مولاه أحمد بن طولون، وكان في يده حمص وقنّسرين وحلب وديار مضر من الجزيرة وصار إلى بالس فنهبها، وكاتب الموفّق فى المصير إليه واشترط شروطا فأجابه الموفّق إليها، وكان بالرقة
فسار إلى الموفّق فوصل إليه في ثالث شهر المحرّم سنة سبعين ومائتين فى جيش عظيم، فأكرمه الموفّق وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم وأحسن إليهم، وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم، وأضعف ما كان لهم.
ثم تقدّم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الزنج، وكان صاحب الزنج، لمّا غلب على نهر أبى الخصيب وقطعت القناطر والجسور التى عليه، أحدث سكرا في النهر من جانبيه، وجعل في وسط النهر بابا ضيّقا لتحتد جرية الماء فيه فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذّر خروجها منه في المدّ، فرأى الموفّق أنّ حربة لا يتهيّأ إلا بقلع هذا السكر، وحاول ذلك فاشتدت محاماة الزنج عليه، وجعلوا يزيدون كل يوم، فيه، فشرع الموفّق في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليتمرّنوا على قتالهم ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، وأمر لؤلؤا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر ففعل، فرأى الموفّق من شجاعتهم وإقدامهم ما سرّه، فأمر لؤلؤا بصرفهم إشفاقا عليهم ووصلهم وأحسن إليهم، وألحّ الموفّق على هذا السكر، فكان يحارب والفعلة يعملون في قلعه، واستأمن إليه جماعة، وكان قد بقى لصاحب الزنج وأصحابه أرضين بناحية النهر الغربى، لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان وبه جماعة يحفظونه، فسار إليهم أبو العباس وفرّق أصحابه من جهاتهم، وجعل كمناء، ثم أوقع بهم فانهزموا فما قصدوا جهة إلا خرج عليهم من يقاتلهم فيها، فقتلوا لم يسلم منهم إلا الشريد، وأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله، وقطع
القنطرتين، ولم يزل الموفّق يقاتلهم على سكرهم حتى تهيّأ له فيه ما أحب وحرقه.
فلما فرغ منه عزم على لقاء صاحب الزنج، فأمر باصلاح السفن والآلات للماء والطين، وتقدّم إلى ابنه أبى العبّاس أن يأتى الزنج من ناحية دار المهلبىّ، وفرّق العساكر من جميع جهاته، وأضاف المستأمنة إلى شبل، وأمر الناس ألّا يزحفوا حتى يحرّك علما أسود كان نصبه على دار الكرنبائى، وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين «1» لثلاث بقين من المحرّم، فعجّل بعض الناس وزحف نحوهم، فلقيه الزنج فقتلوا منهم وردّوهم إلى مواقفهم، ولم يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض، وأمر الموفّق بتحريك العلم الأسود والنفخ في البوق، فزحف الناس في البر والماء يتلو بعضهم بعضا، فلقيهم الزنج وقد حشدوا واجترأوا بما تهيّأ لهم، فلقيهم الجيش بنيّات صادقة وبصائر نافذة، واشتد القتال وقتل من الفريقين جمع كثير، فانهزم أصحاب صاحب الزنج وتبعهم أصحاب الموفّق، فقتل منهم ما لا يحصى وغرق منهم مثل ذلك، وحوى الموفّق المدينة بأسرها، فغنم أصحابه ما فيها واستنقذوا من كان بقى من الأسارى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال على بن أبان المهلبىّ وبأخويه الخليل ومحمد وأولادهما، فسيّروا إلى الموفقيّة، ومضى صاحب الزنج في أصحابه ومعه ابنه انكلاى وسليمان بن جامع وقوّاد من الزنج وغيرهم
هرابا، عامدين إلى موضع كان قد أعدّه ملجأ إذا غلب على مدينته، وذلك المكان على النهر المعروف بالسفيانى، وكان أصحاب الموفّق قد اشتغلوا بالنهب والإحراق، وتقدّم أصحاب الموفّق في الشذا نحو نهر السفيانى، وانتهى الموفّق ومن معه إلى عسكر صاحب الزنج وهم منهزمون، واتبعهم لؤلؤ في أصحابه حتى عبروا النهر فاقتحم «1» لؤلؤ النهر بفرسه واتبعه أصحابه حتى انتهى إلى النهر «2» المعروف بالقريرى «3» فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه فهزموهم حتى عبروا نهر المساوان «4» ولؤلؤ في أثرهم، فاعتصموا بجبل وراءه، وانفرد لؤلؤ وأصحابه باتباعهم إلى هذا المكان إلى آخر النهار، فأمر الموفّق بالانصراف فعاد مشكورا محمود الفعل، فحمله الموفّق معه وجدّد له البرّ والكرامة ورفع منزلته، ورجع الموفّق فلم ير أحدا من أصحابه بمدينة الزنج، وكانوا قد انصرفوا إلى الموفقيّة بما حووا في سفنهم، فرجع الموفّق إلى مدينته واستبشر الناس بالفتح، وغضب الموفّق على أصحابه لمخالفتهم أمره وتركهم الوقوف حيث أمرهم، فجمعهم ووبّخهم على ذلك وأغلظ لهم، فاعتذروا بما ظنّوه من انصرافه، وأنّهم لم يعلموا بمسيره ولو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ثم تعاقدوا وتحالفوا على ألّا ينصرف منهم أحد إذا توجّهوا نحو صاحب الزنج حتى يظفروا، فإن أعياهم أقاموا حتى يحكم الله بينهم وبينه، وسألوا الموفّق أن يردّ السفن التى يعبرون فيها إلى
صاحب الزنج، لينقطع الناس عن الرجوع فشكرهم وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهّب. وأقام الموفّق بعد ذلك إلى يوم الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه، وأمر الناس بالمسير إلى حرب الزنج بكرة السبت، وطاف عليهم بنفسه يعرّف كل قائد مركزه والمكان الذى يقصده.
وغدا الموفّق يوم السبت لليلتين «1» خلتا من صفر سنة سبعين وعبر الناس، وأمر بردّ السفن فردّت، وسار يقدمهم إلى المكان الذى قدّر أن يلقاهم فيه، وكان صاحب الزنج وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم، وأمّلوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفّق المتسرّعين من غلمانه من الفرسان والرجّالة قد سبقوا الجيش، فأوقعوا بصاحب الزنج وأصحابه وهزموهم بها، وتفرّقوا لا يلوى بعضهم على بعض، وتبعهم أصحاب الموفّق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، فانقطع صاحب الزنج في جماعة من حماة أصحابه منهم المهلبىّ، وفارقه ابنه انكلاى وسليمان بن جامع، فقصد كل فريق منهم جمعا كثيفا من الجيش، وكان أبو العبّاس قد تقدّم فلقى المنهزمين في الموضع المعروف بعسكر ريحان، فوضع أصحابه فيهم السلاح، ولقيهم طائفة أخرى فأوقعوا بهم وقتلوا منهم جماعة، وأسروا سليمان بن جامع فأتوا به الموفّق من غير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسره، وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمدانى- وكان أحد أمراء جيوشه- فأمر الموفّق بالاستيثاق منهما، ثم إنّ الزنج الذين انفردوا مع صاحبهم حملوا على الناس
حملة أزالوهم عن مواقفهم ففتروا، فجدّ الموفّق في طلبهم وأمعن، فتبعه أصحابه وانتهى إلى آخر نهر أبى الخصيب، فلقيه البشير بقتل صاحب الزنج، وأتاه بشير آخر ومعه كفّ ذكر أنّها كفّه، ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس صاحب الزنج، فعرض الموفّق الرأس على جماعة من المستأمنة فعرفوه، فخرّ لله ساجدا وسجد معه الناس، وأمر برفع الرأس على قناة فعرفه الناس.
قال: ولما أحيط بصاحب الزنج كان معه المهلبى وحده، فولّى عنه هاربا وقصد نهر فألقى نفسه فيه، وكان انكلاى قد سار نحو الدينارىّ ورجع الموفّق والرأس بين يديه وسليمان بن جامع، فأتى مدينته وأتاه من الزنج عالم عظيم يطلبون الأمان فأمنهم، وانتهى إليه خبر انكلاى والمهلبىّ ومكانهما ومن معهما من مقدّمى الزنج، فبث أصحابه في طلبهم وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا ألّا ملجأ أعطوا بأيديهم فظفر بهم وبمن معهم وكانوا زهاء خمسة آلاف، فأمر بالاستيثاق من المهلبىّ وانكلاى، وكان ممّن هرب قرطاس الرومىّ الذى رمى الموفّق بالسهم فى صدره، فانتهى إلى رامهرمز فعرفه رجل فدل عليه عامل البلد، فأخذه وسيّره إلى الموفّق فقتله ابنه أبو العبّاس، ثم استأمن درمويه الزنجى إلى أبى أحمد الموفّق، وكان درمويه هذا من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان صاحب الزنج قد وجّهه قبل هلاكه بمدّة إلى موضع كثير الأدغال والشجر والآجام متصل بالبطيحة، وكان هو ومن معه يقطعون الطريق هناك على السابلة في زواريق خفاف، فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الضيّقة واعتصموا بالأدغال، وإذا تعذّر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجأوا إلى الأمكنة الوسيعة، ويغيرون على قرى البطيحة
ويقطعون الطريق، فظفروا بجماعة من عسكر الموفّق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم، فقتلوا الرجال وأخذوا النساء، فسألهنّ درمويه عن الخبر فأخبرنه بقتل صاحب الزنج وأسر أصحابه وقوّاده، وأن كثيرا منهم قد صار إلى الموفّق بالأمان فأحسن إليهم، فسقط في يده ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان والصفح عن جرمه، فأرسل إلى أبى أحمد الموفّق يطلب الأمان فأجابه إلى ذلك وأمّنه، فخرج هو ومن معه حتى وافى عسكر الموفّق فأحسن إليهم وأمّنهم، فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال والأمتعة، وردّها إلى أربابها ردا ظاهرا فعلم بذلك حسن نيّته فزاد الموفّق في الإحسان إليه، وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحى التى دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم، فسارع الناس إلى ذلك.
وأقام الموفّق بالمدينة الموفقيّة ليأمن الناس بمقامه، وولّى البصرة والأبلّة وكور دجلة رجلا من قواده قد حمد مذهبه وعلم حسن سيرته يقال له العبّاس بن تركس، وأمره بالمقام بالبصرة، وولى قضاء البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد، وقدم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس صاحب الزنج ليراه الناس، فبلغها لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
قال: وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيّامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيّام.
انقضت أخبار صاحب الزنج فلنذكر أخبار القرامطة