الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أشرف الناس على الهلكة وكثر الضجيج بمدينة السلام، واجتمعت العامّة إلى يوسف بن يعقوب القاضى وسألوه إنهاء أخبار الناس إلى الخليفة، فوعدهم بذلك، ووردت كتب المصريين على المكتفى بالله يعرّفونه ما قتل من عسكرهم الذى خرج إلى الشام، وأن القرامطة أفنتهم وأنّهم قد أخربوا الشام، فأمر المكتفى الجيش بالاستعداد وإخراج المضارب إلى باب الشماسيّة، وخرج إلى مضربه في القوّاد والجند، ورحل لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة تسعين ومائتين، وسلك طريق الموصل ومضى نحو الرقّة بالجيوش حتى نزلها وانبثت جيوشه من حلب وحمص، وقلّد محمد بن سليمان حرب الحسين بن زكرويه، واختار له جيشا كثيفا، وكان محمد بن سليمان صاحب ديوان العطاء وعارض الجيش، فسار نحو القرامطة بجيشه.
ذكر الحرب بين محمد بن سليمان وبين القرامطة وانهزام القرامطة والظفر بالحسن بن زكرويه صاحب الشام وأصحابه وقتلهم
قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: ولما دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين كتب القاسم بن عبيد الله وهو وزير المكتفى بالله إلى محمد بن سليمان الكاتب يأمره بمناهضة القرامطة، فسار إليهم والتقى الجمعان يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم من هذه السنة، بموضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز الليل بينهم، وقتل عامّة رجالهم، وورد كتاب محمد بن سليمان الكاتب إلى القاسم بن عبيد الله الوزير، يخبره بكيفيّة المصاف والقتال ومن
كان في الميمنة والميسرة والقلب والجناحين من قوّاد عسكره، وأن القرامطة اجتمعوا ستّة كراديس، وأن ميسرتهم كان فيها ألف وخمسمائة فارس، وكمنوا خلفها أربعمائة فارس، وفي القلب ألف فارس وأربعمائة فارس، وفي ميمنتهم ألف فارس وأربعمائة فارس، وكمنوا خلفها مائتى فارس، وذكر كيف كانت حملاتهم وقتالهم، وكيف كانت هزيمتهم، فى كلام مطوّل تركناه اختصارا لطوله، إلا أنّ ملخّصه أنّ القرامطة قتلوا قتلا ذريعا، وذكر أن الكردوس الذى كان في ميسرة القرامطة قصده الحسين بن حمدان، وكان في جناح ميمنة عسكر الخليفة، واقتتلوا أشدّ قتال حتى تكسّرت الرماح وتقطّعت السيوف فصرع من القرامطة ستمائة في أول دفعة، وأخذ أصحاب الحسين منهم خمسمائة فرس وأربعمائة طوق فضّة، وأن القرامطة ولّوا مدبرين فاتبعهم الحسين بن حمدان، فرجعوا عليه فلم يزل يحمل حملة بعد حملة- وهم في خلال ذلك يصرعون منهم الجماعة بعد الجماعة- حتى أفناهم الله تعالى، فلم يفلت منهم إلا أقل من مائتى رجل.
قال: وحمل الكردوس الذى كان في ميمنتهم على القاسم بن سهل ويمن الخادم، فاستقبلوهم بالرماح فكسروها في صدورهم وعانق بعضهم بعضا، فقتلوا من الكفرة جماعة كبيرة. قال: وأخذ بنو شيبان منهم ثلاثمائة فرس «1» ومائة طوق فضّة، وأخذ أصحاب خليفة بن المبارك منهم مثل ذلك، وذكر في كتابه أنه حمل هو عليهم في القلب، فما زال أصحابه يقتلون القرامطة- فرسانهم ورجّالتهم- أكثر من خمسة
أميال، وذكر في كتابه أن الحسن بن زكرويه لم يشهد هذا المصاف وأنّه يشخص إليه إلى سلمية. قال الشريف رحمه الله: وكان الحسن ابن زكرويه- لما أحسّ بقرب الجيوش- عرض أصحابه، وأخرج الأقوياء منهم عن الضعفة والسواد، وأنفذ الجيش وتخلّف هو في السواد والضعفة، فلما انهزم أصحابه ارتاع لذلك ورحل لوقته وسار خوفا من الطلب، وتلاحق به من أفلت من أصحابه، فخاطبهم بأنّهم أتوا من قبل أنفسهم وذنوبهم وأنّهم لم يصدقوا الله، وحرّضهم على المعاودة إلى الحرب فلم يجبه منهم أحد إلى ذلك، واعتلّوا بفناء الرجال وكثرة الجراح فيهم، فلما أيس منهم قال لهم: قد كاتبنى خلق من أهل بغداد بالبيعة لى، ودعاتى بها ينتظرون أمرى، وقد خلت من السلطان الآن، وأنا شاخص نحوها لأظهر بها، ومستخلف عليكم أبا الحسين القاسم بن أحمد صاحبى، وكتبى ترد عليه بما يعمل به فاسمعوا له وأطيعوا أمره فضمنوا له ذلك، وشخص معه قريبه عيسى ابن أخت مهرويه المسمّى بالمدثّر وصاحبه المطوّق وغلام له رومىّ، وأخذ دليلا يرشدهم إلى الطريق وساروا يريدون سواد الكوفة، وسلك البرّ وتجنّب المدن والقرى، حتى إذا صار قريبا من الدالية نفد زاده، فأمر الدليل فمال بهم إليها، ونزل بالقرب منها خلف رابية، ووجّه بعض من كان معه لابتياع ما يصلحه، فلما دخلها أنكر زيّه بعض أهلها وساء له عن أمره فورى وتلجلج، فاستراب به وقبض عليه وأتى به واليها، وكان يعرف بأبى خبزة يخلف أحمد بن كشمرد صاحب الحرب بطريق الفرات، قال: والدالية قرية من عمل الفرات، قال:
فسأله أبو خبزة عن خبره ورهب عليه، فعرّفه أن القرمطى، الذى
خرج أمير المؤمنين المكتفى بالله في طلبه، خلف رابية أشار إليها، فسار أبو خبزة إلى ذلك الموضع ومعه جماعة بالسلاح حتى أشرف عليهم، فأخذهم وشدّهم وثاقا وتوجه بهم إلى صاحبه ابن كشمرد، فسار بهم إلى المكتفى وهو يومئذ بالرقّة، فأمر أن يشهّروا بها ففعل بهم ذلك، وألبس الحسن بن زكرويه درّاعة ديباج وبرنس من حرير وهو على بختىّ، والمدثّر والمطوّق على جملين عليهما درّاعتا ديباج وبرانس حرير، وهم بين يديه، وذلك في يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين.
قال: وقدم محمد بن سليمان الكاتب الرقّة والجيوش معه، بعد أن تتبّعوا ما بقى من القرامطة فأسروا وقتلوا، فخلف المكتفى بالله عساكره مع محمد بن سليمان بالرقّة، وشخص في خاصّته وغلمانه وتبعه وزيره القاسم بن عبيد الله إلى بغداد، وحمل القرمطى وأصحابه معه ومن أسر في الوقعة، وذلك في أول يوم من صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين، فلما صار إلى بغداد عمل له دميانه غلام يا زمان كرسيّا سمكه ذراعان ونصف، وركّبه على فيل وأركبه عليه ودخل المكتفى بالله وهو بين يديه مع أصحابه الأسرى، عليهم دراريع الديباج والبرانس والمطوّق في وسط الأسرى على جمل، وهو غلام حدث قد جعل في فيه خشبة مخروطة قد شدّت إلى قفاه كاللجام، وذلك أنّهم في وقت دخولهم الرقّة أكثر الناس الدعاء عليهم، فكان هو يشتم الناس الذين يدعون عليهم ويبصق عليهم، وكان دخولهم كذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول من هذه السنة.
قال: فلما وصل المكتفى إلى داره حبسهم ووكل بهم، ووصل محمد بن سليمان بعد ذلك على طريق الفرات في الجيش، وقد تلقّط، بقايا القرامطة من كل وجه، فنزل بباب الأنبار في ليلة الخميس لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل من السنة، فأمر المكتفى القوّاد وأصحاب الشرط بتلقّيه والدخول معه، فدخل محمد بن سليمان في زى حسن ومعه بين يديه نيّف وسبعون أسيرا، وخلع الخليفة على محمد بن سليمان وطوّقه بطوق من ذهب، وسوّره بسوار من ذهب، وخلع على جميع القوّاد وطوّقوا وسوّروا، وحبس الأسرى وكان المكتفى بالله وقت دخوله أمر أن تبنى له دكّة في المصلّى العتيق من الجانب الشرقى، مربّعة ذرعها عشرون ذراعا في مثلها وارتفاعها عشرة أذرع يصعد إليها بدرج، فلما كان يوم الاثنين لأربع بقين من شهر ربيع الأول أمر المكتفى القوّاد وجميع الغلمان وصاحب جيشه محمد ابن سليمان وصاحب شرطته أن يحضروا هذه الدكّة، فحضروها وصعد الوجوه ووقف الباقون على دوابّهم، وخرج التجّار والعامّة للنظر وحملوا الأسرى كلّهم مع خلق كثير منهم كانوا بالكوفة وحملوا إلى بغداد وغيرهم ممّن حمل ممّن كان على مذهبهم، فأحضر جميعهم على الجمال وقتلوا جميعا وعدّتهم ثلاثمائة وستون وقيل ثلاثمائة ونيّف وعشرون، وقدم الحسن بن زكرويه وعيسى ابن أخت مهرويه، وهما زميلان، على بغل في عماريّة، قد أرسل عليهما أغشية، فأصعدا إلى الدكّة وأقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنسانا من الأسرى من وجوه القرامطة، ممّن عرف بالنكاية والعداوة للإسلام والكلب على سفك الدماء واستباحة النساء وقتل الأطفال، وكان كل واحد منهم
يبطح على وجهه فتقطع يده اليمنى ويرمى بها إلى أسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يده اليسرى، ثم رجله اليمنى ويرمى بها إلى أسفل ثم تضرب عنقه ويرمى به إلى أسفل، فلما فرغ منهم قدّم المدثر ففعل به مثل ذلك ثم كوى ليعذب ثم ضربت عنقه، ثم قدم الحسن بن زكرويه فضرب مائتى سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى وضربت عنقه، ورفع رأسه على خشبة، وحملت الرؤوس فصلبت على الجسر، وصلب بدن الحسن فمكث مصلوبا نحوا من سنة، ثم سقط عليه حائط ودفنت أجساد الأسرى عند الدكة، وهدمت بعد أيام.
قال الشريف: ومن كتب اللعين الحسن بن زكرويه إلى بعض عمّاله:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله المهدى المنصور الناصر لدين الله، القائم بأمر الله، الداعى إلى كتاب الله، الذابّ عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين وإمام المسلمين، ومذلّ المنافقين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المنتصرين، ومشتت المخالفين، والقيم بسنة المرسلين، وولد خير الوصيّين صلى الله عليه وعلى آله الطيّبين وسلّم- كتاب إلى جعفر «1» بن حميد الكردى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلى على محمد «2» جدّى رسول؛ أما بعد: فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من
أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك من الظلم والعبث والفساد فى الأرض فأعظمنا ذلك «1» ، ورأينا أن ننفذ إلى هناك من جيوشنا من ينتقم الله به، من أعدائنا الظالمين الذين يسعون في الأرض فسادا فأنفذنا جماعة من المؤمنين «2» إلى مدينة حمص ونحن في أثرهم، وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك، لطلب أعداء الله حيث كانوا ونحن نرجو أن يجزينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم، فينبغى أن يكون «3» قلبك وقلوب من اتبعك من أوليائنا، وتثق بالله وبنصره الذى لم يزل يعوّدنا في كل من مرق «4» من الطاعة وانحرف عن الإيمان، وتبادر إلينا بأخبار الناحية وما يحدث فيها، ولا تخف عنّا شيئا من أمرها.
سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على جدى رسوله وعلى أهل بيته وسلم كثيرا.
وكان عمّاله يكاتبونه بمثل هذا الصدر. قال ابن الأثير «5» :
وكان قد نجا من أعيان القرامطة رجل من بنى العليص يسمى إسماعيل ابن النعمان في جماعة معه، فكاتبه المكتفى بالله وبذل له الأمان، فحضر في نيّف «6» وستين نفسا، فأحسن الخليفة إليهم وسيّرهم إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيما، فأقاموا معه مدّة وعزموا على