الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاتلهم من وجوه عدّة خفّت وطأتهم على من يقصد هذا الموضع، ففرّق أصحابه على جهات أصحاب الزنج، وصار هو في جهة النهر الغربى وقاتل من فيه وصدقهم أصحابه القتال فهزموهم، فولّوا وتركوا حصنهم في أيدى أصحاب الموفّق، فهدموه وأسروا وقتلوا وخلّصوا من هذا الحصن خلقا كثيرا من النساء والصبيان، ورجع الموفّق إلى عسكره بما أراد.
ذكر استيلاء الموفّق على مدينة صاحب الزنج الغربية
قال «1» : لما هدم الموفّق سور دار صاحب الزنج أمر باصلاح المسالك، ليتسع على المقاتلة الطريق إلى الحرب، ثم رأى قلع الجسر الأوّل الذى على نهر أبى الخصيب، لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضا، وأمر بسفينة كبيرة أن تملأ قصبا ويجعل فيه النفط، ويوضع فى وسطها دقل طويل يمنعها من مجاوزة الجسر إذا التصقت به، ثم أرسلها عند غفلة الزنج وقوة المدّ، فوافت الجسر وعلم بها الزنج فأتوها وطمّوها بالحجارة والتراب، ونزل بعضهم فخرقها فغرقت، وكان قد احترق من الجسر شىء يسير فأطفأه الزنج، فاهتم الموفّق بالجسر فندب أصحابه وأعدّ النفّاطين والفعلة والفؤوس، وأمرهم بقصده من غربىّ النهر وشرقيّة، وركب الموفّق في أصحابه وقصد فوّهة نهر أبى الخصيب، وذلك في منتصف شوّال سنة تسع وستين فسبق الطائفة التى في غرب النهر، فهزم الموكّلين على الجسر وهم سليمان بن جامع
وانكلاى ابن صاحب الزنج وأحرقوه، وأتى بعد ذلك الطائفة الأخرى ففعلوا بالجانب الشرقى «1» مثل ذلك، فأحرق الجسر وتجاوزه إلى جانب حظيرة كان يعمل فيها سميريّات صاحب الزنج وآلاته، فاحترق ذلك كله إلا شيئا يسيرا من الشذاوات والسميريّات كانت فى النهر، وقصدوا سجنا للزنج فقاتلهم الزنج ساعة من النهار، ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليه فأطلقوا من فيه، وأحرقوا ما مرّوا به إلى دار مصلح- وهو من قدماء أصحابه- فدخلوها فنهبوها وما فيها وسبوا نساءه وولده واستنقذوا خلقا كثيرا، وعاد الموفّق وأصحابه بالظفر والسلامة، وانحاز صاحب الزنج واصحابه من هذا الجانب إلى الجانب «2» الشرقى من نهر أبى الخصيب، واستولى الموفّق على الجانب الغربى غير طريق يسيرة على الجسر الثانى، فأصلحوا الطرق فزاد ذلك في رعب الزنج، فأجمع كثير من القوّاد- الذين كان صاحب الزنج يرى أنّهم لا يفارقونه- على طلب الأمان فطلبوه، فبذل لهم فخرجوا أرسالا فأحسن الموفّق إليهم وألحقهم بأمثالهم، وأحب الموفّق أن يتمرّن أصحابه على سلوك النهر ليحرق الجسر الثانى فكان يأمرهم بادخال الشذا فيه واحراق ما على جانبه من المنازل، فهرب إليه في بعض الأيام قائد للزنج ومعه قاض كان لهم ففتّ ذلك فى أعضادهم، ووكّل صاحب الزنج بالجسر الثانى من يحفظه وشحنه بالرجال، فأمر الموفّق بعض أصحابه فأحرق ما عند الجسر من سفن فزاد ذلك في احتياط صاحب الزنج وحراسته للجسر، لئلا يحرق
ويستولى الموفّق على الجانب الغربىّ، وكان قد تأخّر من أصحابه جمع فى منازلهم المقاربة للجسر الثانى، وكان أصحاب الموفّق يأتونهم ويقفون على الطريق الخفيّة، فلما عرفوا ذلك عزموا على احراق الجسر الثانى، فأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس والقوّاد أن يتجهّزوا لذلك، وأن يأتوا من عدّة جهات ليوافوا الجسر، وأعدّ معهم الفؤوس والنفط والآلات ودخل هو في الشذا ومعه أنجاد أصحابه، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعا واشتد القتال، وكان في الجانب الغربى بازاء أبى العباس ومن معه انكلاى ابن صاحب الزنج وسليمان بن جامع، وفي الجانب الشرقى بازاء راشد مولى الموفّق ومن معه صاحب الزنج والمهلبى في باقى الجيش، فدامت الحرب مقدار ثلاث ساعات ثم انهزم الزنج لا يلوون على شىء، وأخذت السوق منهم، ووصل أصحاب الشذا النهر ودانوا من الجسر، وقاتلوا من يحميه بالسهام وأضرموه نارا، وانهزم انكلاى وسليمان وقد أثخنا بالجراح، فوافيا الجسر والنار فيه فحالت بينهما وبين العبور، فألقيا أنفسهما ومن معهما في النهر فغرق منهم خلق كثير، وأفلت انكلاى وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك، وقطع الجسر وأحرق وتفرّق جيش الموفّق في جانبى المدينة، وأحرق من الدور والقصور والأسواق شيئا كثيرا واستنقذ من النساء والصبيان ما لا يحصى ودخلوا الدار التى كان صاحب الزنج سكنها بعد إحراق قصره فنهبوا ما كان فيها وأحرقوها، وهرب هو واستنقذ في هذا اليوم نسوة من العلويّات، كنّ محبسات في موضع قريب من داره فأحسن الموفّق إليهن، وفتح سجنا كان له وأخرج خلقا كثيرا ففكّ عنهم الحديد، وأخرج ذلك اليوم كلّ ما كان بنهر أتى الخصيب من شذا ومراكب بحرية وسفن كبار
وصغار وحرّاقات وغير ذلك من أصناف السفن إلى دجلة، وأباحها أصحابه بما فيها من السلب، وكانت قيمته عظيمة، وأرسل انكلاى ابنه يطلب الأمان، وسأل أشياء فأجابه الموفّق إليها، فعلم أبوه بذلك فردّه عمّا عزم عليه، فعاد إلى الحرب ومباشرة القتال، ووجّه سليمان بن موسى الشعرانى- وهو أحد رؤساء صاحب الزنج- يطلب الأمان، فلم يجبه الموفّق إلى ذلك لما تقدّم منه من سفك الدماء والفساد، ثم اتصل به أنّ جماعة من أصحاب صاحب الزنج قد استوحشوا لذلك فأجابه وأرسل الشذا إلى موضع ذكره فخرج هو وأخوه وأهله وجماعة من قوّاده، فأرسل صاحبهم من يمنعهم من ذلك فقاتلهم ووصل إلى الموفّق فزاد في الإحسان إليه وخلع عليه وعلى من معه، وأمر باظهاره لأصحابه ليزدادوا ثقة، فلم يرجع من مكانه حتى استأمن جماعة من القوّاد، منهم شبل بن سالم، فأجابه الموفّق وأرسل إليه شذاوات فركب فيها وعياله وولده وجماعة من قوّاده، فلقيهم قوم من الزنج فقاتلهم ونجا ووصل إلى الموفّق فأحسن إليه ووصله بصلة سنيّه، وهو من قدماء أصحاب الخبيث، فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه لما رأوا من رغبة رؤسائهم فى الأمان قال: ولما رأى الموفّق مناصحه شبل أمره أن يكفيه بعض الأمور، فسار ليلا في جمع من الزنج لم يخالطهم غيرهم إلى عسكر الزنج، فأوقع بهم وأسر منهم وقتل وعاد فأحسن إليه الموفّق وإلى أصحابه، وصار الزنج بعد هذه الوقعة لا ينامون الليل ولا يزالون يتحارسون، وأقام الموفّق ينفذ السرايا إليهم ويكيدهم ويحول بينهم وبين القوت، وأصحابه يتدرّبون في سلوك تلك المضايق التى في أرضه ويوسّعونها.