الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مسير عيسى بن موسى لقتال محمد بن عبد الله بن حسن وقتل محمد
قال «1» : ثم إن المنصور أحضر ابن اخيه عيسى بن موسى بن محمد ابن على بن عبد الله بن عباس، وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد ابن عبد الله بن حسن، فقال: شاور عمومتك يا أمير المؤمنين، قال: فأين قول ابن هرمة:
نزور امرأ لا يمخض القوم سرّه
…
ولا ينتجى الأدنين فيما يحلول
إذا ما أتى شيئا مضى كالذى أتى
…
وإن قال إنى فاعل فهو فاعل
فقال المنصور: أمض أيها الرجل- فو الله ما يراد غيرى وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا، فسار وسيّر معه الجنود، وكان عيسى ولى عهد المنصور إذ ذاك؛ فقال المنصور حين سار عيسى:
لا أبالى أيهما قتل صاحبه؛ وبعث معه محمد بن أبى العباس السفاح، وكثير بن حصين العبدى، وحميد بن قحبطة، وهزار مرد وغيرهم، وقال له المنصور حين ودّعه: يا عيسى، إنّى أبعثك إلى ما بين هذين، وأشار إلى ما بين جنبيه «2» ، فإن ظفرت بالرجل فاغمد سيفك، وابذل الأمان، وإن تغيّب فضمنهم إياه فإنّهم يعرفون مذاهبه، ومن لقيك من آل أبى طالب، فاكتب إلىّ باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله، وكان جعفر الصادق تغيّب عنه، فقبض ماله، فلما قدم المنصور
المدينة قال له جعفر في معنى ماله، فقال: قبضه مهديّكم، فلما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى الناس في خرق الحرير، منهم عبد العزيز ابن المطلب المخزومى، وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحى، وكتب إلى عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب، يأمره بالخروج من المدينة فيمن أطاعه، فخرج هو وعمر «1» بن محمد ابن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل فأتوا عيسى.
قال: ولما بلغ محمدا قرب عيسى من المدينة، استشار أصحابه فى الخروج من المدينة والمقام بها، فأشار بعضهم بالخروج عنها، وبعضهم بالمقام بها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيتنى في درع حصينة فأوّلتها المدينة، فأقام ثم استشارهم في حفر خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جابر بن أنس- رئيس سليم- يا أمير المؤمنين: نحن أخوالك وجيرانك وفينا السلاح والكراع، فلا تخندق الخندق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خندقه لمّا أعلمه الله به، وإن خندقته لم يحسن القتال رجالة، ولم توجّه لنا الخيل بين الأزقة، وأن الذين نخندق دونهم هم الذين يحول الخندق دونهم؛ فقال له أحد بنى شجاع: خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتد أنت به، وتريد أن تدع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيك!! قال:
إنه والله- يا ابن شجاع- ما شىء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، وما شىء أحبّ إلينا من مناجزتهم، فقال محمد: إنما اتبعنا
فى الخندق أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يردّنى أحد عنه فلست بتاركه، فأمر به فحفر، وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق «1» ، الذى حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب، وسار عيسى حتى نزل الأعوص، وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق:
ألا يخرج منهم أحد، ثم خطبهم فقال:
إنّ عدوّ الله وعدوّكم قد نزل الأعوص، وإنّ أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، لأبناء المهاجرين والأنصار، ألا وإنّا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق، وعدوّكم في عدد كثير، والنصر من الله والأمر بيده، وأنّه قد بدا لى أن آذن لكم، فمن أحبّ منكم أن يقيم أقام، ومن أحبّ أن يظعن ظعن؛ فخرج عالم كثير، وخرج ناس من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، وبقى محمد في شرذمة يسيرة «2» ، فأمر أبا القلمّس بردّ من قدر عليه، فأعجزه كثير منهم فتركهم.
قال: وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى بن موسى ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من المدينة، فقال ابن الأصم: إن الخيل لا عمل لها مع الرجّالة، وإنى أخاف إن كشفوكم كشفة «3» أن يدخلوا عسكركم، فتأخّروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف وهو على أربعة أميال من المدينة، وقال: ولا يهرول الراجل أكثر من
ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل، وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء ابن أزهر- على ستة أميال من المدينة- فأقاموا بها، وقال:
أخاف أن ينهزم محمد فيأتى مكة، فيردّه هؤلاء، فكانوا بها حتى قتل محمد، وأرسل عيسى إلى محمد يخبره أن المنصور أمّنه وأهله، فأعاد الجواب: يا هذا، إن لك برسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة قريبة، وإنى أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيّه والعمل بطاعته، وأحذرك نقمته وعذابه، وإنى والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه، وإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله: فتكون شر قتيل، أو تقتله «1» فيكون أعظم لوزرك. فلما بلغته الرسالة قال عيسى: ليس بيننا وبينه إلا القتال؛ وقال محمد للرسول: علام تقتلونى؟ وإنما أنا رجل فرّ من أن يقتل، قال: إن القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك، على ما قاتل عليه خير آبائك طلحة والزبير، على نكث بيعتهم وكيد ملكه.
قال، ونزل عيسى بالجرف لاثنتى عشرة خلت من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وذلك يوم السبت، فأقام السبت والأحد وغدا يوم الإثنين فوقف على سلع، فنظر إلى المدينة ومن فيها، ونادى يا أهل المدينة: إن الله تعالى حرّم دماء بعضنا على بعض، فهلمّوا إلى الأمان، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن «2» ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن،
خلوا بيننا وبين صاحبنا فإمّا لنا وإمّا له. فشتموه فانصرف من يومه وعاد من الغد، وقد فرّق القوّاد من سائر جهات المدينة، وأخلى ناحية مسجد أبى الجرّاح وهو على بطحان، أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم، وبرز محمد في أصحابه ورايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وكان شعاره: أحد أحد، فبرز أبو القلمّس وهو من أصحاب محمد، فبرز إليه أخو أسد، فاقتتلوا طويلا فقتله أبو القلمّس، وبرز إليه آخر فقتله، وقال حين ضربه: خذها وأنا ابن الفاروق، فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيرا من ألف فاروق، وقاتل محمد يومئذ قتالا عظيما، فقتل بيده سبعين رجلا، وأمر عيسى حميد بن قحبطة فتقدم في مائة «1» كلهم راجل سواه، فزحفوا حتى بلغوا جدارا دون الخندق، عليه ناس من أصحاب محمد، فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق، ونصب عليه أبوابا وعبر هو وأصحابه عليها، فجازوا الخندق وقاتلوا من وراءه أشد قتال من بكرة النهار إلى العصر، وأمر عيسى أصحابه فألقوا الحقايب وغيرها في الخندق، وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانصرف محمد فاغتسل وتحنط ثم رجع، فقال له عبد الله بن جعفر: بأبى أنت وأمّى، والله مالك بما ترى طاقة أتيت الحسن بن معاوية بمكة فإنّ معه جلّ أصحابك!! فقال: لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل، وأنت منى في سعة فاذهب حيث شئت، فمشى معه قليلا ثم رجع عنه، وتفرّق عنه جل أصحابه، حتى بقى في ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، فقال بعض أصحابه: نحن اليوم بعدة
أهل بدر؛ وصلّى محمد الظهر والعصر، وكان معه عيسى بن خضير وهو يناشده: إلا ذهب إلى البصرة أو غيرها، ومحمد يقول: لا والله لا تبتلون بى مرّتين، ولكن اذهب أنت حيث شئت، فقال ابن خضير: وأين المذهب عنك!؟ ثم مضى فأحرق الديوان، الذى فيه أسماء من بايعهم، وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباس بن عثمان، وقتل ابن مسلم بن عقبة المرسى، ومضى إلى محمد بن خالد القسرى وهو محبوس ليقتله فعلم به، فردم الأبواب دونه فلم يقدر على قتله، وكان محمد بن عبد الله قد حبس محمد بن خالد بعد ما أطلقه، ورجع عيسى بن خضير إلى محمد فقاتل بين يديه حتى قتل، وتقدّم حميد بن قحطبة، وتقدّم محمد بن عبد الله فلما صار ببطن مسيل سلع عرقب فرسه، وعرقب بنو شجاع الجهنيون «1» دوابّهم، ولم يبق أحد منهم إلا كسر جفن سيفه، فقال لهم محمد: قد بايعتمونى ولست بارحا حتى أقتل، فمن أحبّ أن ينصرف فقد أذنت له، واشتد القتال فهزموا أصحاب عيسى بن موسى مرّتين أو ثلاثا، فقال يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر «2» : ويل أمّه فتحا، لو كان له رجال!! وصعد نفر من أصحاب عيسى على جبل سلع، وانحدروا منه إلى المدينة، وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس «3»
بخمار أسود فرفع على منارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب محمد بن عبد الله: دخلت المدينة فهربوا، فقال يزيد:
لكل قوم جبل يعصمهم، ولنا جبل لا نؤنى إلا منه!! - يعنى سلعا، وفتح بنو أبى عمرو الغفاريّون طريقا في بنى غفار لأصحاب عيسى، فدخلوا منه أيضا وجاءوا من وراء أصحاب محمد، ونادى محمد حميد بن قحطبة: أبرز إلىّ فأنا محمد بن عبد الله، فقال حميد:
قد عرفتك، وأنت الشريف ابن الشريف، الكريم ابن الكريم، والله، لا أبرز إليك وبين يدىّ من هؤلاء الأغمار واحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك، وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان، وابن خضير يحمل على الناس راجلا، لا يصفى إلى أمانه وهو يأخذهم بين يديه، فضربه رجل من أصحاب عيسى على إليته فحلها، فرجع إلى أصحابه فشدّها بثوب، ثم عاد إلى القتال، فضربه إنسان على عينه فغاص «1» السيف، وسقط فابندروه فقتلوه وأخذوا رأسه، وكأنه باذنجانة مفلقة من كثرة الجراح فيه، فلما قتل تقدّم محمد فقاتل على جيفته، فجعل يهدّ الناس هدا، وكان أشبه الناس بقتال حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، ولم يزل محمد يقاتل حتى ضربه رجل دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه وجعل يذبّ عن نفسه، ويقول: ويحكم ابن نبيّكم مجرّح مظلوم، فطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل إليه فأخذ رأسه وأتى به عيسى، وهو لا يعرف من كثرة الدماء؛ وقيل إن عيسى بن موسى اتّهم حميد بن قحطبة وكان على الخيل، فقال
له: ما أراك تبالغ!! فقال له: اتتهمنى!! فو الله لأضربنّ محمدا حين أراه بالسيف أو أقتل دونه، قال: فمرّ به وهو مقتول فضربه ليبرّ يمينه، وقيل بل رمى بسهم وهو يقاتل، فوقف إلى جدار فتحاماه الناس، فلما وجد الموت تحامل على سيفه فكسره، وهو ذو الفقار، سيف على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقيل بل أعطاه رجلا من التجار، كان معه وله عليه «1» أربعمائة دينار، وقال خذه فإنّك لا تلقى أحدا من آل أبى طالب إلا أخذه وأعطاك حقّك، فلم يزل عنده حتى ولى جعفر بن سليمان المدينة، فأخبر به فأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار، ولم يزل معه حتى أخذه منه المهدى، ثم صار إلى الهادى فجرّبه فى كلب فانقطع السيف؛ وقيل بل بقى إلى أيام الرشيد، وكان يتقلّده وكان به ثمانى عشرة فقارة.
قال: ولما أتى عيسى برأس محمد قال لأصحابه: ما تقولون فيه؟
فوقعوا فيه، فقال بعضهم: كذبتم ما لهذا قاتلناه، ولكنّه خالف أمير المؤمنين، وشقّ عصا المسلمين، وإن كان لصوّاما قوّاما فسكتوا.
وأرسل عيسى بن موسى الرأس إلى المنصور مع محمد بن أبى الكرام بن عبد الله بن على بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، وأرسل معه رؤوس بنى شجاع، فأمر المنصور برأس محمد فطيف به في الكوفة وسيّره إلى الآفاق. قال: ولمّا رأى المنصور رؤوس بنى شجاع قال: هكذا فليكن الناس! طلبت محمدا فاشتمل عليه
هؤلاء، ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه حتى قتلوا. وكان مقتل محمد وأصحابه يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة خلت من شهر رمضان خمس وأربعين ومائة.
قال «1» : وكان المنصور قد بلعه أن عيسى بن موسى قد هزم، فقال: كلا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء؟
ما أتى «2» لذلك بعد. ثم بلغه أنّ محمدا هرب، فقال: كلّا، إنّا أهل بيت لا نفرّ، فجاءته بعد ذلك الرؤوس. قال: ولما وصل رأس محمد إلى المنصور كان الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب عنده، فلما رأى الرأس عظم عليه وتجلّد خوفا من المنصور، فالتفت المنصور إليه وقال: أهو هو؟ قال: نعم، ولوددت أن الله تعالى قاده إلى طاعتك، ولم تكن فعلت به كذا، قال: وأنا وإلّا فأم موسى طالق، ولكنه أراد قتلنا فكانت نفسنا أكرم علينا من نفسه.
قال: وأرسل عيسى بن موسى ألوية فنصبت في مواضع بالمدينة، ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن؛ وأخذ أصحاب محمد فصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفّين، ووكل بخشبة ابن خضير من يحفظها، فاحتمله قوم من الليل فواروه سرا، وبقى الآخرون ثلاثا، ثم أمر بهم عيسى فألقوا في مقابر اليهود، ثم ألقوا بعد ذلك في خندق ذباب، فأرسلت زينب بنت عبد الله،
أخت محمد- وابنته «1» فاطمة إلى عيسى: إنّكم قد قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه، فلو أذنتم لنا في دفنه!! فأذن لهما فدفن بالبقيع. قال: وقطع المنصور الميرة عن المدينة في البحر، ثم أذن فيها المهدى.
قال: ورد الخبر بقتل محمد بن عبد الله على أخيه إبراهيم بالبصرة يوم العيد، وكان إبراهيم قد استولى على البصرة، فخرج فصلى بالناس، ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه.
قال: وكان محمد بن عبد الله بن حسن أسمر شديد السمرة سمينا شجاعا كثير الصوم والصلاة شديد القوّة رحمه الله تعالى. قال:
وسئل جعفر الصادق عن أمر محمد فقال: فتنة يقتل فيها محمد، ويقتل أخوه لأبيه وأمّه بالعراق، وحوافر فرسه في ماء. قال: وقال محمد بن عبد الله لعبد الله بن عامر السّلمى: تغشانا سحابة فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمى عند أحجار الزيت، قال:
فو الله لقد أطلّتنا سحابة فلم تمطرنا، وتجاوزتنا إلى عيسى وأصحابة فظفروا، وقتلوا محمدا ورأيت دمه عند أحجار الزيت، وكان محمد بلقّب المهدى رحمه الله.