الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان من أشجع رجال صاحب الزنج، فخلع عليه وعلى غيره ممّن أتاه ووصلهم بصلات كثيرة. قال: ولما انقطعت الميرة والمواد عن صاحب الزنج أمر شبلا وأبا الندا وهما رؤساء قوّاده- وكان يثق بهم- بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة وقطع الميرة عن الموفّق، فسيّر الموفّق إليهم زيرك في جمع من أصحابه، فلقيهم بنهر ابن عمر فرأى كثرتهم فراعه ذلك، ثم استخار الله تعالى في قتالهم فحمل عليهم وقاتلهم، فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموا، فوضع فيهم السيف وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك وأسر خلقا كثيرا، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق منها ما غرق، وكان ما أخذه من سفنهم نحو أربعمائة سفينة، وأقبل بالأسرى والرؤوس إلى مدينة الموفّق.
ذكر عبور الموفق الى مدينة صاحب الزنج وخروجه عنها وعوده اليها
قال: وفي ذى الحجّة سنة سبع وستين أيضا عبر الموفّق مدينة صاحب الزنج لست بقين من الشهر، وكان سبب ذلك أنّ جماعة من قوّاد صاحب الزنج، لما رأوا ما حلّ بهم من البلاء، من قتل من يظهر منهم، وشدّة الحصار على من لزم المدينة، وحال من خرج بالأمان، جعلوا يهربون من كل وجه ويخرجون إلىّ الموفّق، فلما رأى ذلك صاحب الزنج جعل على الطريق التى يمكنهم الهرب منها من يحفظها، فأرسل جماعة من القوّاد إلى الموفّق يطلبون الأمان، وأن يوجّه لمحاربة صاحبهم جيشا ليجدوا طريقا إلى المصير إليه، فأمر ابنه أبا العبّاس بالمصير إلى النهر
الغربى- وبه علىّ بن أبان- ففعل، واشتدت الحرب فاستظهر أبو العباس على الزنج، فأمّدهم صاحبهم بسليمان بن جامع في جمع، واتصلت الحرب من أوّل النهار إلى العصر، وكان الظفر لأبى العبّاس وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان منه، واجتاز أبو العبّاس بمدينة صاحب الزنج عند نهر الأتراك، فرأى قلّة الزنج هناك، فطمع فيهم فقصدهم وقد انصرف أكثر أصحابه إلى الموفقيّة، فدخل البلد بمن بقى معه، وندب صاحب الزنج أصحابه لحربهم، فلما رأى أبو العباس اجتماعهم وقلّة أصحابه رجع، وأرسل إلى أبيه الموفّق يستمدّه فأتاه من خف من الغلمان وظهروا على الزنج وهزموهم، وكان سليمان ابن جامع لما رأى ظهور أبى العبّاس سار في النهر مصعدا في جمع كثير فأتى أصحاب أبى العبّاس «1» من خلفهم وهم يحاربون من بإزائهم، وخفقت طبوله فانكشف أصحاب أبى العبّاس «2» ، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفّق، وأخذ الزنج عدة أعلام وحامى أبو العبّاس عن أصحابة فسلم أكثرهم ثم انصرف وطمع الزنج بهذه الوقعة وشدّت قلوبهم، فأجمع الموفّق على العبور إلى مدينتهم بجميع جيوشه، وأمر الناس بالتأهّب وجمع المعابر والسفن وفرّقها عليهم، ودخل يوم الأربعاء لست بقين من الشهر، وفرّق أصحابه على المدينة ليضطر صاحبها إلى تفرقة أصحابه، وقصد الموفّق إلى ركن من أركان المدينة وهو أحصن ما فيها، وقد أنزله صاحب الزنج ابنه انكلاى وسليمان بن جامع وعلىّ بن أبان، وعليه من المجانيق
وآلات القتال ما لا يحدّ، فلما التقى الجمعان أمر الموفّق غلمانه بالدنوّ منه، وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك، وهو نهر عريض كثير الماء فأحجموا عنه، فصاح بهم الموفّق وحرّضهم على العبور، فعبروا سباحة والزنج ترميهم بالمجانيق والمقاليع والحجارة والسهام، فصبروا حتى جاوزوا النهر وانتهبوا إلى السور، ولم يكن معهم من الفعلة من كان أعدّ لهدم السور، فتولّى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، وسهّل الله تعالى ذلك وكان معهم بعض السلاليم، فصعدوا على ذلك إلى السور، ونصبوا علما من أعلام الموفّق، فانهزم الزنج عنه وسلّموه بعد قتال شديد، وقتل من الفريقين خلق كثير، ولما علا أصحاب الموفّق السور أحرقوا ما كان عليه من مجانيق وآلات وغير ذلك، وكان أبو العبّاس قصد ناحية أخرى، فمضى على بن أبان لقتاله فهزمه أبو العبّاس وقتل جمعا كثيرا من أصحابه، ولحق أصحاب أبى العبّاس بالسور فثلموا فيه ثلمة، ودخلوه فلقيهم سليمان ابن جامع فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواضعهم، ثم إن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع، وعملوا على الخندق جسر فعبر الناس عليه من ناحية الموفّق، فانهزم الزنج عن سور ثان «1» كانوا قد اعتصموا به، وجعل أصحاب الموفّق يقتلونهم حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان، وقد صارت دار ابن سمعان في أيدى أصحاب الموفّق فأحرقوها، وقاتلهم الزنج هناك ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان صاحبهم، فرجع في جمع من أصحابه فانهزم أصحابه عنه، وقرب منه بعض رجّالة الموفّق، فضرب
وجه فرسه بترسه وذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفّق الناس بالرجوع فرجعوا، ومعهم من رؤوس أصحابه شىء كثير، وقد استأمن إلى أبى العباس أوّل النهار نفر من قوّاد صاحب الزنج، فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن.
وأظلم الليل وهّبت ريح عاصف وقوى الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين، فخرج جماعة من الزنج فنالوا من أصحابه، وقتلوا منهم نفرا، وكان بهبوذ بازاء مسرور البلخى فأوقع بأصحاب مسرور، وقتل منهم وأسر جماعة، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفّق، وكان بعض أصحاب صاحب الزنج قد انهزم على وجهه نحو نهر الأمير وعبّادان، وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة، فأرسلوا يطلبون الأمان فأمّنهم الموفّق، وخلع عليهم وأجرى عليهم الأرزاق، وكان ممّن رغب في الأمان من قوّاده ريحان بن صالح المغربى- وكان من رؤساء أصحابه، فأرسل يطلب الأمان وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم، ففعل الموفّق فصار إليه فخلع عليه وأحسن إليه ووصله، ثم ضمّه إلى أبى العبّاس، ثم استأمن بعده جماعة من أصحابه، وكان خروج ريحان إليه لليلة بقيت من ذى الحجّة من هذه السنة.
وفي سنة ثمان وستين ومائتين في المحرّم خرج إلى الموفّق من قوّاد صاحب الزنج جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجّان، وكان من ثقات أصحابه فارتاع لذلك، وخلع عليه الموفّق وأحسن إليه، وحمله في سميرية إلى ازاء قصر صاحبه، وأخبرهم أنّهم في غرور وأعلمهم بما وقف عليه من كذب الخبيث وفجوره، فاستأمن في ذلك اليوم خلق كثير من قوّاد الزنج وغيرهم، فأحسن إليهم الموفّق وتتابع الناس في
طلب الأمان، ثم أقام الموفّق لا يحارب ليريح أصحابه إلى شهر ربيع الآخر من السنة.
فلما انتصف الشهر قصد الموفّق مدينة الزنج، وفرّق قوّاده على جهاتها، وجعل مع كل طائفة منهم من النقّابين جماعة لهدم السور، وتقدّم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور ولا يدخلوا المدينة، وتقدّم إلى الرماة أن يحموا بالسهام من يهدم السور وينقبه، فتقدموا إلى المدينة من سائر جهاتها، ووصلوا إلى السور وثلموه في مواضع كثيرة، ودخل أصحاب الموفّق المدينة من تلك الثلم، وجاء أصحاب صاحب الزنج فقاتلوهم فهزمهم أصحاب الموفّق، وتبعوهم حتى أوغلوا فى طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، فبلغوا أبعد من الموضع الذى وصلوا إليه في المرّة الأولى وأحرقوا وأسروا، وتراجع الزنج عليهم وخرج الكمناء من مواضع يعرفونها ويجهلها أصحاب الموفّق، فتحيّروا ودافعوا عن أنفسهم وتراجعوا نحو دجلة، بعد أن قتل منهم جماعة وأخذ الزنج أسلابهم، ورجع الموفّق إلى مدينته وأمر بجمع أصحابه، ولامهم على مخالفته في دخولهم وافساد رأيه وتدبيره، وأمر باحصاء من فقد من أصحابه، وأقر ما كان لهم من الرزق على أولادهم وأهليهم، فحسن موقع ذلك عندهم، وزاد في صحة نيّاتهم وصدق عزائمهم.