الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد
التعريف بأصول الفقه
1 -
نشأة أصول الفقه:
أصول الفقه ككثير من العلوم الإسلامية لم يأخذ شكله النهائي الذي يميزه عن سائر علوم الشريعة إلا في آخر القرن الثاني، أما في العهد النبوي وعهد الصحابة وأوائل عهد التابعين فلم يكن أصول الفقه علما مستقلا متميزا عن غيره من علوم الشريعة، ولكن قواعده العامة كانت موجودة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأدلة الشرعية التي هي موضوع هذا العلم الرئيس كانت معروفة، والاستدلال بالكتاب والسنة والقياس كان حاصلا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة الكتاب والسنة كانت معروفة للصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بحكم معرفتهم بلغة العرب التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أمراء الفصاحة والبيان، وأعرف الناس بمعاني اللغة من حقيقة ومجاز، وإطلاق وتقييد، وعموم وخصوص، ومنطوق ومفهوم، ولم يكونوا بحاجة إلى أن توضع لهم قواعد تبين طرق الدلالات.
وهم بالإضافة إلى ما سبق قد عرفوا أسباب النزول، والظروف التي قيلت فيها الأحاديث القولية، وشهدوا الحوادث التي قضى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بقضاء أو سنَّ فيها سنة، فأغناهم ذلك عن كثير مما احتاج إليه المتأخرون، وكانوا يجمعون إلى ذلك سلامة النية وحسن القصد في طلب الحق من غير هوى ولا تعصب.
كان الصحابة رضي الله عنهم يفزعون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يعرض لهم من الحوادث،
فإن كان الحكم قد أوحي إليه به أفتاهم وأرشدهم، سواء أكان الوحي متلواً أم غير متلو، وإن لم ينزل عليه في ذلك وحي صريح نظر فيما أوحي إليه، فإن ظهر له حكم المسألة أخبرهم به وإلا انتظر الوحي الذي لا يلبث أن يأتيه عن قرب بحكم ما أشكل عليه.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة بالحمر الأهلية، فقال:«ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة 7 - 8]» (متفق عليه).
فهذا استدلال من الرسول صلى الله عليه وسلم بعموم الكتاب على مسألة جزئية، ومثله إنكاره على أبي بن كعب رضي الله عنه تأخره عن إجابة ندائه لاشتغاله بالصلاة، واستدلاله عليه بعموم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال 24](أخرجه أحمد والترمذي)، ومثل هذه القصة ما حصل لأبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه (أخرجه البخاري).
ومن اجتهاداته فيما لم يرد فيه نص بخصوصه ولا بعمومه اجتهاده في أخذ الفداء من أسرى بدر، وعقد الصلح مع أهل مكة عام الحديبية، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
وأما الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يجتهدون في فهم النصوص من الكتاب والسنة، ويسأل بعضهم بعضا فيما خفي عليه، ويقيسون المسائل بما يشبهها، ولم يكونوا بحاجة إلى وضع قواعد تضبط استدلالهم مع حضور تلك القواعد في أذهان المجتهدين منهم، وكذلك كان الحال في عهد كبار التابعين مع ظهور التفاضل بينهم في العلم والفتوى.
وفي أواخر عهد التابعين بدأت المدارس الفقهية تظهر قدرا أكبر من التمايز
والاختلاف، فبرز في العراق ما سمي أخيرا بمدرسة أهل الرأي، وبرز في المدينة ما عرف بمدرسة أهل الحديث (1). وكان طلاب الفتوى يترددون بين علماء هذا الاتجاه أو ذاك، وربما سأل بعضهم في النازلة أكثر من عالم من غير أن ينكر هؤلاء أو أولئك على عوام الناس سؤالهم لمن يثقون به.
وكان في كل بلد من حواضر الإسلام علماء يرجع إليهم الناس في الفتيا والقضاء، ولهؤلاء العلماء طلاب تأثروا بمنهجهم واقتفوا آثارهم وربما التقى العلماء فتناظروا وأدلى كل منهم بحجته، فإما أن يرجع أحدهم إلى قول صاحبه أو يبقى على رأيه لقناعته بصحته لا حبا في الخلاف، وربما التقى الطلاب فتفاخر كل منهم بأستاذه ومعلمه.
وفي هذه الأثناء بدأ التعصب لرأي الشيخ والإعجاب به يطغى على الإنصاف عند بعض الطلاب، ولم تكن هناك قواعد يرجع إليها لوزن الآراء ومعرفة الراجح منها والمرجوح.
وفي هذا الوقت كثر اختلاط العجم بالعرب، وضعف اللسان العربي، ودخل الوضع في الحديث لنصرة مذهب سياسي أو لتأييد رأي، وتصدر للرواية من لم يكن أهلا، واحتاج القرآن إلى تفسير وإيضاح، واحتاجت السنة إلى تمييز الصحيح منها عن الضعيف.
ولذلك كله شرع الإمام الشافعي رحمه الله في وضع قواعد تضبط الاستدلال، وتبين ما يصلح دليلا وما لا يصلح، وتبين عمل الفقيه عند تعارض الأدلة عنده، وتؤسس قواعد الفهم لنصوص الكتاب والسنة، فكتب الرسالة، وجعلها بمثابة مقدمة لكتاب الأم، فتلقاها أكثر الناس بالقبول وأعجبوا بها
(1) في معالم السنن: انقسام أهل الزمان إلى أهل حديث وأثر، وأهل فقه ونظر.
حتى قال الإمام أحمد: «ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه مِنَّة، فقلنا: يا أبا محمد كيف ذلك؟ قال: إن أصحاب الرأي كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام عليهم الحجة» (1). ولم يكن كتاب الرسالة هو كل ما كتبه الشافعي في أصول الفقه، بل كتب كتبا أخرى لكنها لم تكن في شمول الرسالة ولا في تمحضها لمسائل هذا العلم، ومن تلك الكتب اختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وجماع العلم، وكتاب أحكام القرآن (2).
وبعد الإمام الشافعي تتابع التأليف في هذا العلم فكتب الإمام أحمد بن حنبل كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتب داود الظاهري: الإجماع، وإبطال التقليد، وخبر الواحد، والخصوص والعموم، وكتب عيسى بن أبان كتابا في خبر الواحد، وكتب الكرخي رسالة في أصول الفقه طبعت مع كتاب تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي وهي تقع في ورقات قليلة أشبه بقواعد فقهية لعلماء الحنفية، ومن أقدم كتب الحنفية الموجودة: الفصول، لأبي بكر الجصاص، وهو مطبوع محقق.
وكان القرنان الخامس والسادس هما عصر ازدهار التأليف في أصول الفقه، حيث ظهرت فيهما أهم كتب أصول الفقه مثل العمد للقاضي عبد الجبار، والمعتمد لأبي الحسين البصري، واللمع، والتبصرة كلاهما لأبي إسحاق الشيرازي، والعدة للقاضي أبي يعلى، والمستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل للغزالي، والواضح لابن عقيل، والتمهيد لأبي الخطاب الكلوذاني، وأصول السرخسي، وأصول البزدوي، وإحكام الفصول، والإشارة، لأبي الوليد الباجي.
(1) الانتقاء لابن عبد البر ص 86.
(2)
البحر المحيط 1/ 7.
وفي أواخر القرن السادس وما بعده انتشرت المختصرات والشروح، فأما المختصرات فكان القصد منها الحفظ وجمع أكبر قدر من المسائل الأصولية في كتاب صغير يمكن حفظه. وأما الشروح فكان القصد منها حل ما في المختصرات من إشكال، وتفصيل ما فيها من إجمال، وتقريب المسائل بضرب الأمثلة وبيان الراجح من الأقوال بذكر الأدلة.
وفي العصر الحديث ضعفت همم الناس عن حفظ المختصرات، وقصرت أفهامهم عن إدراك ما فيها من المبهمات، ولم يجدوا من الوقت ما يقضونه في دراسة المطولات، من الشروح والمؤلفات، فاحتاجوا إلى نوع جديد من المؤلفات، يكون سهل العبارة محصلا للمقصود من أصول الفقه بأيسر طريق.
ولما كان أصول الفقه من علوم الآلة لا من العلوم التي تقصد لذاتها وإنما للتوصل إلى الفقه في الدين ومعرفة الحلال من الحرام بطريق يطمئن إليها العالم ويقتنع بها طالب العلم، لم أر بأساً من الإسهام في إعادة صياغة هذا العلم بأسلوب ميسر، مع المحافظة على أسسه وقواعده، ومحاولة التقريب بينه وبين الفقه، ليمتزج العلمان فتؤخذ الثمرة من المثمِر طرية يانعة.
وما يتخوّف منه بعض الغيورين من ابتعاد الناس عن كتب التراث وجهلهم بلغتها وأسلوبها إن هم اكتفوا بتلك المؤلفات الحديثة، لا أرى له ما يؤيده من النقل ولا من العقل؛ فإن النقل إنما جاء بالأمر بالتفقه في الدين ومعرفة حكم الله جل وعلا بالطريق الصحيح والعمل به:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة 122]«رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها» ، ولم يتعبدنا الله جل وعلا بقراءة كتاب غير كتابه ولا بحفظ كلام سوى كلامه، ولم يتعبدنا الله بالاجتهاد في فهم معميات المختصرات، ولا بالاجتهاد في منطوق