الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس نشأة القواعد الفقهية وتطورها
لا يعلم بالتحديد الوقت الذي ابتدأ فيه وضع القواعد الفقهية؛ إلا أنني أرجح في الجملة أن القواعد المستنبطة من النصوص أسبق في الوضع من القواعد المستنبطة من المسائل المتشابهة؛ ووجه ذلك: أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة سابقة في الوجود للمسائل الفقهية.
وهناك قصة جرت بين الكسائي النحوي المتوفى سنة 189 هـ، ومحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة المتوفى سنة 189 هـ، وهي: أن الكسائي قال: لا أُسْأَلُ عن مسألة في الفقه إِلا أجبت عنها من قواعد النحو. فقال له محمد بن الحسن: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، يسجد؟ قال: لا؛ لأن المُصَغَّرَ لا يُصَغَّر (1).
وهذه القصة تعطينا أن الالتفات إِلى القواعد وتخريج الفروع عليها كان موجودًا في منتصف القرن الثاني.
ولعل انشغال الفقهاء في القرون الأولى بالنظر في أحكام الحوادث الجديدة، التي وجدت مع التوسع في الفتح ومخالطة أقوام وبيئات جديدة، قد صرفهم عن العمل في تقعيد القواعد.
وبعد أن بدأت الأحوال في البلاد الإِسلامية تستقر تبع ذلك قلة الحوادث الجديدة، وكان بين أيدي الفقهاء رصيد ضخم من الجزئيات الفقهية، فبدأ بعض الفقهاء بإِعادة النظر في تلك الجزئيات، ومحاولة إِيجاد روابط بين المتشابه منها،
(1) انظر هذه القصة في: شذرات الذهب لابن العماد (1/ 321). وقد لفت النظرَ لها الباحثُ أحمد بن عبد الله بن حميد في ص (115) من القسم الدراسي من رسالته.
وكانت تلك الروابط هي المحاولات الأولى لوضع القواعد الفقهية.
ويترجح لي أن بعض القواعد وضعت ولم يطرأ عليها صَقْلٌ أو تحويرٌ يذكر، وهناك قواعدُ أُخَرُ مرت بعدد من مراحل الصقل والتحوير.
ومن جهة أخرى فإِن القواعد تختلف من ناحية واضعها، فبعضها نص أهل القواعد على أن واضعها هو العالم الفلاني، وكثير منها مسكوت عن واضعه. ولعل أكثر القواعد التي لم يطرأ عليها تحوير يذكر هي التي يعرف واضعوها، أما القواعد التي مرت بعدد من مراحل الصقل والتحوير فالظاهر أنها لا يعلم واضعها، وذلك لأنها في الحقيقة نتاج لعدد من العلماء.
ومن القواعد التي عرف واضعوها ما يلي:
1 -
لا ينسب إِلى ساكت قول (1).
2 -
إِذا ضاق الأمر اتسع (2).
3 -
كل ما جاز بيعه فعلى متلفه القيمة (3).
4 -
تجب اليمين في كل حق لابن آدم إِلا في أربعة مواضع.
5 -
من قبل قوله في أصل الشيء قبل في فرعه لأنه تابعه (4).
(1) هذه العبارة قالها الإِمام الشافعي، وانظرها في: اختلاف الحديث له مع مختصر المزني (507).
(2)
هذه العبارة للشافعي: ذكر ذلك الزركشي في المنثور (1/ 120)، والسيوطي في الأشباه والنظائر (83).
(3)
هذه القاعدة والتي بعدها ذكر ابن السبكي أنهما من قول ابن القاص، وذلك في: الأشباه والنظائر: ورقة (140 / أ)(217 / أ).
(4)
ذكر ابن السبكي أن هذه عبارة أبي سعد الهروى في الإشراف، انظر: الأشباه والنظائر: ورقة (129 / ب).
6 -
ما يسقط بالتوبة يسقط حكمه بالإكراه، وما لا فلا (1).
7 -
الرخص لا تناط بالشك (2).
ومن المرجح أن وضع القواعد الفقهية بدأ في المذهب الحنفي قبل غيره، ولعل السر في ذلك هو طريقة الحنفية في وضع أصولهم؛ فإِن من المعلوم أن الأحناف وضعوا أصولهم الفقهية من استقراء الجزئيات المأثورة عن الإِمام أبي حنيفة ومتقدمي أصحابه. وهذه الطريقة - أعني استقراء الجزئيات - هي الطريقة التي سلكها العلماء في وضع القواعد الفقهية.
ولعل أقدم خبر يذكر حول جمع القواعد الفقهية هو قصة أبي طاهر الدباس (3) أحد أئمة الحنفية بما وراء النهر؛ فقد ذكِرَ أنه رد جميع مذهب أبي حنيفة إِلى سبع عشرة قاعدة، فعلم بذلك بعض أئمة الحنفية بهراة، فسافر إِلى أبي طاهر ليأخذ منه تلك القواعد.
وكان أبو طاهر ضريرًا، وكان يكرر كل ليلة تلك القواعد بمسجده بعد أن يخرج الناس منه، فالتف ذلك القادم بحصير من حصر المسجد، ولما خرج الناس بدأ أبو طاهر بسرد تلك القواعد، ولما عدّ منها سبعًا حصلت للملتف بالحصير سعلة، فأحس به أبو طاهر فضربه وأخرجه من المسجد، ثم لم يكررها فيه بعد ذلك، ثم رجع ذلك الشخص
(1) ذكر ابن السبكي أن هذه القاعدة معزوة إِلى الأودني، انظر: الأشباه والنظائر: ورقة (67/أوب).
(2)
نسبها تاج الدين ابن السبكي إِلى والده تقي الدين، انظر الأشباه والنظائر: ورقة (60/أ).
(3)
هر محمد بن محمد بن سفيان، ويعرف بأبي طاهر الدباس، من كبار علماء الأحناف، لا يعلم بالتحديد الوقت الذى توفي فيه، إِلا أنه كان معاصرًا للكرخي الحنفي المتوفي سنة 340 هـ.
انظر: الجواهر المضية (2/ 116)، والفوائد البهية (187).
إِلى أصحابه وتلا عليهم تلك السبع" (1).
وأقدم نص وجدته عند الشافعية يتعلق بالقواعد الفقهية الكبرى هو النص التالي:
- وهو لأبي سعد الهروى المتوفي في حدود الخمسمائة (2) - "وكان القاضي الحسين (3) يقول على إِثر حكاية (4) يحكيها عن أبي طاهر الدباس من أصحاب أبي حنيفة في تخريجه أصول معدودة:
دعائم الفقه على أصل الشافعي -رحمة الله عليه - أربع:
الأولى: كل أصل تمهد وتقرر في الشريعة لا ينزل عنه إِلا بيقين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته، فيقول له: أحدثت أحدثت. فلا ينصرفن حتى يسمع صوتًا أو يشم ريحًا).
والدعامة الثانية: أن المشقة تجلب التيسير؛ قال الله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وقال صلى الله عليه وسلم (بعثت بالحنفية السمحة السهلة).
والدعامة الثالثة: اشتقت من قوده: (لا ضرر ولا ضرار في الإِسلام).
والدعامة الرابعة: تحكيم العادة والرجوع إِليها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما استحسنه المسلمون فهو حسن" ..
ومن المرجح أن الكرخي الحنفي الذي كان معاصرًا لأبي طاهر الدباس قد أخذ قواعد الدباس، وزاد عليها، ووضعها في رسالة (5) بلغت قواعدُها تسعًا وثلاثين قاعدة.
(1) القصة المتقدمة ذكرها السيوطي في أشباهه (7)، وابن نجيم في أشباهه (15، 16).
(2)
ورد النص التالي في كتاب: الإشراف على غواض الحكومات للهروي: ورقة (64/ أو ب).
(3)
توفي القاضي حسين سنة 462 هـ، وستأتي ترجمته في القسم التحقيقي.
(4)
الظاهر أنها هي القصة التي ذكرتها آنفًا.
(5)
هذه رسالة مطبوعة مع تأسيس النظر للدبوسي.