الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حكم الأشياء بعد البعثة]
وأما بعد البعثة: فالذى استقر عليه أصحابنا وجمهور أهل العلم: أن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم (1) بالأدلة الشرعية كما تقدم، وبقوله عليه الصلاة والسلام:(إِن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها). وهو حديث حسن رواه الدارقطني (2) وغيره (3)(4). وفي بعض طرقه: (الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرم الله، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه)(5). رواه الترمذى
(1) هذه المسألة موجودة في المراجع التالية: المحصول (جـ 2/ ق 3/ 131) فما بعدها، والمجموع المذهب ورقة (76 / ب)، والإبهاج (3/ 177)، ونهاية السول (3/ 126).
(2)
أخرجه الدارقطني في آخر كتاب الرضاع ونصه عنده: عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها). سنن الدارقطني (4/ 184).
وأخرجه -أيضًا- الدارقطني بنحو اللفظ المتقدم عن أبي الدرداء، وذلك في آخر باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك.
وفي سنده نهشل الخراساني، قال إسحاق بن راهويه: كان كذاباً. وقال أبو حاتم والنسائي: متروك .. وقال يحيى والدارقطني: ضعيف.
انظر: سنن الدارقطني ومعها التعليق المغني (4/ 297، 298).
(3)
ممن أخرجه -أيضًا- الحاكم بنحو اللفظ الوارد في المتن عن أبي ثعلبة الخشني، وذلك في كتاب الأطعمة.
انظر: المستدرك (4/ 115).
(4)
ذكر ذلك النووى. انظر: الأربعين النووية مع شرحها لابن دقيق العيد (91).
(5)
أخرجه الترمذى في كتاب اللباس، باب: ما جاء في لبس الفراء.
انظر: سنن الترمذى (4/ 220).
وابن ماجة في كتاب الأطعمة، باب: أكل الجبن والسمن.
انظر: سنن ابن ماجة (2/ 1117).
وسندهما واحد. ونص الحديث عندهما: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم =
وابن ماجة (1). ويتخرج علي هذا مسائل وقواعد:
منها: في الأطعمة: أن الأصل في الحيونات (2) الإباحة (3)، إلا ما دل دليل خاص على خلاف ذلك (4). فلو وجد حيوان لم ينص الشرع فيه على تحليل ولا تحريم، ولا أمر بقتله، ولا نهي عن قتله، ولا نص على نجاسته، ولا هو في معنى المنصوص عليه بتحريم أو تنجيس، ولا خالطته نجاسة، ولم تجر للعرب عادة باستطابته ولا باستخباثه، ولا أشبه شيئًا منها، ففيه وجهان مشهوران:
= الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه).
(1)
الأدلة التي ذكرها المؤلف تدل على أحد شقي هذه المسألة، وهو أن الأصل في المنافع الإباحة. أما الشق الثاني، وهو أن الأصل في المضار التحريم فيستدل له من القرآن الكريم بقوله تعالى في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} من الآية (157) من سورة الأعراف. ومن السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: - (لا ضرر ولا ضرار).
ووجه الاستدلال به أن النفي في الحديث لا يمكن أن يقصد به نفي الوقوع أو الإمكان فدل على أن المراد به نفي الجواز، انظر: الإبهاج (3/ 178).
(2)
أى في أكل لحمها.
(3)
وجه تخريج هذه القاعدة على المسألة المتقدمة أن أكل لحوم معظم الحيوانات منفعة للإنسان، وقد تقدم أن الأصل في المنافع الإباحة، فينتج أن الأصل في أكل لحوم الحيوانات الإباحة.
(4)
ذكر النووى أن الأصل فيما يتأتى أكله من الجمال والحيوان الحل، إلا ما يستثنيه أحد أصول.
وتلك الأصول أربعة.
أحدها: نص الكتاب أو السنة على تحريمه، كالخنزير والخمر.
الثاني: الأمر بقتله، كالحية والعقرب
الثالث: النهي عن قتله، كالنمل.
الرابع: الاستخباث، وفيمن يعتبر استخباثه خلاف.
انظر: روضة الطالبين (3/ 271) فما بعدها، وبما ذكرته عن النووى يتضح كلام المؤلف التالي.
أصحهما: الحل، عملاً بالقاعدة، وهي: أن الأصل بعد البعثة في المنافع الإباحة. قال الإمام (1): "وإليه ميل الشافعي". والثاني يحرم؛ لأن الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع التحريم فيستصحب. وهو ضعيف.
ومن القواعد المترتبة أيضًا: القول بالبراءة الأصلية، واستصحاب حكم النفي في كل دليل مشكوك فيه، حتى يدل دليل على الوجوب، كما في تعميم مسح الرأس في الوضوء.
والفرق بين البراءة الأصلية والاستصحاب المتقدم في القاعدة الأولى: (2) أن البراءة تكون في العدم الأصلي، والاستصحاب يكون في الطارئ ثبوتًا كان أو عدمًا (3). والله أعلم.
* * *
(1) نقل النووى قول الإمام في: الروضة (3/ 276).
(2)
نهاية الورقة رقم (33).
والاستصحاب المتقدم في القاعدة الأولى ذكره المؤلف في عدة مواضع منها: قوله: - "لو أحرم بالصلاة في آخر وقت الجمعة، ونوى الجمعة إن كان وقتها باقيًا وإلا فالظهر، فبان بقاء الوقت، ففي صحة الجمعة وجهان، وجه الجواز: اعتضاد نيته باستصحاب الوقت، كليلة الثلاثين من رمضان". ورقة (10 / ب). وقوله: - "اعلم أنه لا شك أن النية لا يشترط استحضارها دائمًا فيما هي شرط فيه؛ لتعذر ذلك، فاكتفى الشارع صلى الله عليه وسلم باستصحابها مع عدم المنافي لها وتكون حكمية" ورقة (10 / ب).
(3)
مثال الاستصحاب في الطارئ الثبوتي: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث، فإِنه يعتبر طاهرًا، استصحابًا ليقين الطهارة. والطهارة أمر طارئ ثبوتي.
ومثال الاستصحاب في الطارئ العدمي: إذا تيقن عدم الطهارة وشك في الطهارة، فإنه يعتبر غير متطهر، استصحابًا ليقين عدم الطهارة. وعدم الطهارة أمر طارئ عدمي.
فائدة (1): [في](المعاقدة بالكتابة، وبغير التخاطب)
الخلاف الأصولي في تسمية الكلام في الأزل خطابًا (2)، يضاهيه (3) من الفقه معاقدة المتبايعين (4) بالكتابة (5) وبغير التخاطب، وفيه صور:
منها: وقوع الطلاق بالكتابة مع النية بغير أن يتلفظ به، وفيه خلاف، والأصح: وقوعه.
ومنها: البيع بذلك مع الغيبة، وهو مبني على مسألة الطلاق، إِن قلنا: لا يقع [فالبيع](6) أولى أن لا يصح. وإن قلنا: بالصحة
(1) الفائدة التالية ذكرها ابن الوكيل في الأشباه والنظائر: ورقة (13 /أ)، والعلائي في المجموع المذهب: ورقة (77 /أ).
(2)
الخلاف حاصل بناء على قول الأشاعرة في معنى كلام الله تعالى، وهو أن المقصود بالكلام المعنى النفسي، وهو قديم عندهم قدمًا أزليا، أي قبل خلق الله للخلق، والخلق هم المخاطبون، فهل يسمي الكلام خطابًا مع عدم وجود المخاطبين؟
قال تقي الدين السبكي: - "قال القاضي أبو بكر: الكلام يوصف بأنه خطاب دون وجود مخاطب، ولذلك أجزنا أن يكون كلام الله في أزله، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في وقته مخاطبة على الحقيقة، وأجزنا كونه أمرًا ونهيًا" الإبهاج (1/ 43).
وذكر الآمدي ما ما يفيد أنه لا يسمى خطابًا، انظر: الإحكام (1/ 220).
(3)
أي يشابهه.
(4)
كان من الواجب أن يعبر المؤلف بالمتعاقدين بدل المتبايعين؛ لأنه ذكر فيما يلي عدة صور، والمتعاقدان في بعضها غير متبايعين.
(5)
وجه مشابهة المعاقدة بالكتابة للخلاف الأصولي المذكور أن العاقد إِذا كتب إِيجاب العقد يكون قد وجّه إيجاب العقد إِلى العاقد الآخر مع عدم وجوده، فهل يسمى ذلك خطابًا أم لا؟
هذا وقد ذكر مسائل الكتابة كل من النووي في روضة الطالبين (3/ 338) و (8/ 40). والمجموع (9/ 154)، والسيوطى في الأشباه والنظائر (308).
(6)
ما بين المعقوفتين لا يوجد في المخطوطة، ولكن لا بد منه لتمام المعنى.
هناك (1)، ففي البيع وجهان، صحح البغوى: المنع (2). والغزالي والرافعي في كتاب الطلاق وتبعه النووى: أنه يصح (3). وعلى هذا فشرطه: أن يقبل المكتوب إِليه حالة اطلاعه على الكتاب (4) على الأصح. وقيل: يكفي التواصل اللائق (5) بين الكتابين.
أما إِذا تبايع الحاضران بالمكاتبة فهو مبني على [البيع بها مع](6) الغيبة، إِن قلنا هناك: لا يصح، فهنا أولى. وإن صححنا هناك فهنا وجهان، ولم يصححوا شيئًا، وينبغي أن يرجح المنع؛ لأن في الغيبة ضرورة، ولا ضرورة مع الحضور. ومن صحح اعتبر (7) ما يدل على الرضا (8) كالمعاطاة، وقد يقال: جوزت المعاطاة؛ لاعتياد الناس، ولم تجر عادة بالكتابة مع الحضور.
(1) وردت في المخطوطة هكذا (هنا). والصواب ما أثبته، وهو الوارد في المجموع المذهب.
(2)
وعبارة العلائي: - "صحح في التهذيب المنع". المجموع المذهب: ورقة (77 /أ).
وكتِبَ مقابل هذه العبارة على الهامش: "المهذب".
وقد بحثت عن هذه المسألة في كتابي البيع والطلاق من التهذيب للبغوى فلم أجدها. ثم بحثت عنها في كتاب المهذب لأبي إسحق الشيرازى فوجدتها، ووجدته قد صحح هذا الوجه.
انظر: المهذب: (1/ 257).
أقول: فالظاهر مما تقدم أن الصواب أن يقال: صحح الشيرازى في المهذب: المنع.
(3)
قال الغزالي بصحة البيع بالمكاتبة مع الغيبة في فتاويه: ورقة (84 / ب).
أما الرافعي: فإنه ذكر أن في المسألة وجهين ثم قال: "والإشبه الانعقاد". فتح العزيز، جـ 13: ورقة (4 /أ).
وقال النووى: بانعقاد البيع بالمكاتبة في: روضة الطالبين (3/ 338).
(4)
ليكون القبول متصلاً بالإيجاب.
(5)
اللائق معناه: المناسب.
(6)
ما بين المعقوفتين لا يوجد في المخطوطة.
(7)
أى في صحة البيع.
(8)
والكتابة تدل على الرضا.
وأما عقد النكاح بالكتابة ففيه خلاف مرتب على البيع، والمذهب: أنه لا يصح (1)؛ لأن الإشهاد شرط فيه، والكتابة كناية (2)، ولا اطلاع للشهود على النية، ولو قالا بعد الكتابة: نوينا ذلك. كان ذلك شهادة على الإقرار؛ لا على نفس العقد، والشهادة شرط في الانعقاد.
ومنها: إِذا كتب إِليه: وكلتك في كذا. من بيع أو إِعتاق ونحو ذلك، فهو مبني على البيع إن شرطنا القبول [في الوكالة](3)، و (4) هنا أولى بالصحة (5). وإن لم تفتقر الوكالة إِلى القبول فيصح قطعًا (6).
ومنها: إِذا قال: بعت دارى من فلان بكذا. فلما بلغه الخبر قال: اشتريت. قال النووي: "خرجه بعض الأصحاب على انعقاد البيع بالكتابة لأن النطق أقوى من الكتب"(7).
(1) ممن قال إِن ذلك هو المذهب النووى في: الروضة (8/ 41)، والمجموع (9/ 155).
(2)
والكناية لا بد فيها من النية.
(3)
ما بين المعقوفتين لا يوجد في المخطوطة، وقد أثبته للحاجة إِليه في استقامة المعنى، وقد ذكره العلائي في المجموع المذهب: ورقة (77/ ب).
(4)
ورد بدل هذا الحرف في المخطوطة حرف آخر هو (الفاء). وما أثبته هو الصواب، وهو الوارد في المجموع المذهب.
(5)
أى الوكالة المكتوبة أولى بالصحة من البع المكتوب.
(6)
قال النووى مقابل العبارة المتقدمة: - "إِن قلنا: الوكالة لا تفتقر إِلى القبول. فهو كَكَتبِ الطلاق". روضة الطالبين (8/ 41).
(7)
نص عبارة النووى في هذا الشأن: - " قال بعض الأصحاب تفريعًا على صحة البيع بالمكاتبة: لو قال: بعت دارى لفلان وهو غائب، فلما بلغه الخبر قال: قبلت: انعقد البيع؛ لأن النطق أقوى من الكتب" المجموع (9/ 154)، والروضة (3/ 339).
ومنها: إذا قال المتوسط للبائع: بعت هذا من فلان بكذا؟ فقال: نعم، أو بعت. وقال للمشترى: اشتريت منه بكذا؟ فقال: نعم، أو اشتريت. فوجهان، أحدهما: لا ينعقد؛ لعدم تخاطبهما، وبه قطع المتولي (1). والثاني: يصح؛ لوجود الصيغة والتراضي، وصححه البغوى والرافعي (2) وغيرهما.
ومنها: إذا قال: أقلني. فقال عقيبه أو مع غيبة الملتمس (3): أقلت. نقل أبو منصور عن عَمِّه ابن الصباغ أنه قال: "تصح الإقالة مع غيبة المستقبل"(4).
ومنها: إذا قال: بعني. فقال: قد باعك الله تعالى: أو قال: بارك الله لك فيه. أو قال: أقلني (5). فقال: قد أقالك الله تعالى. فذاك كناية، إن نواهما (6) صحا، وإلا فلا، ويكون التقدير: قد أقالك الله؛ لأني قد أقلتك ونحوه.
وأما النكاح فلا ينعقد بمثله (7).
* * *
(1) ذكر ذلك النووى في: المجموع (9/ 157).
(2)
صححه الرافعي في: فتح العزيز (8/ 105). كما نقل تصحيح البغوى.
(3)
في أشباه ابن الوكيل: ورقة (13/ ب): "فقال عقبها في غيبة الملتمس: أقلت" .. والظاهر أنه أولى مما ذكره المؤلف.
(4)
قول ابن الصباغ المتقدم ذكره ابن الوكيل في الأشباه والنظائر: ورقة (13/ ب).
(5)
وردت هذه الكلمة في المخطوطة بلا ألف هكذا: قلني.
(6)
أى البيع والإقالة.
(7)
هذه المسألة ذكرها النووى نقلاً عن الغزالي في فتاويه، انظر: المجموع (9/ 154)، والروضة (3/ 339).
ولم يظهر لي وجه إلحافها بالفائدة المتقدمة.