الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دلالة الأمر على الوجوب
اختلف العلماء في الأمر المجرد عن القرائن علام يحمل؟ مع أنه لا يكاد يوجد أمر إلا ومعه قرائن تدل على المراد منه، ولكن لما كانت القرائن قد يتنازع فيها أراد الأصوليون أن يبينوا الأصل في الأمر ما هو؟
فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الأصل حمله على الوجوب، واستدلوا بعدة أدلة منها:
1ـ قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور63] وجه الدلالة على الوجوب: أن الله توعد من يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتنة والعذاب الأليم، ولا يكون هذا إلا على ترك واجب، فدل على أن امتثال الأمر واجب.
2 -
قوله تعالى ـ على لسان موسى مخاطبا أخاه هارون ـ: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه93]، مع قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء14].
وجه الاستدلال: أن الآية الأولى جعلت مخالفة الأمر معصية، والآية الثانية جعلت المعصية سببا لدخول جهنم.
فهاتان الآيتان تدلان بمجموعهما على أن الأمر للوجوب.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» متفق عليه.
وجه الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن سبب عدم الأمر بالسواك هو خوفه المشقة على الأمة، ولا مشقة إلا في ترك الواجب؛ لأنه هو الذي فيه عقوبة.
والحديث يدل على بطلان القول بأن الأمر للندب، حيث نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون أمر أمته بالسواك مع أنه ندبهم إليه بلا خلاف، فهذا يدل على أن الأمر لما هو أعلى من الندب والأعلى من الندب هو الوجوب.
4 ـ ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبي بن كعب وهو يصلي فلم يجبه فلما قضى صلاته جاء، فقال: لم يمنعني من إجابتك إلا أني كنت أصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ألم تسمع قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال24]» (أخرجه البخاري).
فهذا الحديث يدل على أن الأمر يفيد الوجوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لام أبي بن كعب على عدم فهمه الوجوب من الآية.
5 -
إجماع الصحابة على الاستدلال بالأمر على الوجوب، ويدل على ذلك رجوعهم إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من غير بحث عن قرينة، كما رجعوا إلى حديث:«إذا دخل الطاعون في بلد وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن حدث في بلد فلا تدخلوها» .
القول الثاني: أنه موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو مطلق الطلب، وذهب إلى هذا كثير من الأصوليين كالرازي وشراح كلامه، وهو مذهب أبي هاشم الجبائي، ونسب إلى أبي منصور الماتريدي ومشايخ سمرقند (1).
(1) المعتمد 1/ 58، وقواطع الأدلة 1/ 93، وفواتح الرحموت 1/ 373.
واستدلوا بأن ألفاظ الأمر الواردة في الكتاب والسنة منها ما حمل على الوجوب ومنها ما حمل على الندب، مما يدل على أن الأمر صالح لكلا المعنيين.
واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل90]، وهذه المأمورات منها ما هو واجب ومنها ما هو مندوب.
وهذا القول في حقيقته يؤول إلى القول الثالث؛ لأن المتيقن عندهم هو الندب ولا يحمل على ما زاد عليه إلا بدليل.
القول الثالث: أنه موضوع للندب ونسبه السمعاني لبعض الفقهاء (1)، ونسب للشافعي وأحمد (2)، ونسب لأبي هاشم الجبائي وعامة المعتزلة (3).
واستدلوا بأن الأمر طلب الفعل، وهذا يتحقق بحمله على الندب فلا نزيد عليه.
وهناك قول بأن مدلول الأمر الإباحة، ونسب لبعض المالكية (4)، والمشهور عنهم خلاف ذلك.
وهناك أقوال أخر أعرضت عن ذكرها؛ لأنها ليست عليها حجة تستحق المناقشة.
والراجح: هو القول الأول، واستدلال المخالفين بأن أوامر الكتاب والسنة، بعضها محمول على الندب وبعضها محمول على الوجوب، يجاب بأن
(1) قواطع الأدلة 1/ 94.
(2)
المستصفى 1/ 426، والتبصرة 27 وشرح الكوكب المنير 3/ 41 نقلا عن أبي الخطاب.
(3)
إرشاد الفحول 169.
(4)
أصول السرخسي 1/ 16، وكشف الأسرار 1/ 108.
المحمول على الندب منها وجدت قرائن تصرفه عن الوجوب، وكلامنا فيما لم توجد معه قرينة صارفة.
وقولهم: الأمر طلب، والندب هو المتيقن فيحمل عليه، يجاب بأن الأمر طلب الفعل من الأعلى رتبة، وأدلة الشرع السابقة دلت على حمله على الوجوب، والاحتياط يقتضي ذلك؛ إذ إن حمله على الندب ربما دفع المكلف إلى الترك وهو مراد به الوجوب فيأثم، وإذا حمله على الوجوب فعله وسلم من الإثم.
ولما كانت الأوامر في الكتاب والسنة لا تخلو ـ غالبا ـ عن قرائن حالية أو مقالية، متقدمة أو متأخرة أو مصاحبة، وجدنا كلام العلماء في حمل الأوامر على الندب أو الوجوب لا يقف عند ذكر الأصل في معنى الأمر، وإنما يؤيد كل منهم رأيه في المسألة الخاصة الوارد الأمر بها بأدلة وقرائن أخرى.
والمتتبع لكلام الفقهاء يجدهم يحملون الأمر على الوجوب، إلا إذا وجدت قرينة صارفة أو عارض الأمر دليل آخر.