الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
أنكر بعض الأصوليين تقسيم الحكم الشرعي إلى تكليفي ووضعي، وجعلوا ما يسميه الجمهور أحكاما وضعية من السبب والشرط وما ذكر معهما، راجعاً إلى الأحكام التكليفية أو التخيير، وقالوا إنها ليست أحكاما بل هي إعلام بالحكم، فالسبب: علامة على الحكم، وكذلك الشرط والمانع علامة على تخلف الحكم، والصحة راجعة إلى إباحة الانتفاع إذا كانت في العقود، والفساد يعني تحريم الانتفاع.
وأما في العبادة فالصحة كون الفعل موافقا للمشروع، والفساد عكسه، وهذا حكم عقلي لا شرعي؛ لأنه يدرك بالعقل.
والصحيح: أنها أحكام شرعية، ولا يصدق عليها اسم شيء من الأحكام الخمسة المتقدمة، ولا بد لها من تسمية فاصطلح على تسميتها بالأحكام الوضعية؛ لأن الشرع هو الذي جعل السبب سببا والشرط شرطا والمانع مانعا الخ.
وإذا تقرر ذلك فهناك فروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، تتلخص فيما يلي:
1 -
أن الحكم التكليفي لا يوصف به إلا فعل المكلف، وهو البالغ العاقل، أما الحكم الوضعي فلا يختلف باختلاف الفاعل، فمن فعل ما هو سبب للضمان أُلزم به، سواء أكان بالغا عاقلا أم لا، فالصبي إذا أتلف شيئا لغيره انعقد سبب الضمان.
2 -
أن الحكم التكليفي من شرطه العلم، فالجاهل به لا يثبت في حقه تكليف،
والحكم الوضعي لا يشترط العلم به، فمن فعل المحرم جاهلا بتحريمه فلا يؤثّم بل يُعذر، ولكن من فعل سببا من أسباب الضمان لزمه وإن لم يعلم بكونه سببا للضمان، فلو منع فضل طعامه مضطرا حتى مات ضمنه، سواء أعلم بأن ذلك سبب للضمان أم لا. ولكن في العقوبات البدنية كالحدود لا يلزمه الحد إذا كان جاهلا بالتحريم، فمن سرق وادعى عدم علمه بحرمة السرقة، وأمكن تصديقه لكونه حديث عهد بالإسلام مثلا، فلا تُجعل السرقة سببا في إقامة الحد عليه؛ لأن وجوب الحد تابع للتحريم، والتحريم حكم تكليفي لا يثبت مع الجهل.
وأما في ضمان المتلفات فإن الضمان ليس تابعا للتحريم بدليل أنه إذا اضطر يباح له الأكل من مال غيره وعليه ضمانه، ولذا قالوا:«الاضطرار لا يبطل حق الغير» .
ومما يزيد الأمر وضوحا أن المرأة يقع عليها الطلاق علمت به أولا، ولكن لو تكلم الزوج بلفظ الطلاق من غير أن يعرف معناه فلا يقع، وكذلك لو تكلم بلفظ الهبة أو البيع دون علم بمعناه، لعدم القصد.
3 -
أن خطاب التكليف يشترط فيه قدرة المكلف على فعل ما كلف به؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة 286]، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج 78]. وأما خطاب الوضع فليس من شرطه ذلك ولهذا فإن كثيرا من الأسباب لا قدرة للمكلف على إيجادها أو منعها ولا يمنع ذلك من كونها أسبابا، مثل دخول شهر رمضان سبب لوجوب الصوم مع كون السبب المذكور ليس في مقدور المكلف منعه ولا إيجاده. وموت المورث سبب للإرث وليس هو من فعل الوارث ولا داخلا تحت قدرته. وكذلك الشأن في الموانع تمنع الحكم وإن كانت ليست من
فعل الإنسان الذي له علاقة بذلك الحكم، فوجود الجمع من الإخوة يمنع الأم من إرث الثلث وليس لها مدخل فيه ولا تستطيع منعه ولا إيجاده.
4 -
أن الحكم التكليفي توصف به الأفعال التي هي من كسب العبد، وما ليس من كسبه لا يكون مكلفا به، فكل فعل يقع من غير كسب من العبد لا يقال إنه حرام عليه ويستحق عليه العقوبة، ولا يقال إنه واجب أو مندوب في حقه فلا ينال عليه ثوابا:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم 39]. وهذا لا يتعارض مع حديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا» (رواه مسلم من حديث جرير البجلي رضي الله عنه مرفوعا)، وذلك لأن التسبب كسب، فما وقع نتيجة لفعله فله أجره وعليه وزره.
وأما الحكم الوضعي فلا يشترط أن يكون من كسب العبد فقد يكون من كسبه ككثير من الشروط التي تشترط لصحة العبادة، وقد لا يكون من كسبه كالأسباب والشروط والموانع الخارجة عن كسبه، فلو أرضعت زوجته طفلة حرمت عليه مع أنه لم يفعل شيئا؛ لأن الرضاع سبب لانتشار المحرمية مع أنه ليس من كسبه.