الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة184]، ولم يضمرْ (فأفطر)، كما أضمرَ الجمهور، فالقاعدة تؤيِّدُه، لولا ما نقلوه من النصّ والإجماع على صحّة صوم المسافر إذا صام.
ومن الأمثلة الصحيحة: أن الجمهورَ حملوا حديث: «ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمه» (رواه الخمسة إلا النسائي عن أبي سعيد) على أن ذكاةَ أمه تكفي عن ذكاته. والحنفية قالوا لا بدَّ أنْ نُضمر (مثل)؛ ليكونَ المعنى: مثل ذكاة أمه، وترك الإضمار أولى من الإضمار.
5 -
تقديمُ التأسيس على التأكيد:
والمرادُ بالتأسيس: حملُ الزيادة في اللّفظ على زيادة المعنى.
والتأكيدُ: حملُ الزيادة على تأكيد المعنى السابق.
مثاله: إذا قال الرجلُ لزوجته: أنتِ طالقٌ طالقٌ. فهل يُحمَلُ على التأكيد فلا تقعُ إلاّ واحدةً، أو على التأسيس فتقعُ طلقتان. والقاعدة تُؤيِّدُ الاحتمالَ الثاني عند من لا يعتبر النية.
الترجيحُ بين المعقولين:
الترجيحُ بين المعقولين يُقابلُ الترجيحَ بين المنقولين.
والمراد بالمعقولين: الأقيسةُ وطرقُ الفقه الأُخرى، التي ليست بنقلٍ ولا قياسٍ، ويُسميها بعضُهم الاستدلالَ، ويَدخل فيها الاستصحابُ بأنواعه، والاستصلاحُ، والاستقراءُ عند مَن يرى حجيته.
ولكن المقصودَ هنا هو الترجيحُ بين الأقيسة، وأما الترجيحُ بين أنواع الاستصحاب فيُعرف عندَ الكلام عنه، وكذلك الاستصلاحُ، والاستقراءُ.
وقد ذكر الأصوليون كثيراً من طرق الترجيح بين الأقيسة، بعضُها يرجع
إلى ترجيح حكمِ الأصل في أحد القياسَين على حكم الأصل الآخَر، أو ترجيحِ دليلِ حكم الأصل على دليل حكم الأصل الآخَر.
ويذكرون فيه طرقَ الترجيح بين الأدلة المنقولة التي تقدَّم ذكرُ أهمِّها، ثم يزيدون عليها طرقَ الترجيح بين العلل.
ويُعَدُّ الآمديُّ من أكثر الأصوليين توسُّعاً في عدِّ طرق الترجيح بين الأقيسة، فقد ذكر في الترجيح العائد إلى حكم الأصل ستةَ عشرَ طريقاً، وفي الترجيح العائد إلى العلة خمسة وثلاثين طريقاً، وفي الترجيحات العائدة إلى الفرع أربعةَ طرقٍ. والذين جاءوا بعدَه أخذوا عنه.
ومع كثرة ما ذكره من طرق الترجيح لم يُمثّلْ لها، وكذلك غيرُه من الأُصوليين لم يُعنوا بالتمثيل لطرق الترجيح.
والمتأمِّل لتلك الطرق يجدُ أنها لم تستوعبُ جميعَ الاحتمالات الممكنة في التعارُض؛ لأن بعضَ الأقيسة قد تكونُ فيه صفةٌ تُميِّزه، والآخَرُ فيه صفةٌ أخرى تُميِّزه. وقد تكون في أحد الأقيسة صفتان، وفي الآخَر صفتان أو ثلاث.
ولا يُمكنُ الترجيحُ بين الأقيسة حتى نُبيِّنَ ما الذي يجبُ النظرُ فيه أولاً من أركان القياس؟
فهل ننظرُ أولاً في حكمِ الأصل ودليلِ ثبوته، بحيثُ إذا ترجّحَ دليلُ الثبوت في أحد القياسَين يكونُ هو الراجحُ؟
وهل يُمكنُ أنْ نجعلَ النظرَ أولاً في العلَّة، فإذا ترجّحتْ ترجّحَ القياسُ المبنيُّ عليها؟
وحتى لو سلَّمنا أحدَ هذين الاحتمالين فإن للترجيح بين الأصلين وبين العلّتين طرقاً كثيرةً. فنحتاجُ إلى معرفة ما يُقدَّمُ منها على الآخَر.
وهذا الإشكالُ لا سبيلَ إلى حلِّه إلاّ بأنْ نجعلَ الأمرَ متروكاً للمجتهد، فينظرَ في مجمَل هذا القياس؛ بأصلِه، وعلَّتِه، وفرعِه، فيُقوِّمه، ثم ينظر في القياس الآخَر؛ بأصلِه، وعلَّتِه، وفرعِه، فيُقوِّمه، ثم يُقدِّم ما يراه راجحاً، مستفيداً مما يذكره الأصوليون من طرق الترجيح في الجملة.
ولعلَّ ورودَ هذا الإشكال في أذهان الأصوليين المتقدِّمين هو الذي حال بينهم وبين التمثيل لما يذكرونه من طرق الترجيح؛ لأن مَن أراد أنْ يُمثِّلَ لتقديم القياس الذي أصلُه ثبت بدليلٍ قطعيٍّ على القياس الذي ثبتَ أصلُه بدليلٍ ظنّيٍّ، يصعُبُ عليه أنْ يراعيَ ترجيحَ العلَّةِ في القياس الأول على العلّة في القياس الثاني، فقد يكونُ القياسُ ثبت أصلُه بدليلٍ قطعيٍّ، ولكن علّتَه شبَهيةُ وليستْ مُناسِبةً. وقد تكون علّتُه اسماً لا وصفاً، وقد تكونُ مركَّبةً من أوصافٍ لا مفرَدةً.
وهكذا لا يستطيعُ أنْ يُمثِّلَ برجحان هذا القياس على ذاك؛ لرُجحان أصله وحده، أو دليل أصله وحده، أو علّته وحدها. ولكن الترجيحَ لجملة قياسٍ على قياسٍ.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيراً من طرق الترجيح مختلَفٌ فيها، تأيَّدَ ما ذكرناه من أن الترجيحَ يرجعُ إلى قوَّة الظنّ لدى المجتهد من أيّ طريقٍ حصلت.
وأن ما يُذكَرُ من طرقٍ إنما هو لمساعدة المجتهد على استذكار طرق المفاضلة بين الأقيسة. قال الزركشيُّ: «واعلم أن التراجيحَ كثيرةٌ، ومناطُها ما كان إفادتُه للظن أكثرَ فهو الراجحُ» (1).
وحيثُ إن العلةَ هي أهمُّ أركانِ القياس فإن أكثرَ طرق الترجيحِ ترجِعُ إلى
(1) البحر المحيط 6/ 159.