الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج وهى المدينة التى سماها المختارة
قال: ولما أنفذ الموفّق الكتاب إلى صاحب الزنج ولم يرد جوابه، عرض عسكره وأصلح آلاته ورتّب قوّاده، ثم سار هو وابنه أبو العبّاس فى العشرين من شهر رجب سنة سبع وستين إلى مدينة صاحب الزنج، فلما أشرف عليها وتأمّلها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق ووعور الطريق إليها وما أعدّ من المجانيق والعرّادات والقسى وسائر الآلات على سورها مما لم ير مثله ممّن تقدّم من منازعى السلطان، ورأى من كثرة عدد المقاتله ما استعظمه، فلما عاين الزنج أصحاب الموفّق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجّت الأرض، فأمر الموفّق ابنه بالتقدّم إلى سور المدينة ورمى من عليه بالسهام، فتقدّم حتى ألصق شذاواته بقصر صاحب الزنج، فكثر الزنج وأصحابهم على أبى العبّاس، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم، ورمى عوامّهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أو حجر، وثبت أبو العبّاس، فرأى صاحب الزنج من ثباته وثبات أصحابه ما لا رأى مثله من أحد ممّن حاربهم، ثم أمرهم الموفّق بالرجوع ففعلوا، واستأمن إلى الموفّق مقاتلة من سمارتين فأمّنهم، وخلع على من فيها من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم، وأمر بادنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم، فكان ذلك من أنجع المكائد، فلما رأوهم الباقون رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه وابتدروا إليه، فصار إلى الموفّق في ذلك اليوم عدد كثير من أصحاب السميريّات فعمّهم بالخلع والصلات، فلما رأى صاحب
الزنج ذلك أمر بردّ أصحاب السميريّات إلى نهر أبى الخصيب، ووكل بفوّهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بهبوذ- وهو من أشرّ قوّاده، أن يخرج في الشذاوات، فخرج فبرز إليه أبو العبّاس في شذاواته وقاتله، واشتدت الحرب فانهزم بهبوذ إلى فناء قصر صاحب الزنج، وأصابته طعنتان وجرح بالسهام، فولج نهر أبى الخصيب وقد أشفى على الموت، وقتل ممّن كان معه قائد ذو بأس- يقال له عميرة، وظفر أبو العبّاس بشذاة فقتل أهلها، ورجع هو ومن معه سالمين، واستأمن إلى أبى العباس أهل شذاة فأمّنهم وأحسن إليهم وخلع عليهم، ورجع الموفّق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك، واستأمن إليه عند منصرفه خلق كثير، فأمّنهم وخلع عليهم ووصلهم وأثبت أسماءهم مع أبى العبّاس، وأقام في عسكره يومين ثم نقل عسكره لست ليال بقين من شهر رجب إلى نهر جطّى فنزله، وقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل.
ثم ركب في منتصف شعبان في الخيل والرّجل وأعدّ الشذاوات والسميريّات، وكان معه من الجند والمطّوعة زهاء خمسين ألفا، وكان مع صاحب الزنج أكثر من ثلاثمائة ألف انسان، كلهم ممّن يقاتل بسيف أو رمح أو مقلاع أو منجنيق، وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم وهم النظّارة، والنساء تشركهم في ذلك، فأقام أبو أحمد ذلك اليوم، ونودى بالأمان للناس كافّة إلا صاحب الزنج، وكتب الأمان فى رقاع ورميت في السهام، ووعد فيها الإحسان، فمالت قلوب أصحاب صاحب الزنج فاستأمن من ذلك اليوم خلق كثير، فخلع عليهم ووصلهم، ولم يكن ذلك اليوم حرب.
ثم رحل من نهر جطّى من الغد فعسكر قرب مدينة صاحب الزنج، ورتّب قوّاده وأجناده وعيّن لكل طائفة موضعا يحافظون عليه ويضبطونه، وكتب الموفّق إلى البلاد في عمل السميريّات والشذاوات والزواريق والاكثار منها، ليضبط بها الأنهار لتنقطع الميرة عن صاحب الزنج وأسّس في منزلته مدينة سمّاها الموفّقيّة، وكتب إلى عمّاله في النواحى بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته، وأمرهم بانفاذ من يصلح للاثبات في الديوان، وأقام ينتظر ذلك شهرا، فوردت عليه المير متتابعة، وجهّز التجار صنوف التجارات إلى الموفّقيّة، واتخذت فيها الأسواق، ووردتها مراكب البحر، وبنى الموفّق بها المسجد الجامع وأمر الناس بالصلاة فيه، فجمعت هذه المدينة من المرافق وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة، وحملت الأموال وأدرّت الأرزاق.
قال «1» : وعبرت طائفة من الزنج فنهبوا أطراف عسكر نصير وأوقعوا به، فأمر الموفّق نصيرا بجمع عسكره وضبطهم، وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بالمسير إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة، فقاتلهم فقتل منهم خلقا كثيرا وغنم ما كان معهم، فصار إليه طائفة منهم بالأمان، فخلع عليهم وأمّنهم ووصلهم، وأقام أبو أحمد يكايد صاحب الزنج، يبذل الأمان لمن صار إليه، ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم، وكانت قافلة قد أتت من الأهواز فأسرى إليها
بهبوذ في سميريات، فأخذها فعظم ذلك على الموفّق، وغرم لأهلها ما أخذ منهم، وأمر بترتيب الشذاوات على مخارج الأنهار، وقلّد ابنه أبا العبّاس الشذاوات وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذى هم به.
قال: وفي شهر رمضان من السنة عبرت طائفة من الزنج يريدون الايقاع بنصير، فردّهم الله خائبين، وظفروا بصندل الزنجى، وكان يكشف رؤوس المسلمات ويقلّبهن تقليب الإماء، فلما أتى به أمر الموفّق أن يرمى بالسهام ثم قتله، واستأمن إلى الموفّق من الزنج خلق كثير، فبلغت عدة من استأمن إليه إلى آخر شهر رمضان خمسين آلفا؛ وفي شوّال انتخب صاحب الزنج من عسكره خمسة آلاف من الشجعان والقوّاد، وأمر على بن أبان المهلبىّ بالعبور لكبس عسكر الموفّق، وكان فيهم أكثر من مائتى قائد، فعبروا ليلا واختفوا في آخر النخل، وأمرهم: أنّه إذا ظهر أصحابهم وقاتلوا الموفّق من بين يديه ظهروا وحملوا على عسكره، وهم غارون مشاغيل بحرب من أمامهم، فاستأمن منهم انسان من الملّاحين فأخبر الموفّق، فسيّر ابنه أبا العبّاس لقتالهم وضبط الطرق التى يسلكونها، فقاتلوا قتالا شديدا، وأسر أكثرهم، وغرق منهم خلق كثير، وقتل بعضهم ونجا بعضهم، فأمر أبو العبّاس أن تحمل الأسرى والرؤوس في السميريات، ويعبر بهم على مدينة صاحب الزنج، ففعلوا ذلك، وبلغ الموفّق أنّ صاحب الزنج قال لأصحابه: إن الأسرى والرؤوس من المستأمنة، فأمر بالقاء الرؤوس إليهم في منجنيق، فلما رأوها عرفوها فأظهروا الجزع والبكاء، وظهر لهم كذب صاحبهم.
وفيها أمر صاحب الزنج باتخاذ شذاوات فعملت له، فكانت
خمسين شذاة فقسمها بين ثلاثة من قوّاده، وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفّق، وكانت شذاوات الموفّق يومئذ قليلة، لأنّه لم يصل إليه ما أمر بعمله، والتى كانت عنده منها فرّقها على أفواه الأنهار، ليقطع الميرة عن صاحب الزنج، فخافهم أصحاب الموفّق فورد عليهم الشذاوات التى كان الموفّق أمر بعملها، فسيّر ابنه أبا العباس يوردها خوفا عليها من الزنج، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذاواتهم، فقصد غلام لأبى العبّاس منعهم وقاتلهم، فانكشفوا بين يديه وتبعهم حتى أدخلهم نهر أبى الخصيب، وانقطع عن أصحابه فعطفوا عليه فأخذوه ومن معه بعد حرب شديدة، فقتلوا وسلمت الشذاوات التى مع أبى العبّاس، وأصلحها ورتّب فيها من يقاتل، ثم أقبلت شذاوات صاحب الزنج على عادتها، فخرج إليهم أبو العبّاس في أصحابه، فقاتلهم فهزمهم وظفر منهم بعدّة شذاوات، فقتل منهم من ظفر به فيها، فمنع صاحب الزنج أصحابه من الخروج عن فناء قصره، وقطع أبو العبّاس الميرة عن الزنج فاشتد جزع الزنج، وطلب جماعة من وجوه أصحاب صاحب الزنج الأمان فأمّنوا؛ وكان منهم محمد ابن الحارث العمّى «1» ، وكان إليه ضبط السور مما يلى عسكر الموفق، فخرج ليلا فأمّنه الموفّق ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه، وحمله على عدّة دواب بآلاتها وحليتها، وأراد اخراج زوجته فلم يقدر، وأخذها صاحب الزنج فباعها؛ ومنهم أحمد البرذعى «2» ،