الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العمل بالعام قبل البحث عن المخصص
هذه المسألة من المسائل التي أطال فيها الأصوليون الكلام، وهي لا تحتمل الإطالة، ونقل بعضهم الإجماع على عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، وعارضه الآخر بالإجماع على العمل بالعام حتى يطلع على المخصص.
والذي يظهر لي أن الصواب التفريق بين العلماء المجتهدين ـ الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وخبروا مواطن الإجماع والخلاف ـ والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يكفي للتربع على عرش الفتيا وسدة القضاء.
فالقسم الأول ، وهم العلماء المجتهدون لا ينبغي الخلاف في أنهم إذا بلغتهم آية عامة أو حديث عام ولم يبلغهم المخصص على الرغم من تمرسهم بالعلم وسعة اطلاعهم على الأدلة أنهم يجب عليهم العمل بالعام، ولا يلزمهم التوقف إلى أن يبحثوا لاحتمال وجود المخصص.
وأما القسم الثاني، وهم العوام ومن في حكمهم فهؤلاء ليس لأحدهم أن يعمل بالعام إذا بلغه دون أن يسأل أهل العلم المجتهدين، ولو ابتلي أحد المتفقهة بمنصب قضاء أو فتيا فليس له أن يفتي أو يقضي قبل أن يراجع كتب العلم التي تتيسر له ويبذل جهده في درك حكم المسألة منها، ولو بلغه حديث عام ليس له أن يبادر إلى العمل أو الفتيا بعمومه قبل أن يراجع ما قاله أهل العلم فيه، ويبذل غاية جهده في ذلك.
والذي يظهر أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوا لأحد سببين:
الأول: أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه وإلا عملوا به في عمومه.
وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي: «وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى نقض ما أمضاه بتبين الخلاف» (1).
ولا يخفى أن مثل هذا التوقف لا ينبغي الخلاف فيه.
الثاني: أنهم منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم دون بحث وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولو أذن لغير المجتهدين في ذلك لعطلوا كثيرا من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها.
وهذا يظهر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول ـ في ترجيح قول المانعين ـ: «وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء ما يعارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض» (2)، فقوله: لا تحصل للمتأخرين الخ، يدل على أنه رجح المنع لما يعرفه من حال المتأخرين
(1) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1/ 267، طبعة بولاق بذيل كتاب المستصفى.
(2)
مجموع الفتاوى 29/ 166 - 167.