الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم إلا سليمان وعبد الله ابنا داود بن حسن بن حسن، وجعفر بن حسن «1» ، وبقيّتهم ماتوا في حبس المنصور.
ذكر ظهور محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب
كان ظهوره بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، وقيل بل كان في رابع عشر رمضان منها. وكان سبب خروجه أن المنصور لما حمل أهله إلى العراق، وسار من الربذة، ردّ رياحا إلى المدينة أميرا عليها، فألحّ في طلب محمد، وأرهقه الطلب يوما فتدلى في بئر في المدينة، يناول أصحابه الماء، وانغمس في الماء إلى حلقه، وكان بدنه لا يخفى لعظمه، وبلغ رياحا خبره أنه بالمذاد، فركب نحوه في جنده، فتنحّى محمد عن طريقه واختفى في دار الجهنيّة، فحيث لم يره رياح رجع إلى دار مروان، فلما اشتد الطلب على محمد خرج قبل وقته، وكان قد واعد أخاه إبراهيم أنّه يخرج لوقت عيّنه بالمدينة، ويخرج إبراهيم بالبصرة، وقيل بل خرج لميعاده مع أخيه، وإنما أخوه تأخر لجدرى لحقه.
وكان عبيد الله بن عمرو بن أبى ذؤيب «2» وعبد الحميد بن جعفر يقولون لمحمد بن عبد الله: ما تنتظر بالخروج؟ فو الله ما على هذه
الأمة انتقام منك، اخرج ولو لوحدك «1» ، فحرّكه ذلك للخروج أيضا، وأتى رياحا الخبر: أنّ محمدا خارج الليلة، فأحضر محمد ابن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضى المدينة والعباس بن عبد الله ابن الحارث بن العباس وغيرهما عنده، فصمت طويلا ثم قال لهم:
يا أهل المدينة؛ أمير المؤمنين يطلب محمدا في شرق الأرض وغربها، وهو بين أظهركم، أقسم بالله: لئن خرج لأقتلنكم أجمعين، وقال لمحمد بن عمران: أنت قاضى أمير المؤمنين فادع عشيرتك، فجمع بنى زهرة فجاءوا في جمع كبير، فأجلسهم بالباب، وأرسل فأخذ نفرا من العلويين وغيرهم، فيهم: جعفر بن محمد بن على بن الحسين «2» ، وحسين بن على بن حسين بن على، وحسن بن على بن حسين بن على»
، ورجال من قريش فيهم: إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد، فبيناهم عنده إذ ظهر محمد فسمعوا التكبير، فقال ابن مسلم بن عقبة المرّى: أطعنى في هؤلاء واضرب أعناقهم، فقال له الحسين بن على بن الحسين بن على:
والله، ما ذاك إليك، إنّا لعلى السمع والطاعة، وأقبل محمد من المذاد فى مائة وخمسين رجلا في بنى سلمة تفاؤلا بالسلامة، وقصد السجن فكسر بابه وأخرج من فيه، وممّن كان فيه محمد بن خالد بن عبد
الله القسرى وابن أخيه النّذير بن يزيد ورزام «1» فأخرجهم، وجعل على الرجّالة خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير «2» ، وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصحابه: لا تقتلوا لا تقتلوا، فامتنع منهم رياح فدخلوا من باب المقصورة، وأخذوا رياحا أسيرا وأخاه عباسا وابن مسلم ابن عقبة المرّى، فحبسهم في دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد فإنه قد كان من أمر هذا الطاغية- عدوّ الله أبى جعفر؛ ما لم يخف عليكم، من بنائه القبة الخضراء التى بناها معاندة لله في ملكه، وتصغيرا للكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال، أنا ربكم الأعلى، وإنّ أحقّ الناس بالقيام في هذا الأمر «3» أبناء المهاجرين والأنصار المواسين، اللهم إنّهم قد أحلّوا حرامك وحرّموا حلالك، وأمّنوا من أخفت، وأخافوا من أمّنت؛ اللهم فاحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا؛ أيها الناس: إنّى والله ما خرجت بين أظهركم، وأنتم عندى أهل قوّة ولا شدّة، ولكنّى اخترتكم لنفسى، والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا أخذ لى فيه البيعة.
وكان المنصور يكتب إلى محمد بن عبد الله على ألسن قواده،
يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول هذا، ويقول: لو التقينا مال القوّاد كلهم إلىّ، واستولى محمد على المدينة.
واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومى، وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدّراوردى، وعلى الشرط أبا القلمّس عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر ابن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة؛ وقيل كان على شرطته عبد الحميد بن جعفر فعزله، وأرسل محمد إلى محمد بن عبد العزيز:
إن «1» كنت لأظنّك ستنصرنا وتقوم معنا، فاعتذر إليه وقال أفعل، ثم انسلّ منه وأتى مكة، ولم يتخلّف عن محمد أحد من وجوه الناس، إلا نفر منهم الضحّاك بن عثمان بن عبد الله بن حزام «2» ، وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد، وأبو سلمة بن عبيد الله بن الله بن «3» عمر، وخبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير «4» .
وكان أهل المدينة «5» قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع
محمد، وقالوا: إنّ في أعناقنا بيعة لأبى جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين؛ وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته، وأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وكان شيخا كبيرا، فدعاه إلى بيعته فقال: يا ابن أخى أنت والله مقتول فكيف أبايعك!! فارتدع الناس عنه قليلا، وكان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر قد أسرعوا إلى محمد، فأتت حمّادة ابنة معاوية إلى إسماعيل بن عبد الله، وقالت له يا عم: إن إخوتى قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنّك إن قلت هذه المقالة ثبّطت الناس عنهم، فيقتل ابن خالى وإخوتى، فأبى إسماعيل إلا النهى عنه، فيقال إن حمّادة عدت عليه فقتلته، فأراد محمد الصلاة عليه فمنعه عبد الله «1» ابن إسماعيل، وقال: أتأمر بقتل أبى وتصلّى عليه!! فنحّاه الحرس وصلّى عليه محمد.
ولما ظهر محمد كان محمد بن خالد القسرى في حبس رياح فأطلقه، قال محمد بن خالد: لما سمعت دعوة محمد الى دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حق، والله لأبلينّ الله فيها بلاء حسنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّك قد خرجت بهذا البلد، والله لو وقف على نقب من أنقابه أحد، مات أهله جوعا وعطشا، فانهض معى فإنما هى عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف، فأبى علىّ، فبينما أنا عنده إذ قال:
ما وجدنا من حرّ المتاع «2» شيئا أجود من شىء وجدناه عند ابن أبى
فروة ختن أبى الخصيب «1» ، وكان انتهبه، قال، فقلت له: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع، فكتبت إلى المنصور فأخبرته بقلة من معه، فأخذنى محمد فحبسنى حتى أطلقنى عيسى بن موسى بعد قتله إياه «2» .
وكان رجل من آل أويس بن أبى سرح العامرى- عامر بن لؤى- اسمه الحسين بن صخر بالمدينة لمّا ظهر محمد، فسار من ساعته إلى المنصور فبلغه في تسعة «3» أيام، فقدم ليلا فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى علموا به فأدخلوه، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم؟ قال: لا بدّلى منه، فدخل الربيع على المنصور فأخبره خبره، وأنّه قد طلب مشافهته فأذن له، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، قال:
قتلته والله؛ إن كنت صادقا، قال: أخبرنى من «4» معه؟ فسمّى له من معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قال: أنت رأيته؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فأدخله أبو جعفر بيتا، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بن دينار- غلام عيسى ابن موسى يلى أمواله بالمدينة، فأخبره بأمر محمد وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسى فقال: لأوطئنّ الرجال عقبيك ولأغنينّك، وأمر له بتسعة آلاف درهم، لكل ليلة ألف درهم، وأشفق من محمد، فقال له الحارثى المنجّم: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه؟! فو الله لو ملك
الأرض ما لبث إلا تسعين يوما، فأرسل المنصور إلى عمّه عبد الله بن على وهو محبوس: إن هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأى فأشر به علينا، وكان ذا رأى عندهم، فقال: إن المحبوس محبوس الرأى، فأرسل إليه المنصور: لو جاءنى حتى يضرب بابى ما أخرجتك، وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك، فأعاد إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتى الكوفة، فاجثم «1» على أكبادهم فإنّهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح، فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه، أو أتاها من وجه من الوجوه، فاضرب عنقه، وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر إليك وكان بالرىّ، واكتب إلى أهل الشام فمرهم: أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما حمل البريد، فأحسن جوائزهم ووجّههم مع سلم، ففعل. وقيل أرسل المنصور إلى عبد الله إخوته يستشيرونه فى أمر محمد، وقال لهم: لا يعلم عبد الله أنّى أرسلتكم إليه، فلمّا دخلوا عليه قال: لأمر ما جئتم، ما جاء بكم جميعا وقد هجرتمونى جميعا؟! قالوا استأذنا أمير المؤمنين فأذن لنا، قال: ليس هذا بشىء، فما الخبر؟ قالوا: خرج محمد بن عبد الله، قال: فما ترون ابن سلامة صانعا- يعنى المنصور؟ قالوا: لا ندرى والله، قال: إن البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، وليعط الأجناد، فإن غلب فما أسرع ما يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على دينار ولا درهم.
قال «1» : ولمّا ورد الخبر على المنصور بخروج محمد، كان قد خطّ مدينة بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع ابن عبيد الله بن عبد المدان «2» ، فقال له المنصور: إنّ محمدا قد خرج بالمدينة، فقال عبد الله: هلك والله وأهلك، خرج في غير عدد ولا رجال. حدّثنى سعيد بن عمر بن جعدة المخزومى قال: كنت مع مروان يوم الزاب واقفا فقال لى مروان «3» : من هذا الذى يقاتلنى؟
قلت: عبد الله بن على بن عبد الله بن العباس، قال: وددت والله أن على بن أبى طالب يقاتلنى مكانه، إن عليا وولده لاحظ لهم في هذا الأمر، وهذا رجل من بنى هاشم وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ريح الشام ونصر الشام، يا ابن جعدة: تدرى ما حملنى على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله «4» بعدى، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله، قال ابن جعدة: لا، قال: وجدت الذى يلى هذا الأمر عبد الله وعبيد الله، وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك فعقدت له، فاستخلفه المنصور على صحة ذلك فحلف له فسرّى عنه.
قال: ولما بلغ المنصور خبر ظهور محمد قال لأبى أيوب وعبد الملك:
هل من رجل تعرفانه بالرأى نجمع رأيه إلى رأينا؟ قالا بالكوفة:
بديل بن يحيى، وكان السفاح يشاوره، فأرسل إليه، وقال له:
إنّ محمدا قد ظهر بالمدينة! قال: فاشحن الأهواز بالجنود، قال:
إنّه إنما ظهر بالمدينة، قال: قد فهمت، وإنما الأهواز الباب الذى تؤتون منه، فلما ظهر إبراهيم بالبصرة قال له المنصور ذلك، قال:
فعاجله بالجنود واشغل الأهواز عليه، وشاور المنصور أيضا جعفر بن حنظلة البهرانى عند ظهور محمد قال: وجّه الجند إلى البصرة، قال:
انصرف عنّى حتى أرسل إليك، فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إليه، فقال له ذلك فقال: إياها خفت، بادره بالجنود، قال:
وكيف خفت البصرة؟ قال: لأن محمدا ظهر بالمدينة وليسوا أهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبى طالب، فلم يبق إلا البصرة.
ثم إن المنصور كتب إلى محمد بن عبد الله كتابا ابتدأه بأن قال:
بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)
«1» ، ولك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤمّنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج
وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسى من أهل بيتك، وأن أؤمّن كل من جاءك وبايعك واتبعك أو دخل في شىء من أمرك، ثم لا أتبع أحدا منهم بشىء كان منه أبدا، فإن أردت أن تتوثّق لنفسك فوجّه من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تتوثق به والسلام.
فكتب إليه محمد: بسم الله الرحمن الرحيم (طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)
«1» ، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علىّ، فإن الحق حقنا، وإنما ادّعيتم هذا الأمر لنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا «2» ، فإن أبانا عليا كان الوصى، وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء، ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بنى هاشم بمثل الذى نمتّ به من القرابة والسابقة والفضل- وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو «3» فى الجاهلية،
وبنو بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في الإسلام- دونكم إنّ الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيّين محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم، ومن السّلف أوّلهم إسلاما على بن أبى طالب، ومن الازواج أفضلهم خديجة الطاهرة، وأوّل من صلى إلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، ومن المولودين فى الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإنّ عبد المطلب ولد حسنا مرّتين، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدنى مرّتين، من قبل حسن وحسين، وإنى أوسط بنى هاشم نسبا، وأصرحهم أما وأبا «1» ، لم تعرّق فيّ العجمة، ولم تنازع فيّ أمّهات الأولاد، فما زال يختار لى الآباء والأمّهات في الجاهلية والإسلام، حتى اختار لى في النار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذابا في النار، فلك ذمّة الله علىّ، إن دخلت في طاعتى، وأجبت دعوتى، أن أؤمّنك على نفسك ومالك، وعلى كل حدث «2» أحدثته، إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمنى من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتنى من الأمان والعهد ما أعطيته رجالا قبلى، فأى الأمانات تعطينى؟ أمان ابن هبيرة!! أم أمان عمّك عبد الله بن على!! أم أمان أبى مسلم!! فلما ورد كتابه على المنصور قال له أبو أيوب الموريانى: دعنى
أجبه عنه، قال: لا، إذا تقارعنا على الأحساب دعنى وإياه، ثم كتب إليه المنصور:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغنى كلامك، وقرأت كتابك فإذا جل فخرك بقرابة النساء، لتضلّ به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة «1» والأولياء، لأن الله جعل العم أبا، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا، ولو كان اختار الله لهن على قدر قرابتهنّ، لكانت آمنة أقربهنّ رحما، وأعظمهنّ حقا، وأولى من يدخل الجنة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه فيما قضى فيهم «2» واصطفائه لهم؛ وأمّا ما ذكرت من فاطمة أم أبى طالب وولادتها، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام، لا بنتا ولا ابنا، ولو أن رجلا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله، ولكان أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة، لكنّ الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قال الله عز وجل (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
«3» ، ولقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)
«4» ، فأنذرهم ودعاهم فأجاب اثنان أحدهما أبى، وأبى اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه، فلم يجعل بينه وبينهما إلّا ولا ذمة ولا ميراثا؛ وزعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا، وابن خير الأشرار، وليس
فى الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس في الشر خيار، ولا ينبغى لمؤمن- يؤمن بالله- أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)
«1» ؛ وأما أمر حسن وأن عبد المطلب ولده مرتين، وأن النبىّ ولدك مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة، ولا عبد المطلب إلا مرة؛ وزعمت أنك أوسط بنى هاشم نسبا وأصرحهم أما وأبا، وأنه لم تلدك العجم، ولم تعرّق «2» فيك أمّهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بنى هاشم طرا، فانظر ويحك أين أنت من الله غدا!! فإنك قد تعدّيت طورك، وفخرت على من هو خير منك- نفسا وأبا وأوّلا وآخرا «3» - إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خيار بنى أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمّهات الأولاد، ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من على بن حسين، وهو لأم ولد ولهو خير من جدّك حسن بن حسن «4» ، وما كان فيكم بعده مثل محمد بن على، وجدّته أم ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدّته أم ولد، وهو خير منك؛ وأما قولك إنكم بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقول في كتابه (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ
…
)
«5» ،
ولكنكم بنو ابنته وإنها لقرابة قريبة، ولكنّها لا تجوّز الميراث ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة فكيف يورّث بها، ولقد طلبها أبوك بكل وجه، فأخرج فاطمة رضى الله عنها نهارا، ومرّضها سرا ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا الشيخين، ولقد جاءت السنة التى لا اختلاف فيها بين المسلمين: أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورّثون؛ وأمّا ما فخرت به من علىّ وسابقته، فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه «1» ، وكان في الستّة فتركوه كلهم دفعا له «2» ، ولم يروا له حقا فيها؛ وأما عبد الرحمن فقدّم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متّهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته وأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده؛ ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها، وتفرّق عنه أصحابه، وشكّ فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكم حكمين رضى بهما، وأعطاهما عهد الله وميثاقه «3» ، فاجتمعا على خلعه، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير حله «4» ، فإن كان لكم فيها شىء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه، حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه؛
ثم خرجتم على بنى أمية، فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوكم بلا وطاء فى المحامل، كالسبى المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم وطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنّينا سلفكم وفضّلناه فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنا إنما ذكرنا أباك وفضّلناه للتقدمة منّا له، على حمزة والعباس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلّما منهم مجتمعا عليهم بالفضل، وابتلى أبوك بالقتال والحرب، وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا عليهم «1» وذكرناهم فضله، وعنّفناهم وظلّمناهم بما نالوا منه. ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته، فنازعنا فيها أبوك فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة، فلم يتوسل عمر إلى ربّه ولم يتقرّب إليه إلا يأبينا، حتى نعشهم «2» الله وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسل به، ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بنى عبد المطلب بعد النبى صلى الله عليه وسلم غيره، فكانت وراثته من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بنى هاشم، فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايته، وميراث النبى صلى الله عليه وسلم له، والخلافة في
ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام- فى دنيا ولا آخرة- إلا والعباس وارثه ومورّثه. أمّا ما ذكرت من بدر فإنّ الاسلام جاء، والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم للأزمة التى أصابته، ولولا أن العبّاس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا، وللحسا جفان عتبة وشيبة، ولكنه كان من المطعمين، فأذهب عنكم العار والسّبة، وكفاكم النفقة والمؤونة، ثم فدا عقيلا يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر، وفديناكم وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوا لأنفسكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
وكان محمد قد استعمل الحسن «1» بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب على مكة، والقاسم بن إسحاق على اليمن، وموسى ابن عبد الله على الشام، فأما الحسن والقاسم فسارا إلى مكة، فخرج إليها السرىّ بن عبد الله، عامل المنصور على مكة، فلقيهما ببطن أذاخر فهزماه، ودخل الحسن «2» مكة وأقام بها يسيرا، فأتاه كتاب محمد بن عبد الله يأمره بالمسير إليه فيمن معه، ويخبره بمسير عيسى ابن موسى إليه ليحاربه، فسار إليه من مكة هو والقاسم، فبلغه بنواحى قديد قتل محمد، فهرب هو وأصحابه وتفرّقوا، فلحق الحسن بإبراهيم فأقام عنده حتى قتل إبراهيم، واختفى القاسم بالمدينة
حتى أخذت له ابنة عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر امرأة عيسى الأمان له ولإخوته معاوية وغيره، وأما موسى بن عبد الله فسار نحو الشام ومعه رزام مولى محمد بن خالد القسرى، فانسل منه رزام بتيماء، وسار إلى المنصور برسالة من مولاه محمد القسرى، فظهر محمد بن عبد الله على ذلك فحبس محمد القسرى، ووصل موسى إلى الشام فرأى منهم سوء ردّ غليه وغلظة، فكتب إلى محمد:
أخبرك أنى لقيت الشام وأهله، فكان أحسنهم قولا الذى قال:
والله لقد مللنا البلاء، وضقنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع، ولا لنا به حاجة؛ ومنهم طائفة تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا أو أمسينا من غد ليرفعنّ أمرنا؛ فكتبت إليك، وقد غيّبت وجهى، وخفت على نفسى.
ثم رجع إلى المدينة، وقيل أتى البصرة، وأرسل صاحبا له يشترى له طعاما فاشتراه، وجاء به على حمّال أسود، فأدخله الدار التى سكنها وخرج، فلم يكن بأسرع من أن كبست الدار، وأخذ موسى وابنه عبد الله وغلامه فحملوا إلى محمد بن سليمان بن على بن عبد الله بن العباس، فلما رأى موسى قال: لا قرّب الله قرابتكم، ولا حيّا وجوهكم، تركت البلاد كلها إلا بلدا أنا فيه!! فإن وصلت أرحامكم أغضبت أمير المؤمنين، وإن أطعته قطعت أرحامكم، ثم أرسلهم إلى المنصور، فأمر بضرب موسى وابنه كل واحد خمسمائة سوط فلم يتأوّها، فقال المنصور: عذرت أهل الباطل في صبرهم، فما بال هؤلاء!! فقال موسى: أهل الحق أولى بالصبر، ثم أخرجهم وأمر بهم فسجنوا.