الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالْأَخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلَافٌ.
[الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشْرَ فِي نَفْيِ الضَّرَرِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ]
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» .
وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَا ضَرَرَ: أَيْ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إضْرَارٌ بِغَيْرِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ الضِّرَارُ أَنْ تَضُرَّ نَفْسَك لِتَضُرَّ بِذَلِكَ غَيْرَك، فَإِذَا مَنَعَ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ يُصْلِحُ مَالَ نَفْسِهِ بِإِفْسَادِهِ مَالَ غَيْرِهِ؟ وَقَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الضَّرَرِ أَنْ يَضُرَّ أَحَدُ الْجَارَيْنِ بِجَارِهِ، وَالضِّرَارُ أَنْ يَضُرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِي الْقَتْلِ وَالضِّرَارِ وَالسِّبَابِ وَالْجَلَّادِ وَكَذَلِكَ الضِّرَارُ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا الْإِضْرَارَ بِصَاحِبِهِ وَعَنْ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ جَمِيعًا.
وَقَالَ الْخُشَنِيُّ: الضَّرَرُ مَا يَنْفَعُك وَيَضُرُّ صَاحِبَك، وَالضِّرَارُ مَا يَضُرُّ صَاحِبَك وَلَا يَنْفَعُك، فَيَكُونُ الضَّرَرُ مَا قَصَدَ بِهِ الْإِنْسَانُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ وَمَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَالضِّرَارُ مَا قَصَدَ بِهِ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ شَيْئًا يُضَرُّ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ: أَمَّا الضَّرَرُ؟ فَمِثْلُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي عَرْصَتِهِ مِمَّا يَضُرُّ بِجِيرَانِهِ مِنْ بِنَاءِ حَمَّامٍ أَوْ فُرْنٍ لِلْخُبْزِ أَوْ لِسَبْكِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ كِيرٍ لِعَمَلِ الْحَدِيدِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ: أَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُ، وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي الدُّخَانِ وَقَالَ: التَّنُّورُ خَفِيفٌ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: إنْ أَمْكَنَ قَطْعُ الدُّخَانِ مَعَ بَقَاءِ الْفُرْنِ قَطَعَ الضَّرَرَ، وَبِذَلِكَ قَضَى سُلَيْمَانُ بْنُ أَسْوَدَ فَجَعَلَ أُنْبُوبًا فِي أَعْلَى الْفُرْنِ يَرْتَقِي فِيهِ الدُّخَانُ وَلَا يَضُرُّ بِالْجَارِ، وَوَجْهُ الضَّرَرِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ الْفُرْنِ وَالْحَمَّامِ، فَيَدْخُلُ عَلَى الْجِيرَانِ فِي دُورِهِمْ وَيَضُرُّهُمْ، وَهُوَ مِنْ الضَّرَرِ الْكَبِيرِ الْمُسْتَدَامِ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ إحْدَاثِهِ، عَلَى مَنْ يَسْتَضِرُّ بِهِ إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ مِنْ الضَّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَقَامَ الْمُحْدِثُ لِلضَّرَرِ بَيِّنَةً تَشْهَدُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِضَرَرٍ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى تِلْكَ الْبَيِّنَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَةُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالضَّرَرِ أَحَقَّ وَأَوْلَى بِالْحُكْمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ وَبِهِ الْقَضَاءُ، وَقِيلَ: يَنْظُرُ إلَى أَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيَقْضِي بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْعِيَانِ، وَلَيْسَ تَنْفُذُ شَهَادَةٌ بِالضَّرَرِ فِيمَا لَمْ يَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ ضَرَرًا.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا جُهِلَ الضَّرَرُ فَلَمْ يَعْلَمْ أَقَدِيمٌ هُوَ أَمْ حَادِثٌ؟ فَهُوَ عَلَى الْقِدَمِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُفِيدِ لَهُ: وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ الضَّرَرُ هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مُحْدَثٌ؟ فَهُوَ عَلَى الْحُدُوثِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقِدَمُ وَبِهِ الْعَمَلُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: هُوَ عَلَى الْقِدَمِ حَتَّى يَثْبُتَ الْحُدُوثُ وَلَيْسَ بِهِ عَمَلٌ، انْتَهَى. وَذَكَرَ ابْنُ زِيَادٍ فِي أَحْكَامِهِ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي وَثَائِقِهِ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ قَدِيمٌ وَبِهِ الْحُكْمُ.
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ مِنْ اطِّلَاعٍ أَوْ فَتْحِ بَابٍ أَوْ كُوَّةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْدَثَ نَصْبَةً يَطْلُعُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ مُنِعَ وَقِيلَ: لَا يُمْنَعُ وَيُقَالُ لِجَارِهِ اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِك قَالَهُ أَشْهَبُ، وَالْمَنْعُ قَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
فَرْعٌ: وَفِي الْمَذْهَبِ: ثُمَّ إذَا ثَبَتَ ضَرَرُ الِاطِّلَاعِ، فَقِيلَ: يُحْكَمُ بِسَدِّهَا، وَإِنْ كَانَ بَابًا فَإِنَّهُ يُغْلَقُ غَلْقًا حَصِينًا وَتُقْلَعُ مِنْهُ الْعَتَبَةُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَلْزَمُهُ سَدُّهَا وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَمَامَ ذَلِكَ مَا يَسْتُرُهُ.
فَرْعٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْكُوَّةُ قَدِيمَةً أَوْ الْبَابُ قَدِيمًا، فَلَيْسَ لَهُ قِيَامٌ فِي سَدِّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فِي الطُّرَرِ: حَكَى ابْنُ يُونُسَ قَوْلًا عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ فِي الْكُوَّةِ الْقَدِيمَةِ أَنَّهَا تُسَدُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَحِلُّ الْكَشْفُ عَلَى أَحَدٍ، اُنْظُرْ فِي كِتَابِ حَرِيمِ الْبِئْرِ مِنْ ابْنِ يُونُسَ.
وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَلْزَمُ سَدُّهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكُوَّةِ قِيَامٌ عَلَيْهِ إنْ بَنَى دَارِهِ وَعَلَّاهَا فِي مُقَابِلِ تِلْكَ الْكُوَّةِ، حَتَّى
يَتَقَطَّعَ دُخُولُ الضِّيَاءِ عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ لِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ.
وَفِي الْكَافِي لِأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكُوَّةُ لِلضَّوْءِ فَأَلْصَقَ جَارَهُ الْبِنَاءَ بِبِنَائِهِ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ فِي جِدَارِهِ كُوَّةً فِي قَدْرِهَا وَبِإِزَائِهَا، تُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ الضَّوْءِ مَا كَانَ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ كُوَّتِهِ فَذَلِكَ لَهُ.
فَرْعٌ: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ كُوَّةً لِلضَّوْءِ وَالرِّيَاحِ، وَكَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ لَمْ يُمْنَعْ وَلْتَكُنْ حَيْثُ لَا يَطْلُعُ مِنْهَا.
فَرْعٌ: وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ: وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ كُوَّةٌ قَدِيمَةٌ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ، فَلَا قِيَامَ لِجَارِهِ فِيهَا، وَيَجِبُ التَّحَفُّظُ فِي الدَّيْنِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِغَلْقِهَا مِنْ جِهَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ التَّحَفُّظُ بِالدَّيْنِ أَوْكَدَ مِنْ حُكْمِ السُّلْطَانِ.
فَرْعٌ: وَإِنْ أَحْدَثَ عَلَى جَارِهِ كُوَّةً لِلضِّيَاءِ فَقَامَ جَارُهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ أَهْلَ الْبَصَرِ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِجَارِهِ مُنِعَ وَأُغْلِقَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْعِ سَرِيرٍ مِنْ نَاحِيَةِ بَيْتِ الْمُحْدِثِ لِلْكُوَّةِ أَنْ يَقِفَ عَلَى السَّرِيرِ وَاقِفٌ، فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى دَارِ جَارِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَأُغْلِقَتْ، وَإِلَّا لَمْ تُغْلَقْ وَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ.
تَنْبِيهٌ: وَفِي وَثَائِقِ الْجَزِيرِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّرِيرِ الْفِرَاشُ، وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ عَنْ بَعْضِ الْمُوَثِّقِينَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ السِّلْمُ وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ السَّرِيرُ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَسْأَلَةٌ: وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الِاطِّلَاعِ لَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمُطَّلِعُ إلَّا بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ، وَقَصَدَ إلَى الِاطِّلَاعِ بِتَكَلُّفِ صُعُودٍ لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا بِذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَطَّلِعُ مِنْهُ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي يُزَالُ، وَقِيلَ لِلَّذِي يَشْكُو الِاطِّلَاعَ اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِك، فَإِنْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِقَصْدٍ إلَى ذَلِكَ، كَانَ حَقًّا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَزْجُرَهُ حَتَّى لَا يَعُودَ.
مَسْأَلَةٌ: وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الشُّيُوخِ فِيمَنْ فَتَحَ فِي نَصْبَةٍ لَهُ بَابًا، لَا يَطْلُعُ مِنْهُ عَلَى دَارِ جَارِهِ إلَّا أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ الْبَابِ، أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْبَابِ شَرِيجِيًّا وَثِيقًا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدٌ مِنْهُ رَأْسَهُ لِيَطَّلِعَ، وَهُوَ حَسَنٌ مِنْ الْفَتْوَى.
مَسْأَلَةٌ: إذَا لَمْ تَقْطَعْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الضَّرَرَ مُحْدَثٌ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: رَأَيْنَا شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ، وَهُوَ ضَرَرٌ حَلَفَ الْقَائِمُ أَنَّهُ مُحْدَثٌ وَأُزِيلَ عَنْهُ الضَّرَرُ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِالْقِدَمِ مِنْ وَثَائِقِ الْجَزِيرِيِّ وَغَيْرِهِ.
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مِنْ اطِّلَاعٍ أَوْ خُرُوجِ مَاءٍ مِنْ مِرْحَاضٍ قُرْبَ جِدَارِ دَارِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْإِحْدَاثَاتِ الْمُضِرَّةِ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَلَا اعْتَرَضَ فِيهِ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ وَنَحْوَهَا، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِيَامِ فِيهِ، فَلَا قِيَامَ لَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهُوَ كَالِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَهُ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ وَابْنُ الْعَطَّارِ.
قَالَ أَصْبَغُ لَا يَنْقَطِعُ الْقِيَامُ فِي إحْدَاثِ الضَّرَرِ إلَّا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، وَجَعَلَهَا خِلَافَ الْحِيَازَةِ فِي الْأُصُولِ، وَبِالْأَوَّلِ الْقَضَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحْدَثُ عَلَيْهِ صَغِيرًا، أَوْ مُولًى عَلَيْهِ أَوْ بِكْرًا غَيْرَ مُعَنَّسَةٍ، فَلَا يَضُرُّهُمْ سُكُوتُهُمْ، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَهُمْ عَلَى حَالَتِهِمْ هَذِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَتُعَنَّسَ الْبِكْرُ، وَيَنْطَلِقَ الْمُولَى عَلَيْهِ مِنْ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ يَسْكُتُونَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورَةِ، عَالِمِينَ بِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ.
فَرْعٌ: وَفِي الطُّرَرِ: وَحِيَازَةُ الضَّرَرِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ سَوَاءٌ عَلَى الْقَوْلِ بِحِيَازَتِهِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَصْبَغَ وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا، أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْعِشْرِينَ إلَّا بِمَا زَادَ، قَالَ: وَلِسَحْنُونٍ فِي مَصَبِّ مَاءٍ عَلَى دَارِ رَجُلٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقّهُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَعْوَامِ، قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ رَأَيْت فِي مَسَائِلَ يُسْأَلُ عَنْهَا ابْنُ مُزَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ الضَّرَرِ يَبْقَى عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَزِيدُ كَفَتْحِ الْأَبْوَابِ وَالْكُوَّةِ يَطْلُعُ مِنْهَا، وَشَبَهُهُ مِمَّا يَحْدُثُ بِمَحْضَرِ مَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مُحْدِثَهُ يَسْتَحِقُّهُ فِي مِثْلِ مَا يَسْتَحِقُّ فِي الْحِيَازَةِ مِنْ طُولِ الزَّمَانِ، وَمَا كَانَ ضَرَرُهُ يَتَزَايَدُ كَالْكَنِيفِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ مُحْدِثُهُ بِطُولِ حِيَازَتِهِ.
وَإِنْ أَمْسَكَ الْمُحْدِثُ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَنْ الْقِيَامِ فِيهِ، ثُمَّ أَرَادَ الْقِيَامَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْحِيَازَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحَازُ بِطُولِ الزَّمَانِ وَيُقْطَعُ عَلَى الْمُسْتَضِرِّ بِهِ مَتَى قَامَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الدَّبَّاغُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَبْقَى عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْكَنِيفِ، وَإِنْ لَمْ يُزَدْ فِي حُفْرَتِهِ فِي السِّعَةِ وَالطُّولِ، فَقَدْ يُوهِنُ مَا يَلِي الْحُفْرَةَ بِكَثْرَةِ مَا اسْتَنْقَعَ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، فَيَحْدُثُ عِنْدَ جَارِهِ مِنْ الْوَهَنِ، فِي جِدَارِهِ مَا لَمْ يَكُنْ حَدَثَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَفْتَحُهُ الرَّجُلُ فِيمَا يَلِي دَارَ جَارِهِ كَمُسْتَنْقَعِ الْمِيَاهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّمَا طَالَ ضَرَّ بِطُولِهِ مَنْ يُجَاوِرُهُ لِمَا يَدْخُلُ مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَالْبَلَلِ فِي بِنَاءِ دَارِهِ.
وَكَذَلِكَ الدَّبَّاغُ لَا يَبْقَى ضَرَرُهُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الدَّبَّاغِينَ كُلَّمَا زِيدَ فِي أَوَانِي الدَّبَّاغِ وَفِي عَمَلِهِ كَانَتْ رَوَائِحُ ذَلِكَ أَكْثَرَ وَأَضَرَّ، وَهَذَا مَا عَلِمْنَاهُ وَلَمْ نَزَلْ نَسْمَعُهُ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي مَعِينِ الْحُكَّامِ قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: الَّذِي أَقُولُ بِهِ وَأَنْقُلُهُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ جَمِيعَ الضَّرَرِ يَجِبُ قَطْعُهُ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ رَفْعِ بِنَاءٍ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ وَضَوْءِ الشَّمْسِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا، إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْقَائِمُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُحْدِثَ ذَلِكَ أَرَادَ الضَّرَرَ بِجَارِهِ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وُجُوهُ الضَّرَرِ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا تَتَبَيَّنُ عِنْدَ نُزُولِ الْحُكْمِ فِيهَا، مِنْ ذَلِكَ: دُخَانُ الْحَمَّامَاتِ وَالْأَفْرِنَةِ وَغُبَارُ الْأَنْدَرِ وَنَتْنُ الدَّبَّاغِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ يَضُرُّ لِمَنْ جَاوَرَهُ، وَإِلَّا فَاقْطَعُوهُ وَسَوَاءٌ كَانَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا، لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْقِدَمِ، وَإِنَّمَا حِيَازَةُ التَّقَادُمِ الَّذِي جَاءَ فِيهَا الْأَثَرُ، مَنْ حَازَ عَلَى خَصْمِهِ عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ، فِيمَا يَحُوزُهُ النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْحَائِزَ لِذَلِكَ يَسْتَغْنِي بِالْحِيَازَةِ عَنْ أَصْلِ وَثِيقَتِهِ الَّتِي صَارَ بِهَا إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَا تَكُونُ الْحِيَازَةُ فِي أَفْعَالِ الضَّرَرِ حِيَازَةً، بَلْ لَا يَزِيدُ تَقَادُمُ الضَّرَرِ إلَّا ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا أَحْدَثُ الْأَنْدَرُ إلَى جَانِبِ الْجِنَانِ فَأَضَرَّ بِهَا مُنِعَ مُحْدِثُهُ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ مُطَرِّفٍ: " إذَا كَانَ مُحْدِثًا، فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ صَاحِبُ الْأَنْدَرِ الِانْتِفَاعَ بِأَنْدَرِهِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَرْمِ أَقْدَمُ عَلَى عِلْمٍ بِمَا يُصِيبُهُ