الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمام الأهلية ونقصانها:
كلٌّ من أهلية الوجوب وأهلية الأداء قد تكون ناقصة أو تامة، فأهلية الوجوب الناقصة تثبت للجنين في بطن أمه؛ لأنه تثبت له حقوق ولا تترتب عليه واجبات، ولكن تلك الحقوق لا بد لثبوتها من ولادته حيا، فإن ولد ميتا لم يثبت له حق الإرث والوصية ونحوها.
وأهلية الوجوب الكاملة تثبت للإنسان منذ ولادته إلى وفاته ولا تفارقه بسبب الصبا أو الجنون أو نحو ذلك، ولكنه إذا لم يبلغ سن التمييز، أو بلغ ولكنه مجنون فلا ينضم إلى هذه الأهلية أهلية الأداء، وما عليه من واجبات يقوم وليه بأدائها من ماله، فيخرج عنه ما يجب عليه من نفقة أو زكاة أو ضمان متلف من ماله.
وأما أهلية الأداء الناقصة فهي تثبت للإنسان منذ بلوغه سن التمييز إلى البلوغ ولا تثبت للمجنون الذي لا يعقل، ولكنها تثبت لضعيف الإدراك ومن به تخلف عقلي.
وهذا النوع من الأهلية يترتب عليه صحة ما يفعله من حصلت له من العبادات، فيصح إسلام الصبي وصلاته وحجه وصيامه ونحو ذلك، ولكن لا يكون ملزماً بأدائها إلا على جهة التأديب والتمرين.
وأما حقوق العباد فتصرفات الطفل التي ترتب له حقوقا وترتب عليه واجبات على أقسام:
1 -
التصرفات النافعة نفعا محضا، أي التي لا ضرر فيها كقبول الهبة والصدقة، وهذه تنفذ وتصح.
2 -
التصرفات الضارة ضررا محضا مثل الطلاق والعتق والهبة والضمان، وهذه
لا تصح من الصبي المميز ولو أجازها الولي؛ لأن الولي لا يملكها.
3 -
التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، مثل البيع والإجارة والنكاح، وهذه موقوفة على إجازة الولي، إن أجازها صحت وإلا فلا.
وأما أهلية الوجوب الكاملة فتثبت للإنسان بالبلوغ والعقل، وفي التصرفات المالية يشترط لها الرشد أيضا.
ولما كان التكليف عند جمهور العلماء هو الخطاب بأمر أو نهي ذكروا من الموانع كل ما يمنع توجه الخطاب عقلا أو شرعا.
وأهم هذه الموانع:
1 -
الجنون:
وهو ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف وشرط توجه الخطاب للمخاطب.
ولا يختلف العلماء في أن الجنون يمنع التكليف في الجملة. والدليل قوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاثة» وذكر منهم: «المجنون حتى يفيق» (رواه أحمد وأصحاب السنن) وأما الأحكام التي تثبت للمجنون فهي تختلف باختلاف متعلقها على النحو التالي:
أ-
…
أحكام أقواله.
ب-
…
أحكام أفعاله.
ج-
…
أحكام تركه.
فأما أقواله فهي لغو لا يؤاخذ عليها ولا يترتب عليها حكم شرعي لا في الدنيا و لا في الآخرة، فلو قذف أو باع أو اشترى فلا أثر لشيء من ذلك، وهو محل وفاق.
وأما أفعاله، فإذا كانت عبادات، فهي لغو لا أثر لها، وإن كان فيها ضرر بالغير فهو لا يؤاخذ عليها في الآخرة، وأما في الدنيا فعليه ضمانها إن ترتب عليها ضمان، فلو أتلف مالا أو قتل قتيلا فلا إثم عليه ولا قصاص ولكن الضمان يثبت في ماله أو على عاقلته؛ لأن الضمان ليس مشروطا بالتكليف.
وأما الترك فإنه لا يؤاخذ عليه فيما يتعلق بحقوق الله، فلا يطلب منه القضاء لو أفاق من جنونه إلا إذا كانت العبادة لم يذهب وقتها. وهذا مذهب الجمهور.
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لو أفاق في آخر اليوم لزمه قضاء صلوات ذلك اليوم. وذهب محمد بن الحسن إلى أنه إذا مرت عليه الصلاة السادسة ولم يفق سقط عنه صلوات اليوم السابق، وإلا قضاها.
2 -
النسيان:
وهو ذهول القلب عن الشيء مع سبق العلم به.
والنسيان عذر يمنع المؤاخذة الأخروية لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان» (أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا).
وأما أفعال الناسي وأقواله وتركه فهي لغو لا يعتد بها ولا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، ولكن إذا فعل ما يبطل العبادة ناسيا فقال بعض العلماء: لا تبطل عبادته، وقال بعضهم: تبطل، لأن المبطلات أسباب للبطلان فلا يشترط لها التكليف؛ لأنها من أحكام الوضع، وقال الحنفية بالتفريق بين العبادة التي هيئتها تذكر بها كالصلاة، والعبادة التي ليس لها هيئة خاصة تذكر المتلبس بها كالصوم، فالأولى لا يعذر بالنسيان فيها، والثانية يعذر فيها بالنسيان، كما أنه إذا فعل ما يضر بالآخرين ناسيا ترتب عليه الضمان لإهماله، وأما المؤاخذة الأخروية فهي ساقطة عنه، وأما الحد والتعزير فيسقطان عنه إذا قام على دعوى
النسيان دليل أو قرينة، ولا يكتفى بمجرد دعوى النسيان.
3 -
الجهل:
وهو انعدام العلم عمن يتصور منه العلم.
وهو من حيث كونه عذرا رافعا للتكليف على أنواع أربعة:
أـ الجهل بالله جل وعلا وإنكار وجوده أو قدرته ونحوهما من صفاته الثابتة بالنصوص القطعية، وما يجب له من العبادة. فهذا لا يعذر به الإنسان بعد علمه بإرسال الرسل إلى الخلق. وذلك لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء 15] فمفهومه أنه بعد بعث الرسل سيعذب العصاة والكفار، ولقوله تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف 103 - 105]، ولقوله تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت 23]، فهذه الآيات تدل على أن ظنهم السيء لم يعفهم من العقوبة.
ولأن الله جل وعلا قد أرسل الرسل إلى الخلق ولم يدع أمة إلا أرسل فيها نذيراً {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر 24]، وغرس الإيمان بوجود الخالق في فطرة الإنسان «كل مولود يولد على الفطرة» {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم 30] وأعطى الإنسان عقلا ليتفكر في خلق الله فيستدل به عليه، فإذا سمع بالإسلام وما يأمر به وما ينهى عنه وجب عليه أن ينظر فيه، فإذا نظر في دين الإسلام بعقل متجرد عن الهوى اهتدى إلى أنه دين الحق. ولهذا قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار» (أخرجه مسلم بلفظ قريب من هذا عن أبي هريرة مرفوعا) فمجرد السماع بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعثته ورسالته يوجب على العاقل التفكر فيما جاء به من الدين، فإذا تفكر فيه اهتدى إلى أنه الحق. وإن أعرض ولم ينظر كان مقصرا ملوما معاقبا على إعراضه وتقصيره.
ب ـ الجهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالجهل بوجوب الصلاة والزكاة، والجهل بحرمة الزنى والربا والظلم، ونحو ذلك. فهذا لا يعذر به أحد ممن عاش بين المسلمين؛ لأنه إما ناشئ عن تقصير وتفريط، وإما أنه دعوى كاذبة فيدعى الجهل وهو يعلم.
ج ـ الجهل في موضع الاجتهاد أو الاشتباه، كالجهل بحرمة بعض أنواع البيوع، وبعض الأحوال العارضة للإنسان في صلاته أو في حجه، ونحو ذلك مما يصعب على عامة الناس الإحاطة به. فهذا النوع يسقط عن الجاهل اللوم والذم، ولكنه يلزم باستدراك ما فعله على غير الصفة الصحيحة إذا أمكن ذلك من غير مشقة خارجة عن المعتاد.
د ـ الجهلُ من حديث العهد بالإسلام أو ممن عاش حياته في البلاد الكافرة بما يعرفه عامة المسلمين في البلاد الإسلامية يعد عذرا مسقطا للمؤاخذة الأخروية، ولكن يلزم الجاهل باستدراك ما فاته إذا أمكن استدراكه، وذلك كالجاهل بوجوب الغسل من الجنابة وتحريم الأخت من الرضاعة ونحو ذلك مما هو معلوم للمسلمين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية ولكن قد يجهله من عاش في البلاد الأخرى.
4 -
النوم:
يذكر بعض الأصوليين أن النوم مانع من التكليف، وأن النائم غير مكلف، ومرادهم ـ كما سبق ـ أن الخطاب لا يتوجه إليه حال نومه وإنما يتوجه إليه بعد الاستيقاظ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاثة» وذكر منهم:«النائم حتى يستيقظ» .
والقول بعدم تكليفه حال نومه يعني أن ما يصدر منه من الأقوال لغو لا يعتد به حتى لو نطق بالطلاق أو بكلمه الكفر أو بالقذف أو ببيع أو شراء أو نحو ذلك لا يعتد به. وأما الأفعال فيؤاخذ على ما يوجب الضمان منها؛ لأن الضمان ليس من شرطه التكليف.
ولا يقال: يلزم من عدم تكليفه أنه لو نام حتى ذهب وقت الصلاة لا تلزمه، ولو نام جميع النهار لا يلزم الصوم؛ لأن عدم تكليفه حال نومه لا يمنع من لزوم القضاء عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها» (رواه النسائي والترمذي وصححه، ومعناه في صحيح مسلم) والصيام كذلك؛ لأن الله أوجب قضاءه على المعذور لمرض أو سفر. فالنوم عذر يسقط الإثم ولا يسقط القضاء.
5 -
الإغماء:
وهو مرض يتسبب في تعطل قوى الإدراك لدى الإنسان.
وهو مانع من التكليف وأشد من النوم؛ لأن النائم لو نبه لصحا من نومه بخلاف المغمى عليه.
واختلف العلماء في قضاء العبادة التي مر وقتها على الإنسان وهو مغمىً
عليه، فقال الشافعي لا قضاء عليه، وقال الحنفية إن كان طويلا فيلحق بالجنون ويسقط القضاء كما مثلنا في المجنون، وإن كان قصيرا فيلحق بالنوم فلا يسقط به القضاء.
وما نقل عن الشافعي هو الصحيح، والفرق بين النائم والمغمى عليه هو أن النوم فيه جانب تقصير من جهة العبد؛ إذ كان ينبغي أن يحتاط لصلاته فلا ينام قرب وقتها، أو ينام عند من يوقظه. وأما الإغماءُ فليس فيه تقصير من العبد ألبتة.
6 -
السكر:
وهو حالة تحصل للإنسان تغطي عقله فيضعف تمييزه بين الأشياء أو يذهب بالكلية.
وقد اختلف العلماء في عدِّ السكر مانعا من التكليف:
فذهب بعضهم إلى أنه ليس مانعا وأن السكران مكلف، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء 43] وجه الدلالة: أن الله نهاه حال سكره عن الصلاة، فدل ذلك على أنه أهل للخطاب.
واستدلوا أيضا بأنه مرتكب لمحرم، فلا يكون ذلك سببا في عذره، وإلا لجعله الناس ذريعة لارتكاب الجرائم؛ فيسكر ثم يقتل أو يزني أو يسرق.
وذهب آخرون إلى أنه غير مكلف؛ لأنه كالمجنون لا يعقل الخطاب.
وردوا على الاستدلال بالآية السابقة بأن المراد بها: لا تسكروا قرب وقت الصلاة حتى لا تدخلوا في الصلاة وأنتم سكارى، وقالوا: هذا نظير قوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران 102] أي: لا تفارقوا الإسلام حتى
لا تموتوا على الكفر.
وفرق بعضهم بين أقواله وأفعاله وقالوا هو مكلف بالأفعال دون الأقوال فيؤاخذ على القتل والزنى وإتلاف المال ولا يؤاخذ على القذف والطلاق، ولا تنفذ عقوده.
وفرق بعضهم بين أن يكون السكر بقصد أو من غير قصد فإن كان قاصدا شرب المسكر فيؤاخذ وإلا فلا. والأولى أن يقال السكر درجات فقد يصل بالإنسان إلى حالة لا يعقل فيها شيئا ولا يعرف طريقه، ولا يعرف أشياءه الخاصة كنعله وعمامته.
وهذا ينبغي أن يقال إنه يمنع التكليف إذا فسرنا التكليف بالخطاب بأمر أو نهي ولا يلزم من ذلك أن يعذر في أقواله وأفعاله المتعلقة بحقوق الآدميين بل يؤاخذ عليها، ويعاقب عقوبة الصاحي إن كان سكره باختيار ويؤاخذ المتسبب في سكره إن كان سكره بفعل غيره.
وأما إذا لم يبلغ به السكر هذا المبلغ فيكون مكلفا بأقواله وأفعاله؛ لأنه يعقل الخطاب ويفهمه فصح خطابه. ولأن كثيراً ممن اعتادوا شرب الخمر من الكفار والفساق لا يذهب عقولهم ولا يفقدهم التمييز فهم يقومون بأعمالهم التجارية والصناعية ويعقدون الصفقات الكبيرة وهم على هذه الحال.
7 -
الإكراه:
وهو حمل غيره على فعل لا يفعله لو خلي ونفسه.
وقد قسمه الحنفية والجمهور إلى ملجئ وغير ملجئ، ولكن اختَلَف اصطلاحهم في تعريف الإكراه الملجئ وغير الملجئ على النحو التالي:
الإكراه الملجئ عند الجمهور: هو الذي لا يكون للمكره فيه قدرة على