الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على ما يقوله أهل الشرائع، من أنّه جاء بمعجزات ودلالات خارجة عن أحوال العادات، وأنّ معنى ذلك إنّما هو يأتى بأمور تنتظم بها السياسة ووجوه الحكمة، وترتّب بها الفلسفة، ومعان تنبىء «1» عن حقائق ابتداء السماوات والأرض، وبدأتها على حقائق الأمور إمّا برموز وإمّا بإفصاح، وتنظيم ذلك شريعة يقتفى عليها الناس، ورتّب له أمر القرآن، وما معنى كلام الله، بخلاف ما يدين به أهل الكتب، ورتّب له أمر القيامة وتقضّى أمر الدنيا وحصول الجزاء من الثواب والعقاب، على أمور ليست ممّا يعتقده الموحّدون في شىء، بل ذلك على معان أخر، من تقلّب الأمور وحدوث الأدوار عند انقضاء الكواكب وعوالم جماعتها، والقول في الكون والفساد على ترتيب الطبائع، على أمور كلها سيأتى شرحها إن شاء الله تعالى.
ذكر صفة الدعوة التاسعة
قال: اعلم أنّه إذا حصل المدعوّ على ما ذكرنا أحيل حينئذ على طلب الأمور وتحقيقها وحدودها والاستدلال عليها من طرق المتفلسفة وادراكها من كتبهم، وجعلوا ما قدّموه سابقا له على طرائقهم، واستنباط ما خفى عنهم وبنوه على علم الأربع طبائع، التى هى استقصّات وأصول الجواهر عندهم، وعلى ترتيب القول في الفلك والنجوم والنفس والعقل وأمثال ذلك فيما هو معروف، فيحصل الآن البالغون إلى هذه الرتب على أحد هذه الوجوه، التى يعتقدها بعض
أهل الإلحاد ممّن يدين بقدم أعيان الجواهر، ويصير ما قدم من ذكر الحدث والأصول رموز إلى معانى المبادى، وتقلّب الجواهر وحدوث الأمور التى يكون لها على أحوال وأحكام، وعلى نحو تنزيل كثير منهم لحال العقل من حال النفس وحال الفلك من حال العقل، وحال الطبائع والأعراض من حال النفس والعقل، وحال المنقلب بالكون والفساد وما يكون من حال الهيولى بتقلّب الأعراض المختلفة «1» وترتيب العناصر، والقول في العلّة: هل تفارق المعلول أم لا؟ وإقرار بعضهم بصانع لم تزل معه العناصر والمبادىء أوّلا، وما هى تلك الأمور وكيف حدودها، وما يصحّ من صفاتها والأسباب التى تعلم بها، فربّما صار البالغ في النظر في هذا إلى اعتقاد مذهب مانى وابن ديصان، وربما صار إلى مذهب المجوس، وربما دان بما يحكى عن أرسطاطاليس، وربما صار إلى أمور تحكى عن أفلاطون «2» ، وربما اختار من تلك معانى مركبة من هذه الأمور، كما يجرى كثير من هؤلاء المتحيّرين.
قال: وجميع ما وصفنا من التدريج بالمقدّمات إنما يحصل الانسلاخ من شرائع أهل الكتب والنبوّة فقط، وجميعها يصلح أن تجعل تمهيدا ورموزا إلى جميع هذه المذاهب التى ذكرناها، وتجتذب بألفاظها إليها بالتأويل بحسب ما يريد المعتقد، لما شاء منها ممّا سنبيّن ذلك إن شاء الله تعالى.
قال: وأمّا سلخه من جميع ما تقدم «3» عليه من أمر الإمامة والنبوّة
فإنّه أوّلا يجعل عنده منازل، جميعهم منقوصة غير منزلة محمد بن إسماعيل صاحب الدور الآخر، ويرتّب له أنّ جميعهم لا يأتى بوحى من الله عز وجل، ولا معجزة كما يقول الظاهرية، وإنما يختص بالصفا فيلقى في فهمه ما يريد الله، فيكون ذلك كلاما، ثم يجسّده النبى ويظهره للخلق، وينظّم الشرائع بحسب المصالح في سياسات الناس ثم يؤمر بالعمل بذلك مدّة، ثم يترك إلى أن يؤمر بذلك، يستدعى بها الناس، لا لأنّها تجب على أهل المعرفة بأعراضها وأسبابها ثم يقال له بعد ذلك إنّما هى آصار وأثقال حملها الكفار، وكذلك سائر المحرّمات، ثم يلقّن أنّ إبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء أنبياء سياسات وشرائع، فأما أنبياء الحكمة فإنّ هؤلاء أخذوا عنهم كافلاطون وأمثاله من الفلاسفة، فبنوا شرائعهم ليوصلوا بها العامّة إلى علومهم؛ ثم يقال له: انظر أيهما أحكم، فلان النبى أو فلان؟ ثم يلقّن أن في بعض أحكامهم اختلالا وفسادا، ثم يلقن البراءة منهم وسوء سيرتهم، وأنّهم قتلوا النفوس، وأمثال هذا. ويلقّن في محمد بن إسماعيل بن جعفر أنّه سيظهر، ثم يقال له بعد ذلك: إنما يظهر في العالم الروحانى إذا صرنا إليه، أما الآن فإنما يظهر أمره على ألسن أوليائه، ثم يلقّن أنّ الله أبغض العرب لما قتلت الحسين بن على فنقل خلافة الأئمة عنهم كما نقل النبوّة عن بنى إسرائيل لما قتلوا الأنبياء، ولا يقوم بخلافة الأئمة إلا أولاد كسرى، فيكون ذلك غاية ما يقدّموه في هذا الباب كلّه متى استوى لهم، فإن لم يتمّ له ذلك مع الدعوة تركه في أى منزلة نزلها، مستعيذا «1» بهذه الوجوه.
قال: ثم اعلم- رحمك الله- أنّ هذا الترتيب والتخريج والتنزيل إنّما كانت الدعاة [عليه] عند اجتماعها على مبتدأ الدعوة، والانعقاد على طلب الغوائل للمسلمين، فيها اتفقوا على جملة منها وأصولها، وفتحوا بالفكر طريقها، ومهّدوه على معنى ما ذكرناه، وتفرّقوا في البلدان، وتمهيدهم بحسب أفكارهم واجتهادهم في الحيلة على المستمع، وتميّزوا في ذلك وتمكّنوا منه في طول الأيّام، سيّما مذ قويت أحوال الجنّابى على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخباره.
قال: فقد بيّنا خبر هذه الدعوة وكيف جرى أمرها، وكيف يسلك بالمخدوع كل مسلك، حتى يصير إلى التعطيل والإباحة، فهذا أصل هذه الدعوة الملعونة وما أسّست عليه قديما، ثم تغيّرت وتفرّعت منذ انتشرت ببلاد المغرب ومصر والشام، وجعلوا منها طرقا وأبوابا، فمنها علم القوت «1» وعلم الكفاف وبلاغات مفصّلة، وبطل الترتيب الأول الذى وصفنا: من أنّ الدعوة كانت إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، فصار موضعه من يكون من ولد عبيد الله بن ميمون القدّاح، الذين ملكوا المغرب ومصر والشام، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبارهم، ولنصل هذا الفصل بذكر العهد الذى يحلفون به.