الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما رأوه في عصرهم من التعصُّب الممقوت الذي يصدُّ عن الحقّ، ويفرِّقُ الأمةَ، حتى أصبح الدينُ كأنه مللٌ شتّى. ومن مظاهره: قولُ بعضِ أتباع المذاهب ببطلان الصلاة خلفَ مَن يُخالفُ المذهبَ؛ لاحتمال أنه فعلَ ناقضاً من نواقض الوضوء التي لا يراها إمامُه ناقضةً، وهي عند إمام المقتدي به ناقضةٌ.
ولا شكّ أن مثلَ هذا مخالفٌ لما عليه المحقّقون من أتباع المذاهب كافّة، وحكوا عليه الإجماع.
حكمُ تقليدِ المجتهد لمجتهد آخَرَ:
نقل كثيرٌ من الأصوليين الاتّفاقَ على أن المجتهدَ إذا نظر في الواقعة وتوصّلَ فيها إلى ظنٍّ غالبٍ بحكم الله، لا يجوزُ له أنْ يتركَ ما غلب على ظنه ويعملَ بظنِّ غيره.
وحصروا الخلافَ في المسألة فيما إذا لم ينظرْ في المسألة بعدُ، أو نظرَ فيها ولم يتوصّلْ إلى ظنٍّ غالبٍ.
وغلط بعضُهم فحصر الخلاف فيما إذا اتّسع الوقتُ للنظر والاجتهاد، وحكى الاتفاق على جواز التقليد للعالم إذا ضاق الوقت عن النظر. والصواب: دخولُ ذلك في الخلاف.
أهم الأقوال في المسألة:
الأول: عدمُ جوازِ التقليد للمجتهد مطلقاً. وهو مذهبُ جمهورِ الأصوليين.
واستدلُّوا بأدلّةٍ كثيرةٍ، منها:
1 -
حديث: «دعْ ما يريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ» (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، فإن رأي المجتهدِ الآخَرِ مما يرتابُ فيه المجتهد، بخلاف رأيه هو.
وفي الاستدلال ضعفٌ، من جهة أن الحديثَ لا يُفيدُ أكثرَ من ترك المشكوكِ فيه والعملِ بالمقطوع. فلا ينطبقُ على مسألتنا.
2 -
الأدلّةُ الدالّةُ على ذمّ التقليد، فإنها تشمل تقليد المجتهد - القادر على النظر - لغيره.
3 -
أن التقليدَ إنما أُذنَ فيه للعاجز عن الاجتهاد، فلا يشملُ القادرَ؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل43]. وعدمُ نظره في المسألة لا يُخرجُه عن كونه من أهل العلم.
القولُ الثاني: لا يجوزُ له التقليدُ، إلاّ إذا ضاق الوقتُ وحضر وقتُ العمل، ولم ينظرْ أو لم يتبيّنْ له فيها رأيٌ. وهو مذهب ابن سُريجٍ، واختاره ابنُ تيميةَ. وجعله بعضُ العلماء جائزاً باتّفاقٍ في هذه الحالة.
ودليلُه: أنه إذا لم يتمكّنْ من النظر لضيق الوقت، أو نظر فلم يظهرْ له حكمٌ معيَّنٌ يكونُ بمنزلة العاميّ؛ إذْ لا يُمكنه التوقُّفُ إلى الأبد.
ولأن اللهَ علّق جوازَ التقليد على عدم العلم بالبيّنات، والمجتهدُ في المسألة التي لم ينظرْ فيها لا علمَ له بأدلّتها.
القولُ الثالث: جوازٌ تقليدٍ المجتهد للأعلم منه، دون مَن هو مثلُه أو أقلُّ منه. وهو مذهب محمد بن الحسن الشيبانيّ.
واحتجَّ: بأن العالم مع مَن هو أعلمُ منه كالعاميّ مع العالم.
وهناك أقوالٌ أخرى: تُجوّز تقليدَ الصحابة وحدهم، أو الصحابة والتابعين.
والراجحُ: القول الثاني، وهو: جوازُ التقليد مع ضيق الوقت لا مع سعته، وكذلك إذا نظر ولم يظهرْ له حكمٌ جاز له التقليدُ؛ وذلك لأن العالمَ حينئذٍ إما أنْ يُقلّدَ، وإما أنْ يتركَ العملَ. ولا يجوزُ له تركُ العمل مع قدرته على سؤال غيره.