الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة: [204]
إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدِّم أرجحهما
الألفاظ الأخرى
- الشارع يعتر المفاسد والمصالح، فإذا اجتمعا قدم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة.
التوضيح
على العالم والمجتهد والمفتي أن ينظر إلى المصلحة والمفسدة معاً في الأعمال
والتصرفات، فينظر إلى ما في المحرم من مفسدة تقتضي تركه، وإلى ما في الواجب من مصلحة تقتضي فعله، ثم ينظر إلى الراجح منهما، ويجب ترجيح الراجح منها؛ لأن الأمر والنهي وإن كان متضمناً مصلحة ودفع مفسدة فيجب النظر إلى المعارض له.
فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، كالصيام للمريض، والطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت؛ لأنه إذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، بل تكون حسنة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة، بل تكون سيئة.
فالعبد إذا تعين عليه فعل واجب، وكان هذا الواجب لا يمكن فعله إلا بارتكاب محرم، فينظر: إن كانت المفسدة الحاصلة بارتكاب المحرم أعظم من المصلحة الحاصلة بفعل الواجب فعليه الامتناع عن هذا المحرم، وإن تضمن ترك واجب، وإن كانت المصلحة الحاصلة بفعل الواجب أعظم من المفسدة الحاصلة بارتكاب المحرم وجب عليه فعل الواجب، وإن تضمن ارتكاب محرم، وهذا يؤكد أن الشريعة جاءت
لتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها ما أمكن، وأنه يختلف ترجيح المصلحة على المفسدة، أو العكس بحسب الأحوال والوقائع.
وهذه القاعدة تقابل القاعدة الكلية العامة السابقة:
"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح "
وقد يكون تقديم الأرجح أكثر قبولاً واتفاقاً مع مقاصد الشريعة، ويكون
ميزان التقدير للمصالح والمفاسد هو الكتاب والسنة والآثار العملية للفحل، فإن تساوت المصالح والمفاسدكان درء المفاسد أولى.
والأدلة على صحة هذه القاعدة كثيرة في القرآن والسنة.
فمن القرآن قوله تعالى:.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) ، فالخمر والميسر فيهما منافع تحقق بعض المصالح
للناس، وفيهما إثم كبير، وفساد عريض، ولذلك حرمهما الله تعالى لتقديم المفسدة الراجحة على المصلحة المرجوحة.
وقال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) .
فالقتال فيه قتل الأنفس وإزهاقها، وإتلاف المال، وهذا مفسدة، ولكن فيه خير كثير في نشر الدعوة، والدفاع عن الدِّين والنفس والأرض والعرض، فشرع لأن المصلحة الراجحة مقدمة على المفسدة المرجوحة، ومثل ذلك القتال في المسجد الحرام، والقتال في الشهر الحرام، ففيه
مصلحة راجحة.
ومن السنة أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:
"إياكم والجلوس بالطرقات " قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال:"إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"
قالوا: وما حقه؟
قال: " غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام.
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ".
فالجلوس بالطريق فيه أذى ومفسدة، ولكن
فيه مصلحة وحاجة للناس، فأباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المصلحة راجحة على المفسدة، مع الالتزام بآدابه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"ويؤخذ منه أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، لندبه أولاً إلى ترك الجلوس، مع ما فيه من الأجر لمن عمل بحق الطريق ".
التطبيقات
1 -
الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها، من جهاد العدو وقسم الفيء، وإقامة الحدود، وأمن السبيل، كان فعلها واجباً، فإذا كان ذلك مستلزماً لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء بعض ما لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك، صار هذا (مع المفسدة فيه) من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجباً أو مستحباً، إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب..
(ابن تيمية، الحصين 1 / 248)
2 -
الأمر أو النهي، وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد، أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته كثر من مصلحته، وعلى هذا:
إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه.
وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما، ولم ينه عنهما..
(ابن تيمية، الحصين 1 / 248، 257) .
3 -
مقارنة الفجار ومجالستهم، إنما يفعلها المؤمن في موضعين.
أحدهما: أن يكون مكرهاً عليها.
والثاني: أن يكون في ذلك مصلحة دينية راجحة
على مفسدة المقارنة، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه.
فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة..
(ابن تيمية، الحصين 1 / 249)
4 -
إذا كان لا يتأتى فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب، فإذا لم يمكن إلا ذلك فهنا لا يبقى سيئة؛ لأن ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فهو واجب أو مستحب، ثم إن كانت مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظوراً، كأكل الميتة للمضطر، ونحو ذلك من الأمور المحظورة التي تبيحها الحاجات كلبس الحرير في البرد..
(ابن تيمية، الحصين 1 / 250) .
5 -
أجاز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صفوف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين..
(ابن تيمية، الحصين 1/ 255) .
6 -
إكراه الباعة البيع بقيمة المثل لما يحتاج الناس إليه من تلك المبيعات، فالإكراه مفسدة، ولكن مصلحة الناس بالبيع، وبقيمة المثل مصلحتان جليلتان.
(ابن تيمية، الحصين 1/ 257) .
7 -
التكسب من مال فيه شبهة أو دناءة كالحجامة مثلاً، خير من التورع عنه والبقاء عالة على الناس يستجديهم ويسألهم، ويضيِّع حقوقاً عليه واجبة لأمر مشتبه فيه، وجميع الخلق عليهم واجبات من نفقات أنفسهم وأقارجهم وقضاء ديونهم وغير ذلك، فإذا تركوها كانوا ظالمين ظلماً محققاً، وإذا فعلوها بشبهة لم يتحقق ظلمهم.
فكيف يتورع المسلم عن ظلم محتمل بارتكاب ظلم محقق، ويجب أداء الواجبات، وان لم تحصل إلا بالشبهات..
(ابن تيمية، الحصين 1/ 259) .