الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ]
الَّذِينَ عَمَّتْ بِهِمْ الْبَلْوَى فِي الْبَلْوَى فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اسْتَحْكَمَ فِيهَا الْفَسَادُ فَقَلَّ أَنْ يَجْرِيَ أَمْرُهَا عَلَى السَّدَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مُشَرِّفِهَا، كَانَتْ شَاغِرَةً مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّهَا كَانَتْ شَاغِرَةً مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْعَوَاصِمِ وَالْقَوَاصِمِ: أَنَّ الْخَطِيبَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ كَانَ مِنْ الشِّيعَةِ فِي خَبَرٍ يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَمْ يَزَالُوا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله وَمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ إلَى أَوَائِلِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَ إلَيْهِمْ مِنْ رَافِضَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ أَهْلِ قَاشَانَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَفْسَدَ مَذَاهِبَ كَثِيرَةً مِنْهُمْ، لَا سِيَّمَا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَقَدِمَ بِكُتُبِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَذَلَ لَهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَكَثُرَتْ الْبِدْعَةُ بِهَا مِنْ حِينَئِذٍ.
فَأَمَّا الْأَعْصَارُ الْمُفَضَّلَةُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِدْعَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، فَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ قَبْلَ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ هُوَ الصَّحِيحُ. بَلْ قَبْلَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَشْكُوَال الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَخَّارِ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ الْمُشَاوَرِينَ بِهَا فِي الْفَتْوَى وَالْأَحْكَامِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ إمَامًا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ بِدْعَةٌ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَغْرِبِ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ صَارَ الْحُكَّامُ مِنْهُمْ، وَصَارَتْ الْخَطَابَةُ فِيهِمْ، وَشُهُودُ الْبَلَدِ مِنْهُمْ، وَعَامَّتُهَا وَسُكَّانُ ضَوَاحِيهَا وَأَهْلُ بَادِيَتِهَا كُلُّهُمْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ، يَوْمَئِذٍ عَدَدُهُمْ قَلِيلٌ جِدًّا مُسْتَضْعَفُونَ بَيْنَهُمْ، إلَّا أَنَّ إمَامَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ مُضَافَةً إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَبَعَثَ سُلْطَانُ مِصْرَ إلَى الْمَدِينَةِ حَاكِمًا شَافِعِيًّا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَأُضِيفَتْ إلَيْهِ الْخَطَابَةُ وَالْإِمَامَةُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْعِهِمْ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَكَانَتْ جُلُّ الْحُكُومَاتِ رَاجِعَةً إلَيْهِمْ، وَلَمْ تَزَلْ أَحْكَامُهُمْ نَافِذَةً إلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَمَنَعَهُمْ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْحُكْمِ بِقِيَامِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الْهُورِينِيِّ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ فَانْقَطَعَتْ أَحْكَامُهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا هُمْ غَالِبُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَكَثِيرٌ مِنْ نَوَاحِيهَا لَا يَسْكُنُهَا غَيْرُهُمْ، وَجَمِيعُ عَامَّتِهَا وَسُوقَتِهَا وَأَرْبَابِ الْحِرَفِ وَأَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْفَلَّاحِينَ، كُلُّهُمْ يَشْهَدُونَ وَلَيْسَ لَهُمْ عُدُولٌ يُقْصَدُونَ لِلشَّهَادَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكَذَا جَمِيعُ عَوَامِّ أَهْلِ السُّنَّةِ يَشْهَدُونَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْحُكَّامِ أَمَانٌ لَا يَشْهَدُ فِي الْبَلَدِ إلَّا الْعُدُولُ، فَهُمْ إلَى الْآنَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَسَأَلْت بَعْضَ حُكَّامِهِمْ عَنْ الْمُسَوِّغِ لِقَبُولِ شَهَادَةِ عَامَّةِ الْبَلَدِ، وَمَا حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ؟ فَذَكَرَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ: أَنَّ النَّاسَ مَحْمُولُونَ عَنْ الْجُرْحَةِ حَتَّى تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ، وَأَنَّ هَذَا الْفَسَادَ وَالتَّسَاهُلَ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْبَلَدَ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَانُونٌ وَلَا ضَابِطٌ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِيهَا كَأَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَأَنَّ إهْمَالَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِ أُمَرَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَشْرَافِهَا، فَإِنَّا لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ مِنْ الْأُمَرَاءِ إنْكَارَ التَّعَرُّضِ لِإِنْكَارِ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ شُهُودُ الْبَلَدِ مِنْهُمْ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي حُكْمِ شَهَادَتِهِمْ.
الثَّانِي: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ اعْتِمَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فِي شَهَادَتِهِمْ.
الثَّالِثُ: فِي أَقْضِيَةِ حُكَّامِهِمْ وَالشَّهَادَةِ عَلَى خُطُوطِهِمْ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمْ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا عَلَيْهِمْ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِانْتِفَاءِ الْعَدَالَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عِصْمَةَ الأستري وَهُوَ بَيِّنٌ وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْعُو إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَسَوَاءٌ كَانَ مُرْتَكِبًا لِلْبِدْعَةِ مُتَعَمِّدًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُتَأَوِّلًا.
فَرْعٌ: وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ لِي مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ فِي الْقَاضِي يَبْلُغُهُ عَنْ الرَّجُلِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي دِينِهِ مِثْلَ الْإِبَاضِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنَّهُ إذَا تَوَاطَأَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، نَرَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ مِنْهُ تَوْبَةٌ وَتَوَرُّعٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَالَ لِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ عُرِفَ بِالْبِدْعَةِ، وَمَنْ كَانَ خَلَعَ الطَّاعَةَ وَمَنْ رَجَعَ وَثَبَتَ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَمَنْ تُسَمَّى بِذَلِكَ مُسْتَهِلًّا وَدَعَا إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَعَادَى عَلَيْهِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَكَذَا مَنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ وُوسِمَ بِهِ وَاسْتَوْطَأَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مُبْتَدِعًا كَانَ أَوْ خَارِجِيًّا، قَالَ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْرُوفِ بِذَلِكَ وَإِنْ لُطِّخَ بِمَا لَمْ يُؤْتَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ الْمُصَرِّحِ الْبَيِّنِ، فَأَجْرِهِ مَجْرَى غَيْرِهِ يُجِيزُهُ مَا يُجِيزُ الْعُدُولَ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْعَدَالَةِ، وَيَرُدُّهُ مَا يَرُدُّ الشُّهُودَ وَيُوهِنُ شَهَادَتَهُمْ.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلَا سَخَاطَتُهُ، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الْعَدَالَةِ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ أَوْ حَتَّى يَثْبُتَ فِسْقُهُ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْحَسَنُ إلَى أَنَّهُ مَقْبُولٌ حَتَّى يُعْرَفَ فِسْقُهُ. قَالَ: وَمُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ يَقْتَضِي الْعَدَالَةَ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْوَجِيزِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُبْتَدِعَةِ إذْ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ وَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ مَنْ يَطْعَنُ فِي الصَّحَابَةِ وَيَقْذِفُ فِي عَائِشَةَ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَتَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ، وَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ يَعْتَقِدُونَ الشَّهَادَةَ لِأَهْلِ شِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً، فَلِذَلِكَ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ فِيهِمْ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تِلْكَ الْبِدْعَةِ تَدَيُّنُهُمْ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ فِي بَعْضِ تَأْلِيفِهِ: وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْفَاسِقُ بِاعْتِقَادِهِ الْمُتَحَفِّظُ فِي دِينِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَحْكُومًا بِفِسْقِهِ كَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا نُكَفِّرُهُمْ كَالرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ فَإِنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِالشَّهَادَةِ بِالْكَذِبِ لِمُوَافِقِيهِمْ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ وَرِوَايَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: وَإِنَّمَا مَنَعَ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ قَبُولَ رِوَايَةِ الدَّاعِي إلَى بِدْعَتِهِ الْمُعْلِنِ بِهَا، وَقَبُولَ شَهَادَتِهِ وَالصَّلَاةَ خَلْفِهِ هَجْرًا لَهُ وَزَجْرًا لِيَنْكَفَّ ضَرَرُ بِدْعَتِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَاسْتِقْضَائِهِ وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ، رِضًا بِبِدْعَتِهِ وَإِقْرَارًا لَهُ عَلَيْهَا وَتَعْرِيضًا لِقَبُولِهَا مِنْهُ.
قَالَ حِزْبٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: قَالَ أَحْمَدُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَكُلُّ مَنْ دَعَا إلَى بِدْعَتِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا أَعْنِي أَحْمَدَ لَا يُعْجِبُنِي شَهَادَةُ الْجَهْمِيَّةِ الرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُعْلِنَةِ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ خَافَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ مِثْلَ الرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ.
قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مَنْ كَفَرَ بِمَذْهَبِهِ كَمَنْ يُنْكِرُ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَحَشْرَ الْأَجْسَادِ، وَعِلْمَ الرَّبِّ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَأَنَّهُ فَاعِلٌ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ الْمُوَافِقُونَ عَلَى أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ، كَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَهُمْ عَلَى أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ الْجَاهِلُ الْمُقَلِّدُ الَّذِي لَا بَصِيرَةَ لَهُ، فَهَذَا لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُفَسَّقُ
وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى تَعَلُّمِ الْهُدَى، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
الثَّانِي يُمْكِنُهُ السُّؤَالُ وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ، وَلَكِنْ يَتْرُكُهُ اشْتِغَالًا بِدُنْيَاهُ وَرِيَاسَتِهِ وَمَعِيشَتِهِ، فَهَذَا مُفَرِّطٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ آثِمٌ بِتَرْكِهِ لَهُ، مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ تَارِكِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنْ غَلَبَ مَا فِيهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى عَلَى مَا فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْهُدَى رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ غَلَبَ مَا فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْهُدَى قُبِلَتْ.
الثَّالِثُ الَّذِي يَسْأَلُ وَيَتَطَلَّبُ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ الْهُدَى، وَيَتْرُكُهُ تَقْلِيدًا أَوْ تَعَصُّبًا أَوْ بُغْضًا أَوْ مُعَادَاةً لِأَصْحَابِهِ فَهَذَا أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَتَكْفِيرُهُ مَحِلُّ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ مُعْلِنًا دَاعِيًا لِبِدْعَتِهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَفَتَاوِيهِ وَأَحْكَامُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةٌ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَحَالِ غَلَبَتِهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ وَكَوْنِ الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ مِنْهُمْ، فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ إذْ ذَاكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَتُقْبَلُ لِلضَّرُورَةِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ النَّاسُ فُسَّاقًا إلَّا الْقَلِيلَ النَّادِرَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ مِنْ الْفُسَّاقِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ وَنُفُوذِ أَحْكَامِهِ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَكَذَا الْعَمَلُ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِ الْفَاسِقِ وَالِيًا فِي النِّكَاحِ وَوَصِيًّا فِي الْمَالِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ قَبْلَ هَذَا قَالَ: وَإِذَا غَابَ الظَّنُّ عَلَى صِدْقِ الْفَاسِقِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَحُكِمَ بِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ مُطْلَقًا، بَلْ يَثْبُتُ فِيهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ، فَيُعْمَلُ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ وَفِسْقُهُ عَلَيْهِ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِرَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَأْخَذَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهِ وَأَنَّهُ تَحْمِلُهُ قِلَّةُ مُبَالَاتِهِ بِدِينِهِ وَنُقْصَانُ وَقَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ.
الثَّانِي: هَجْرُهُ عَلَى إعْلَانِهِ بِفِسْقِهِ وَمُجَاهَرَتِهِ بِهِ، فَقَبُولُ شَهَادَتِهِ فِيهِ إبْطَالٌ لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، قَالَ: فَإِذَا عُلِمَ صِدْقُ لَهْجَتِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَنَّ فِسْقَهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَادِيًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا وَثِقَ بِقَوْلِهِ أَمَّنَهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ رَاحِلَتَهُ وَقَبِلَ دَلَالَتَهُ، وَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ: إذَا شَهِدَ الْفَاسِقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: