الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بجهده، ليكون له الفضل في رتبته، وكانت المرأة تجمع إليه كسبها من مغزلها، والصبى أجر نطارته الطير، فلم يملك أحد منهم إلا سيفه وسلاحه، فلما استقام له ذلك كلّه وصبوا إليه وعملوا به، أمر الدعاة أن يجمعوا النساء ليلة معروفة ويختلطن بالرجال، وقال: إنّ ذلك من صحة الودّ والألفة بينهم فربما بذل الرجل لأخيه امرأته متى أحبّ فلما تمكّن من أمورهم ووثق بطاعتهم وتبيّن مقدار عقولهم أخذ في تدريجهم إلى الضلالة، وأتاهم بحجج من مذهب الثنويّة فسلكوا معه في ذلك، حتى خلعهم من الشريعة ونقض عليهم ما كان يأمرهم به في مبدأ أمرهم من الخشوع والورع والتقى، وأباح لهم الأموال والفروج والغنى عن الصوم والصلاة والفرائض، وأنّ ذلك كلّه موضوع عنهم وأن أموال المخالفين ودماءهم حلال لهم، وأنّ معرفة صاحب الحق الذى يدعو إليه يغنى عن كل شىء، ولا يخاف معه إثم ولا عذاب.
ذكر دعوة القرامطة وعهدهم الذين كانوا يأخذونه على من يغرونه، ويستميلونه الى مذهبهم، وكيف ينقلونه من مرتبة الى أخرى، حتى ينسلخ من الدين ويخلع ربقة الاسلام من عنقه
[ذكر صفة الدعوة الأولى]
قال الشريف أبو الحسين محمد بن على: أول الدعوة بعد عمل الداعى بالرزق وقوة إجابة المدعو من سائر الأمم أن يسلك به في السؤال عن المشكلات، مسلك الملحدين والشكاك، ويكثر السؤال عن تأويل الآيات ومعانى الأمور الشرعيات، وشىء من الطبائع ووجوه القول في الأمور التى تكثر فيها الشّبه، ولا يصل إليها إلا العالم المبرّز ومن
جرى مجراه، فإن اتّفق له مجيب عارف ممارس جدل سلّم إليه الدّاعى وعظّمه وكرّمه وحشمه وصوّب قوله، وداخله بما يحب من علم شريعته التى يومى إليها، وكل ذلك ليقطع كلامه لئلا يتبيّن ما هو عليه من الحيلة والمكر، وما يدخل به على الناس من أمر الدعوة، وإن اتّفق مغرور مغفّل غليظ الحواسّ ألقى إليه ما يشغل به قلبه، مثل قوله: إنّ الدين لمكتوم وإنّ الأكثر له لمنكرون وبه جاهلون، ولو علمت هذه الأمّة ما خصّ الله به الأئمة من العلم لم تختلف، ويوهم من سمع كلامه أنّ عنده علوما خفيّة لم تصل إليهم، فتطلع نفس المستمع إلى معرفة بيان ما قال، وربما وصل أمره مع من يجالسه- واحدا كان أو جماعة- بشىء من معانى القرآن، وذكر شرائع الدين وتأويل الآيات وتنزيلها وكلام لا يشك المسلم العارف في حقيقته، ويوهم المستمعين منه أنّه قد ظفر بعلم، لو صادف له مستمعا لكان ناجيا منتفعا، وقرّر عندهم أنّ الآفة التى نزلت بالأمة وحيّرت في الديانة وشتّتت الكلمة وأورثت الأهواء المضلّة ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقائقها، ويحفظون عليهم معانيها وبواطنها، وأنّهم لما عدلوا عنهم ونظروا من تلقاء عقولهم، واتباعهم لمّا حسن في رأيهم وسمعوه من أسلافهم وغلاتهم «1» - اتباع الملوك في طلب الدنيا- وحاملى الغنى ومسمعى الإثم وأجناد الظلمة وأعوان الفسقة الطالبين العاجلة، والمجتهدين في الرياسة على الضعفاء، ومن يكايد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته وغيّر كتابه وبدّل سنّته، وقتل عترته
وخالف دعوته وأفسد شريعته وسلك بالناس غير طريقته، وعاند الخلفاء من بعده، وخلط بين حقّه وباطل غيره فتحيّر وحيّر من قبل منه، وصار الناس إلى أنواع الضلالات به وبأتباعه، وقالوا لهم حينئذ- كالنصحاء الحكماء-: إنّ دين محمد لم يأت بالتحلى ولا بالتمرّى، ولا بأمانىّ الرجال ولا شهوات الخلق، ولا بما خفّ على الألسنة وعرفته دهماء العامّة، وإنما الدين صعب مستصعب، أمر مستثقل وعلم خفى غامض، سيّره الله في حجبه وعظّم شأنه عن ابتذال الأشرار له، فهو سرّ الله عز وجل المكتوم وأمره المستور، الذى لا يطيق حمله ولا ينهض بأعبائه وثقله إلا ملك مقرّب أو نبىّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، فى أمثال هذا الكلام، ويموّه على من لا يعلم بأنّهم لو أظهروا ما عندهم من العلم لأنكره من يسمعه، وتعجّب منه وكفّر أهله، وهذه مقدّمة يجعلونها في نفوس المخدوعين، ليواطئوهم على ألّا ينكروا ما يسمعونه منهم ولا يدفعوه، فيجعلوا ذلك تأنيسا وتأسيسا لينخلع من الشرائع وترتيب أصولها والحرص على طلبها، وربما قالوا لهم شيئا يموّهون به أن له تفسيرا، وإنما هو تقليد فى الديانة.
فمن مسائلهم: ما معنى رمى الجمار؟ والعدو بين الصفا والمروة؟
ولم قضت الحائض الصيام ولم تقض الصلاة؟ وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق لشىء طاهر منه البشر، ولا يغتسل من البول النجس الكثير القذر، وما بال الله تعالى خلق الدنيا في ستة «1» أيام؟ أعجز
عن خلقها في ساعة واحدة؟ وما معنى الصراط المضروب في القرآن مثلا؟ والكاتبين «1» الحافظين؟ وما لنا لا نراهما؟ أيخاف ربنا أن نكابره ونجاحده فأذكى «2» العيون وأقام علينا الشهود؟ وقيّد ذلك بالقرطاس والكتابة؟! وما تبديل الأرض «3» غير الأرض؟ وما عذاب جهنّم؟ وكيف يصحّ تبديل جلد «4» مذنب بجلد لم يذنب يعذب؟! وما معنى: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية «5» ؟
وما إبليس؟ وما ذكرته الشياطين؟ وما وصفوا به، ومقدار قدرهم؟
وما يأجوج ومأجوج؟ وهاروت وماروت؟ وما سبعة أبواب النار؟
وما ثمانية أبواب الجنّة؟ وما شجرة الزقّوم النابتة في الجحيم؟ وما دابّة الأرض؟ ورؤوس الشياطين؟ والشجرة الملعونة في القرآن؟ والتين والزيتون؟ وما الخنّس؟ وما الكنّس؟ وما معنى الم، والمص؟ وما معنى كهيعص؟ وما معنى حم عسق؟ وأمثال هذا من الكلام، ولم جعلت السماوات سبعا والأرضون سبعا؟ والمثانى من القرآن سبع آيات؟ ولم فجّرت العيون اثنتى عشرة عينا؟ ولم جعلت الشهور اثنى عشر شهرا؟ وأمثال هذا من الكلام والأمور، ممّا يوهمون أنّ فيه معانى غامضة وعلوما جليلة.
وقالوا للمغرورين: ما يعمل معكم الكتاب والسنّة ومعانى الفرائض
اللازمة؟ وأين أرواحكم؟ وكيف صورها؟ وأين مستقرّها؟ وما أوّل أمرها؟ والإنسان ما هو؟ وما حقيقته؟ وما فرق بين حياته وحياة البهائم؟ وفرق ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات؟ وما بانت به حياة الحشرات من حياة النبات؟ وما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت حوّاء من ضلع آدم» ؟ وما معنى قول الفلاسفة:
الإنسان هو العالم الصغير؟ ولم جعلت قامة الإنسان منتصبة دون الحيوان؟ ولم جعل في أربع أصابع من يدية ثلاثة شقوق وفي الإبهام شقّان؟ ولم جعل في وجهه سبعة ثقب وفي سائر بدنه ثقبان؟ ولم جعل في ظهره اثنتا عشرة عقدة وفي عنقه سبع؟ ولم جعل رأسه في صورة ميم ويداه حاء وبطنه ميما ورجلاه دالا حتى صار لذلك كتابا مرسوما يترجم عن محمد؟ ولم جعلت أعداد عظامكم كذا وأعداد أسنانكم كذا؟ ولم صارت الرؤساء من أعضائكم بكذا وكذا، وسألوا عن التشريح والقول في العروق وفي الأعضاء ووجوه منافع الأعضاء، ويقولون لهم: ألا تفكّرون في حالكم وتعتبرون؟ وتعلمون أنّ الذى خلقكم حكيم غير مجازف، وأنّه فعل جميع ذلك بحكمة، وله في ذلك أغراض باطنة خفيّة، حتى جمع ما جمعه وفرّق ما فرّقه، وكيف الإعراض عن هذه الأمور، وأنتم تسمعون قول الله عز وجل:(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)
«1» وقوله: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ)
«2» ويقول: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
«3» ويقول
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)
«1» فأى شىء رآه الكفّار في أنفسهم وفي الآفاق فعرفوا أنّه الحق؟ وأى حق عرفه من جحد الديانة؟ أولا يدلّكم هذا على أنّ الله عز وجل أراد أن يدلّكم على بواطن الأمور الخفيّة وأمور في باطنه، و [لو]«2» عرفتموه لزالت عنكم كل حيرة وشبهة، ووقعت لكم المعارف السنيّة، أولا ترون أنّكم جهلتم أنفسكم؟ التى من جهلها كان حريا بأن لا يعلم غيرها، أوليس الله تعالى يقول (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)
«3» ، وأمثال هذه الأمور مما يسألون عنه ويعرضون به من تأويل القرآن وتفسير ألفاظ كثيرة من ألفاظ السنن والأحكام، والجواب معان يفسّر بها وضع الشرائع السمعيات فيما رفع منها وما «4» نصب، وكثير من أبواب التعديل والتجويز «5» مما يأتى في المقالة الثانية إن شاء الله تعالى، فإن أوجب ذلك للمسئول عنه شكا وحيرة واضطرابا وتعلّقت نفسه بالجواب عنه، وتشوّق إلى معرقته فسألهم عنه عاملوه بمثل ما يفعل به صاحب الفأل والزرّاق والقصّاص على العوامّ عند امتلاء صدورهم بما يفخرون به أولا عندهم من أحوال قد عرفوها من أحوالهم، فهم إلى معرفتها أكثر الحاجة وعلقوا بمعرفتها أنفسهم، وعند بلوغ القصاص إلى ما يبلغون إليه يقطعون الحديث، لتعلّق قلوب المستمعين بما يكون
بعده، وهذه صفة الدعاة وحالهم، يقدمون على الكلام والمسائل ثم يقطعون فتتعلق أنفس المغرورين، بما قد تأخّر من القول الذى قدّموا له مقدّمة، فإذا خاطبهم على علم معرفته تأويل البيان قالوا له: لا تعجل، فإنّ دين الله أجلّ وأكبر من أن يبذل لغير أهله، ويجعل عرضا للّعب وما جانسه، ويقولون: قد جرت سنّة الله جلّ وعزّ في عباده عند شرع من نصبه من النبيّين أخذ الميثاق، كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)
«1» وقال تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)
«2» وقال جلّ ذكره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
«3» وقال (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)
«4» وقال تعالى (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ
…
)
«5» فى أمثال هذا خبّر الله عز وجل فيه أنّه لم يملك حقّه إلا لمن أخذ عهده، فأعطنا صفقة يمينك بالتوكيد من أيمانك وعقودك، ألّا تفشى لنا سرا ولا تظاهر علينا أحدا ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكلّمنا إلا نصحا ولا توال علينا عدوا، فى أمثال لهذا، وإنّما غرضهم في ذلك كلّه أمور: منها أن يستدلّوا بها بظاهر