الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه فائدة عظيمة.
ومن فوائده: قطع النزاع في المسائل المستجدة، فإذا اتفق علماء العصر على حكمها لم يكن لأحد خلافهم، ولكن ينبغي أن لا تترك الأدلة الصحيحة لدعوى الإجماع، وأن لا تقبل دعوى الإجماع إلا ممن له إحاطة بأقوال العلماء واطلاع على صحيحها وضعيفها، ومشهورها وشاذها.
حجية الإجماع السكوتي:
اختلف العلماء في الإجماع السكوتي الذي عرف بتصريح بعض العلماء وسكوت الباقين، هل يعد حجة؟
فذهب الجمهور إلى حجيته، واستدلوا بما يلي:
1ـ أن سكوت العالم عن فتوى غيره يدل على موافقته إياه؛ إذ لو كان يعتقد بطلان تلك الفتوى لما سكت عن الإنكار؛ لأن السكوت عن إنكار الباطل محرم لا يقدم عليه العلماء المجتهدون.
2ـ ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم» . فالحديث يدل على أنه لا يمكن أن تخلو الأمة من قائم لله بالحجة وتكون بين مخطئ للحق وساكت عن الإنكار؛ إذ لو كانوا كذلك لم يتحقق ما في الحديث من الوعد ببقاء طائفة من الأمة ظاهرة على الحق؛ لأن ظهورها يقتضي إظهار ما هي عليه من الحق.
وذهب الإمام الشافعي إلى أنه لا يمكن أن ينعقد إجماع مع سكوت بعض العلماء، بل لا بد من تصريح الكل. واستدل على ذلك بأنه لا ينسب إلى ساكت قول، وبأن العالم قد يسكت مع عدم موافقته لأسباب كثيرة منها:
أـ
…
أن يغلب على ظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار على الفتوى.
ب ـ أن يسكت خوفا من سلطان أو نحوه.
ج ـ أن يسكت لكونه لم ينظر في المسألة بعد، أو لتعارض الأدلة عنده.
وذهب بعضهم إلى أنه يعد حجة ولكن ليس بإجماع. وهذا القول راجع إلى القول بالحجية؛ إذ إن مراد هذا القائل والله أعلم أن الإجماع السكوتي حجة ظنية بخلاف الإجماع الصريح فهو حجة قطعية، ولذلك لا ينبغي أن يعد هذا قولا جديدا في المسألة.
وذهب بعضهم إلى أنه إن كان الذي تكلم في حكم المسألة حاكما فلا يكون سكوت الباقين دليلا على اتفاقهم، وإلا كان دليلا، وهو رأي ابن أبي هريرة من الشافعية، واستدل بأن العادة جارية بعدم الاعتراض على حكم الحاكم وإن كان غيره من العلماء لا يوافقونه، وأنه من عادة العلماء حضور مجالس الحكم وعدم الاعتراض على حكم القاضي وإن كان على خلاف مذهب الحاضرين، وهذه العادة لم تعهد في الفتاوى والآراء الصادرة من غير القضاة فوجب التفريق بينها على النحو السابق.
والراجح: أن الإجماع السكوتي حجة، ولكنه حجة ظنية ليست في درجة الإجماع الصريح.
وما استدل به الإمام الشافعي من أنه «لا ينسب إلى ساكت قول» يجاب عنه بأن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان، والعالم يلزمه أن ينكر المنكر، فإذا سكت عن الإنكار دل سكوته على موافقته على الفتوى.
وما ذكر من الاحتمالات التي يمكن أن يحمل عليها سكوته كلها احتمالات ضعيفة؛ إذ لو تحقق بعضها لقامت عليه قرائن تدل عليه، ولما سكت عن الإنكار إلى وفاته، ثم إن عادة العلماء الجهر بالحق وعدم الخوف من سلطان أو غيره، وإذا سكت العالم عن الإنكار علانية فلن يسكت عن بيان الحق لطلابه
وخاصته وناقلي فقهه، وأما سكوته لعدم نظره في المسألة فلا ينافي الإجماع؛ لأنه حينئذ لا قول له في المسألة.
وينبغي أن نعلم أننا لو اشترطنا تصريح كل عالم بالموافقة على الحكم لما أمكن أن نجد مسألة نقل إلينا فيها قول جميع المجتهدين، وكل ما نقله العلماء الذين ينقلون الإجماع هو من قبيل الإجماع السكوتي، فليتأمل.
وأما الإجماع الضمني، فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه حجة، وهو مذهب أكثر الأصوليين، واستدلوا على ذلك بأن إحداث قول ثالث لا يخلو من أمرين: أحدهما أن يكون هذا القول المحدث خطأ وحينئذ لا يعتد به. والثاني أن يكون هذا القول صوابا فيكون القولان أو الأقوال التي ذهب إليها أهل العصر السابق كلها خطأ فتخلو الأمة في عصرهم عن قائم لله بالحجة، وهذا مستحيل دل على استحالته أدلة حجية الإجماع، فتبين أن كلا الاحتمالين باطل فيكون إحداث قول جديد باطلا.
القول الثاني: أنه ليس بحجة ولا إجماع، واستدلوا على ذلك بأن الإجماع لا يمكن أن يؤخذ من الخلاف، وأصحاب العصر السابق قد اختلفوا فكيف يستدل باختلافهم على الإجماع. وأيضا فإن أصحاب القرن السابق قد اختلفوا في المسألة، فيستدل باختلافهم على أن المسألة خلافية، وأن الخلاف فيها سائغ، وإذا ساغ الخلاف فيها فلا مانع من إحداث قول جديد.
القول الثالث: التفصيل، فإن كانت أقوال المختلفين بينها قدر مشترك والقول المحدث يرفع ما اتفقت عليه فهو باطل، وإن لم يرفع ما اتفقت عليه الأقوال فهو اجتهاد سائغ.
ومثلوا للقول الذي يرفع ما اتفقت عليه الأقوال السابقة بأن الصحابة اختلفوا في ميراث الجد والإخوة فقال بعضهم: يشَرّك بينهم، وقال الآخرون
الميراث للجد، والإخوة محجوبون، والقدر المشترك بين القولين أن الجد لا يمكن أن يحرم من الإرث حينئذ، فلو قال المتأخر: الميراث للإخوة والجد يحجب بهم لكان قوله باطلا مخالفا للإجماع.
ومثلوا للقول المحدث الذي لا يرفع ما اتفق عليه القولان السابقان بما إذا اختلف المتقدمون في العيوب هل يفسخ بها النكاح، فقال بعضهم: لا يفسخ النكاح بالعيوب، وقال بعضهم يفسخ بها، فلو ذهب ذاهب بعد عصرهم إلى أن بعض العيوب يفسخ بها دون بعض لما كان قوله مخالفا للإجماع.
وكذلك مثلوه بالخلاف في متروك التسمية، فلو اختلفوا على قولين: أحدهما بتحريمه والآخر بحله، ثم جاء المتأخر وفرق بين متروك التسمية عمدا ومتروك التسمية سهوا؛ فحرم الأول دون الآخر، لما عد قوله مخالفا للإجماع.
والذي يظهر لي أن قول القائلين إن اختلافهم على قولين إجماع على المنع من إحداث قول ثالث ليس بأولى من قول الآخرين: اختلافهم على قولين تسويغ للخلاف في المسألة وإقرار لكونها اجتهادية لا قطعية، ولهذا فلا يعد اختلافهم على قولين إجماعا على المنع من إحداث قول جديد، والمسائل التي اختلف فيها السابقون على قولين وفصل فيها المتأخرون أكثر من أن تحصى. والعصمة إنما ثبتت للأمة بشرط الاتفاق، أما مع الاختلاف فلم تثبت لهم العصمة، بل ربما أخطأ كل منهم في بعض ما قال وأصاب في بعضه الآخر فلا يمتنع أن يكون القول بالتفصيل هو الصواب.
والأحاديث التي استدل بها من جعل إحداث القول الثالث مخالفا للإجماع، كحديث:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق» وما في معناه، لا دليل فيها على الدعوى؛ لأن المراد بالحديث ليس العصمة من الخطأ في كل مسألة وإن صغرت، وإنما المراد بقاء طائفة من المسلمين على الدين الحق، ووقوع الخطأ منهم في