الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اقتضاء النهي الفساد
هذه المسألة من المسائل الكبيرة في أصول الفقه، وقد اعتنى بها العلماء عناية كبيرة حتى إن بعضهم لا يذكر في باب النهي إلا هذه المسألة.
وقد أفردها العلائي بمؤلف مستقل سماه: «تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد» وهو مطبوع محقق.
وقبل أن نشرع في المسألة نذكّر القارئ الكريم بما سبق من الخلاف في البطلان عند الحنفية والجمهور، وأن الحنفية قد يسمون الفعل أو العقد فاسداً، ولكنهم لا يعدونه باطلا من كل وجه، وإنما يرتبون عليه آثاره أو بعضها؛ لأنهم يفرقون بين الفساد والبطلان.
وأما الجمهور فحيث أطلقوا الفساد في هذه المسألة فإنهم يريدون البطلان، وعدم ترتب آثار الفعل عليه سواء أكان عبادة كالصوم والصلاة، أم عقدا كالبيع والإجارة، أم إيقاعاً كالطلاق والعتاق.
محل النزاع في المسألة:
أطلق بعض العلماء محل النزاع وأدخل فيه كل نهي سواء حمل على التحريم أم على الكراهة. وقيده بعضهم بأن يكون النهي للتحريم.
وأخرج بعض العلماء النهي عن العبادات وزعم الاتفاق على أن النهي عنها يقتضي بطلانها. وليس الأمر كذلك كما ستعرف.
وقسم بعضهم النهي ثلاثة أقسام:
أ ـ
…
النهي عن الشيء لعينه، وهذا لا يختلفون في أنه يقتضي فساد المنهي عنه،
ومثلوه بالنهي عن بيع الكلب. والنهي عن بيع النجاسات.
ب ـ النهي عن الشيء لوصف ملازم له، وهذا فيه الخلاف بين الحنفية والجمهور، كالنهي عن البيوع الربوية وبيوع الغرر.
ج ـ النهي عن الشيء لأمر خارج، مثل النهي عن الغصب هل يقتضي فساد الصلاة في الدار المغصوبة؟ وهل يقتضي بطلان صلاة المتوضئ بالمغصوب؟ وبعضهم يمثله بالنهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني وقالوا: إن الخلاف في القسم الثاني. دون الأول والثالث.
والظاهر أن الخلاف جارٍ في القسمين الأخيرين، وأما القسم الأول فقد اتفقوا على أنه يقتضي البطلان. ولكن الإشكال يحصل في حد المنهي عنه لعينه، فإنهم لم يذكروا له حداً يتميز به، ولهذ فإنهم يختلفون عند التطبيق، فقد يقول قائل إن الربا منهي عنه لعينه، وينازعه الآخر ويقول، بل هو منهي عنه لوصفه.
وهذه المسألة ذات صلة وثيقة بمسألة أخرى من مسائل الأمر وهي أن الأمر هل يتناول المكروه؟ وقد يعبّر عنها بعضهم بقوله: هل المكروه مأمور به؟ فيحدث هذا التعبير إشكالاً عظيماً عند الدارسين؛ إذ يقول أحدهم: إذا كان المباح ليس مأموراً به فكيف يكون المكروه مأموراً به؟
وحقيقة الأمر أن مرادهم بذلك: أن المكلف إذا فعل المأمور به على صفة فيها كراهة، فهل يقبل منه ويجزئه، حتى نقول فَعَلَ المأمور به؟ ويعنون بالكراهة هنا ما يشمل كراهة التحريم وكراهة التنزيه كما تدل عليه أمثلتهم، فإنهم يمثلونها بالطواف منكساً، وبالصلاة مع رفع البصر، والصلاة في الأماكن المنهي عن الصلاة فيها كالمقبرة ونحو ذلك.
وفي تقديري أنه ينبغي التفريق بين المسألتين: مسألة اقتضاء النهي الفساد، ومسألة تناول الأمر للمكروه.
ففي المسألة الأولى يجب أن نقتصر على أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده؟ وحينئذ تنحصر في الأشياء التي ورد النهي عنها كالصلاة في الأماكن السبعة، والبيع على بيع أخيه، وصيام يومي العيدين. ونحو ذلك؛ لورود النهي عن هذه الأشياء.
وأما الثانية فيجب حصرها على عبادة ورد الأمر بها وورد النهي عن شيء ذا صلة بها ولكنه ليس خاصا بها، مثل: الصلاة مأمور بها بإطلاق، والغصب منهي عنه بإطلاق، فإذا صلى في الدار المغصوبة يكون قد أتى بالمأمور به على صفة فيها كراهة، ولم يرد نص في النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة. وكذلك الصلاة بوضوء مغصوب أو في ثوب حرير ونحو ذلك، فهذه كلها لم يرد فيها بخصوصها نهي فيما أعلم، فإذا لم يرد نهي عن الصلاة على تلك الصفة، فتدخل تحت مسألة الأمر هل يتناول المكروه أو المنهي عنه من وجه آخر؟.
وحيث إن الأكثرين جعلوا مسألة اقتضاء النهي الفساد شاملة للمسألتين السابقتين فالواجب أن نفصل فيها على النحو التالي:
1 -
النهي عن الشيء لذاته: لا خلاف في أنه يقتضي البطلان، وقد يمثله الحنفية بالنهي عن بيع حبل الحبلة، وبيع الكلب، والخنزير، والنجاسات.
2 -
النهي عن الشيء لوصف ملازم: كالنهي عن صوم يوم العيد، وعن بيوع الربا. وهذا يقتضي الفساد عند جمهور العلماء.
وذهب بعض علماء الحنفية إلى أنه في هذا القسم يفرق بين العبادات وغيرها؛ ففي العبادات يقتضي الفساد، فصيام يوم النحر باطل باتفاق.
وأما المعاملات كبيع درهم بدرهمين، فهو عندهم بيع فاسد، ولكن يثبت به الملك مع التقابض.
فهم وإن سموه فاسداً لكنه عندهم ليس بباطل كما هو عند الشافعية والحنابلة؛ وذلك لأن الفساد عرض له لأجل الزيادة فلو ردت الزيادة لصح البيع.
والمالكية وافقوا الجمهور في القاعدة، ولكنهم في البيوع الربوية يرون ثبوت الملك بها في بعض الحالات كهلاك السلعة، وانتقال الملك وتغير الأسواق (1).
ومن علماء الحنفية من قال: إن هذا القسم لا يقتضي الفساد، لا في العبادات، ولا في المعاملات؛ بدليل أن نذر صيام يوم النحر ينعقد عند علماء المذهب، ولكن ليس له أن يصومه بل عليه أن يصوم يوماً مكانه، فلو صامه عصى وانحلّ نذره، ولا قضاء عليه عند أبي حنيفة خلافا للصاحبين (2).
3ـ وأما القسم الثالث، وهو النهي المتعلق بأمر خارج عن المأمور به ذا صلة به من حيث كونه متعلقاً بشرط من شروطه الشرعية أو العقلية أو العادية، فهذا لا يقتضي الفساد عند أكثر العلماء، ويقتضيه عند الإمام أحمد في رواية، وعند الظاهرية.
وقولهم: المنهى عنه لأمر خارجي: عبارة لا تصح إلا بشيء من التسامح؛ لأن النهي لم يتجه للمأمور به بل لما له تعلق به. ومثاله: الصلاة في الدار المغصوبة، والوضوء بماء مغصوب، والذبح بسكين مغصوبة، وتلقي الركبان لشراء ما معهم، فإن النهي في هذه المسائل انصب على الغصب، وعلى تلقي الركبان، وليس على الصلاة والوضوء والذبح والبيع.
والراجح فيما كان النهي فيه راجعاً إلى أمر خارجي أنه لا يقتضي فساد المأمور به، وإن كان متصلاً بشرط من شروطه كالصلاة في الدار المغصوبة،
(1) ينظر شرح تنقيح الفصول 175.
(2)
ينظر أصول السرخسي 1/ 88.