الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجديدُ الاجتهاد
المقصودُ بتجديد الاجتهاد: إعادةُ النظر في حكم الواقعة، لتجدُّد وقوعها أو السؤال عنها، مع سبق النظر فيها من المجتهد والتوصُّل فيها إلى حكمٍ يغلب على ظنه أنه الصواب.
مثاله: إذا سُئل المفتي عن حكم الإجارة المنتهية بالتمليك، وأفتى بتحريمها، ثم سُئل عنها بعد عامٍ، فهل له أنْ يُفتيَ بما أفتى به سابقاً، أو يجبُ عليه أنْ يُعاودَ النظرَ في المسألة؛ لاحتمال أنْ يظهرَ له دليلٌ لم يكنْ قد ظهر له أولاً؟ وهل يكونُ الحكمُ واحداً لو نسيَ طريقَ اجتهاده الأول أو ذكره؟
ويخرجُ عن محلّ النزاع إذا وجد ما يستدعي إعادةَ النظر في المسألة، كتغيُّر العرف في مسألةٍ مبنيةٍ على العرف، أو وجود نصٍّ يُخالفُ ما أفتى به سابقاً، ولا يعرفُ حالَ ذلك النصّ. فإنه في هذه الحال يجبُ عليه إعادةُ النظر.
وأخرج بعضُهم عن محلّ النزاع إذا لم يُوجدْ ما يحتملُ أنه يُؤدِّي إلى تغيُّر الاجتهاد، وكان المجتهدُ ذاكراً طريقَ اجتهاده السابق، فلا يجبُ عليه تجديدُ الاجتهاد.
واختلفوا فيما إذا تجدّد له ما يَحتملُ أنه يُؤدّي إلى رجوعه، وهو ذاكرٌ لاجتهاده الأول أو غيرُ ذاكر، أو لم يتجدّدْ ما يَحتمل أنْ يُؤدّي إلى رجوعه، وهو غيرُ ذاكرٍ لطريق اجتهاده السابق.
وقد ذكروا في المسألة أقوالاً، أشهرها ثلاثةٌ:
القول الأول: يجبُ عليه تجديدُ الاجتهاد في الصور الثلاث كلِّها.
وهو مذهب أكثر الحنفية، والحنابلةِ، واختاره القاضي الباقلانيّ، وأبو
يعلى، وابنُ عقيلٍ، والشيرازيّ.
وحجتُهم: أنه إذا لم ينظرْ في المسألة الجديدة يكونُ مقلِّداً لنفسه.
وأيضاً فإن الاجتهادَ كثيراً ما يتغيّرُ بمعاودة النظر، فلا يأمنُ أنْ يكونَ الحقُّ في غير ما أفتى به أولاً.
القولُ الثاني: عدمُ وجوب إعادة النظر.
وهو قول بعض الحنابلة، وبعضِ الشافعية، وبعضِ الحنفية، واختاره ابنُ الحاجب، وابنُ الساعاتيّ، وصحّحه المطيعيّ في سلّم الوصول.
وحجّتهم: أن الأصلَ عدمُ تغيُّر الاجتهاد، فيجوزُ البناءُ عليه.
وأيضاً فإنه لو أُمرَ بتجديد الاجتهاد لكان إيجاباً من غير دليلٍ.
والثالث: أنه إنْ كان ذاكراً لطريق اجتهاده السابق فلا يجبُ عليه معاودةُ النظر، وإنْ كان ناسياً وجب عليه معاودةُ الاجتهاد والنظر.
وهو قول المحققين من الأصوليين، واختاره أبو الحسين البصريّ، وابنُ السَّمعانيّ، وأبو الخطّاب، والرازيُّ، وابنُ الصلاح، والنوويُّ، والآمديُّ، والبيضاويُّ، والسبكيُّ، والمرداويُّ، والشوكانيُّ. وهو الراجح.
دليله: أن المجتهدَ إذا كان ذاكراً لدليله السابق، ولم يظهرْ له ما يُعارضه، فهو باقٍ على اجتهاده السابق، ولا يجبُ عليه تجديدُ البحث؛ لأنه لا موجبَ له.
وأما إذا نسيَ دليلَه السابقَ فإنه لو حكم بما حكم به أولاً من غير نظرٍ كان كالمقلِّد؛ لأنه أخذ قولاً لا يعرفُ دليلَه.
والمجتهدُ لا يجوزُ له أنْ يقنعَ بالتقليد مع قدرته على النظر والاجتهاد.
وأدلّةُ الموجِبين تُحمَلُ على حالة النسيان؛ لأنه مع ذكر الدليل لا حاجةَ
لمعاودة النظر والبحث.
وأما القائلون بعدم الوجوب مطلقاً، فليس معهم إلاّ التمسُّكُ باستصحاب الحكم السابق، ومعلومٌ أن المجتهدَ مع نسيانه للطريق التي توصَّل بها إلى القول بالتحريم أو الإباحة مثلا، يجعلُ البقاءَ على حكم الإباحة بقاءً على حكمٍ لا يَعرفُ دليلَه، والفتوى به مرةً ثانيةً فتوى بلا دليلٍ، وهي لا تصحُّ.
والاستصحابُ إنما يُفيدُ عدم نقض ما أفتى به أو حكم به بناءً على الاجتهاد السابق، أما الفتوى الجديدةُ فتفتقرُ إلى دليلٍ، وهو قد نسيه، ونسيَ طريقَ الوصول إلى الحكم السابق.
وهذه المسألة من أهمّ مسائل الاجتهاد؛ إذْ يترتّبُ على القول الراجح وجوبُ إعادة النظر في أكثر المسائل التي تحدث بعد تغيُّر الأحوال، لاحتمال أنْ تكونَ المصلحةُ فيها قد تغيّرتْ وتبدّلت.
وهذا يكفلُ للفقه الإسلاميّ التجدُّدَ المستمرَّ وعدمَ الوقوف عند اجتهاد المتقدِّمين.
وإذا عرفنا أن الإجماعَ قائمٌ على أنه إذا وجد دليلٌ جديدٌ، أو تبدّلت الأحوالُ أو الأعرافُ، وجب معاودةُ النظر في المسألة، عرفنا فائدةَ هذه القاعدة، وعرفنا ما يحملُه أصولُ الفقه من قواعدَ تُوجبُ التجديدَ المستمرَّ للفقه.
وينبغي أنْ لا نفهمَ من إعادة النظر والاجتهاد ضرورةَ تغيُّر الرأي في المسألة، بل قد نبقى على الرأي الأول، وقد تزيدُ المكتشَفاتُ الحديثةُ التدليلَ على صوابه.
وقد يُؤدّي معاودةُ النظر إلى ضرورة تقديم الحكم للناس بأسلوبٍ آخَرَ يُناسبُ العصر.
وقد يُؤدّي الاجتهادُ إلى تغيُّر الحكم في المسألة، ولا يُنكَرُ تغيُّرُ الأحكام بتغيُّر الأزمان.
وقد يكونُ التغيُّرُ ليس لذات الحكم، وإنما هو في تحقيق المناط، فقد يكونُ مناطُ الحكم لم يعدْ موجوداً في الصورة المسؤول عنها، فلا يُوجَدُ الحكمُ بل نقيضُه، ولا يُعدُّ هذا من تغيُّر الحكم إلاّ تجوُّزاً.