الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْجِرَاحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ اللَّوْثِ وَالْقَسَامَةِ، وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ مَسَائِلِ التَّدْمِيَةِ وَالدَّعَاوَى فِي هَذَا الْبَابِ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي الطُّرَرِ: وَإِذَا أَدْمَى الرَّجُلُ عَلَى جَمَاعَةٍ سُجِنُوا كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ عَلَى مَنْ يُقْسَمُ مِنْهُمْ وَلَا يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْسِمُوا إلَّا عَلَى وَاحِدٍ وَيَقْتُلُونَهُ، مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا ثُمَّ يَتَخَيَّرُوا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُمْ: احْلِفُوا عَلَى مَنْ شِئْتُمْ وَاقْتُلُوهُ، وَيُضْرَبُ الْآخَرُونَ مِائَةً كُلَّ وَاحِدٍ وَيُسْجَنُونَ عَامًا إذَا مَاتَ الْمَقْتُولُ مُطْلَقِينَ مِنْ غَيْرِ حَدِيدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُمْ يَقْسِمُونَ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَا يَقْتُلُونَ إلَّا وَاحِدًا يَخْتَارُونَهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ السِّجْنُ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَ عَنْهُ الْقَتْلُ، حَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ وَوَجَبَ سِجْنُهُ عَامًا، فَإِنْ كَانَ جَرِيحًا أَوْ مَرِيضًا سُجِنُوا مُحَدَّدِينَ وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ قَالَ: لَا بُدَّ لِلْمَسْجُونِ فِي الدَّمِ مِنْ الْحَدِيدِ حَتَّى يَرَى مَا يَكُونُ، فَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ لِعَفْوٍ وَقَسَامَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، أَطْلَقَهُ الْإِمَامُ مِنْ الْحَدِيدِ وَضَرَبَهُ مِائَةً وَسَجَنَهُ عَامًا مُسْتَقْبِلًا مِنْ غَيْرِ حَدِيدٍ، وَكَذَا فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي الطُّرَرِ عَنْ ابْنِ مُزَيْنٍ فِي الْمَرْأَةِ تُدْمِي عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَوَدُ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ زَوْجَتَهُ فِيمَا أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَضْرِبَهَا فِيهِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وَقَدْ يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَوْتِ وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] ، فَلَمَّا أُبِيحَ لَهُ ضَرْبُهَا فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهَا فِيهِ، سَقَطَتْ مِنْهُ تَدْمِيَتُهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تُدْمَى بِهِ قَدْ يَكُونُ أَصْلُهُ الضَّرْبَ الَّذِي أَجَازَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْقَوَدُ مِنْ أَجَلِّ الْحُدُودِ، وَلَا يُقَامُ الْقَوَدُ وَالْحُدُودُ إلَّا بِأَمْرٍ بَيِّنٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مُزَيْنٍ وَهَذَا الَّذِي عَلِمْنَاهُ مِنْ مَشَايِخِنَا الَّذِي حَمَلْنَا عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَدْ أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى لِلرِّجَالِ ضَرْبَ نِسَائِهِمْ عِنْدَ النُّشُوزِ، فَإِذَا أَصَابَ إحْدَاهُنَّ مِنْ ضَرْبِ زَوْجِهَا فَقْءُ عَيْنٍ
أَوْ كَسْرُ سِنٍّ أَوْ شَجَّةٍ لَهَا عَقْلٌ، أَنَّهُ لِعَقْلِ ذَلِكَ ضَامِنٌ، إلَّا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ إنْ تَعَمَّدَ ضَرْبَهَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ فَقْءَ عَيْنِهَا فَكَذَلِكَ مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ يَضْرِبُ أَحَدَهُمْ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ ضَرْبُهُ، فَيُصِيبُهُ بِعُودِ الذُّرَةِ أَوْ بِطَرَفِ شِرَاكِهَا فَيُصِيبُ عَيْنَهُ فَيَفْقَؤُهَا، أَنَّهُ لِعَقْلِ ذَلِكَ ضَامِنٌ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ إنْ تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ الَّذِي جَازَ لَهُ مِنْ تَأْدِيبِهِ مِنْ الْمُقَرَّبِ.
وَقَالَ الْمُشَاوِرُ إذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ أَوْ الْمُعَلِّمُ صِبْيَانَهُ فِي ذَنْبٍ اسْتَحَقَّا بِهِ الْأَدَبَ، فَلَكَزَ أَوْ لَطَمَ فَمَاتَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ، وَإِنْ ضُرِبَا فَفَقَأَ عَيْنًا أَوْ كَسَرَ ضِرْسًا فَعَلَيْهِمَا الْعَقْلُ، لِأَنَّ فِعْلَهُمَا آلَ إلَى مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا فِيهِ وَقَوْلُ الصَّالِحِ فِي الْأَدَبِ مَقْبُولٌ مِنْ الطُّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ إبْرَاهِيمَ: إنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ أَوْ شَجَّهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، سُجِنَ حَتَّى يَعْرِفَ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ وَعُفِيَ عَنْهُ فَلَا بُدَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْرَحْهُ، فَإِنْ حَلَفَ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَوْ أَقَرَّ أَدَّبَهُ فِيمَا اجْتَرَأَ عَلَيْهِ.
فَرْعٌ: وَإِنْ قَالَ الْمَجْرُوحُ: لَيْسَ هَذَا الَّذِي جَرَحَنِي أَوْ شُبِّهَ عَلَيَّ، فَلَيْسَ يَنْجُو مِنْ سِجْنِ السُّلْطَانِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ يُقِرَّ أَوْ يَأْبَى الْيَمِينَ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ الْيَمِينِ أَوْ الْأَدَبِ، أَمَّا لَوْ قَالَ الْمُدْمِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا بَطَلَتْ التَّدْمِيَةُ.
فَرْعٌ: وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَلَا لَطْخَ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، فَلَا بُدَّ مِنْ سِجْنِهِ حَتَّى يُعْرَفَ أَمْرُهُ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ فِيهِ، حُكِيَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا سِجْنَ إلَّا بِشُبْهَةٍ أَوْ لَطْخٍ، وَلَيْسَ الْجُرْحُ كَالنَّفْسِ إذَا قَالَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ فَذَلِكَ يُسْجَنُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقَسَامَةَ بِمَوْتِهِ، وَالْأَوَّلُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا بِشُبْهَةٍ أَوْ لَطْخٍ بَيِّنٍ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: وَلَقَدْ اسْتَطَالَ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله أَهْلُ الشَّرِّ وَالْبَطَالَةِ عَلَى أَهْلِ الْعَافِيَةِ وَالِانْقِبَاضِ وَالصِّيَانَةِ، وَجَعَلُوا التَّدْمِيَةَ جُنَّةً لَهُمْ وَرُبَّمَا بَطَلَتْ بِهِ الْحُقُوقُ، فَإِذَا طَلَبَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بِدَيْنٍ أَوْ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ، تَرَاقَدَ وَتَمَارَضَ وَقَالَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، حَتَّى يَفْتَدِيَ الطَّالِبُ بِالدَّيْنِ مِنْهُ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالِ فِي تَلَفِ مُهْجَةِ آخَرَ.
وَلَوْ قَالَ أَرْوَعُ النَّاسِ فِي مَرَضِهِ وَخِلَالَ نَزْعِهِ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ
دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، لَمْ يُصَدَّقْ وَلَمْ يُؤْخَذْ بِقَوْلِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي إنْكَارِ دَعْوَاهُ، وَلَوْ أَنَّ قَائِلًا قَالَ: لَا يُصَدَّقُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا أَهْلُ الْفَضْلِ الْمَشْهُورِ وَالْوَرِعِ الْمَعْرُوفِ، إذَا ادَّعَوْا عَلَى مَنْ تَأْخُذُهُ الظِّنَّةُ وَتَقْرُبُ مِنْهُ التُّهْمَةُ لَكَانَ حَسَنًا مِنْ الْقَوْلِ، وَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ فِي قَبُولِ أَنَّ فَاعِلَ هَذَا إنَّمَا يَطْلُبُ مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الْغَفَلَاتِ؛ لِئَلَّا يُرَى، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا حَقًّا، وَخَالَفَ مَالِكًا فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَقَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الَّتِي ادَّعَتْ أَنَّ رَجُلًا صَالِحًا اسْتَكْرَهَهَا فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي تِلْكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَأَوْجَبَ حَدَّهَا، وَيَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَخَذَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِاللَّوْثِ فِي الدِّمَاءِ مَا وَقَعَ لِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ اللُّؤْلُؤِيِّ فِي التَّدْمِيَةِ وَرُجُوعِهِ عَنْ الْفَتْوَى بِهَا.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: مَنْ أُخِذَ فِي تُهْمَةِ قَتْلٍ فَاعْتَرَفَ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ الْمَقْتُولَ مِنْ بِئْرٍ أَوْ مَدْفِنٍ، فَلَمَّا أَمَرَ بِهِ لِيُقْتَلَ قَالَ: مَا قَتَلْته، وَلَكِنِّي رَأَيْت مَنْ قَتَلَهُ قُتِلَ وَلَا يَنْفَعُهُ إنْكَارُهُ، وَكَذَلِكَ السَّارِقُ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ، فَلَا يَنْفَعُهُ رُجُوعُهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْمَالِ يَقْرَبُهُ ثُمَّ يُنْكِرُ.
فَرْعٌ: وَمَنْ اُتُّهِمَ بِقَتْلِ نَفْسٍ فَأُخِذَ فَاعْتَرَفَ بِلَا مِحْنَةٍ، ثُمَّ سُجِنَ ثُمَّ أُخْرِجَ لِلْقَتْلِ فَقَالَ: إنَّمَا اعْتَرَفْت خَوْفًا مِنْ الضَّرْبِ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَقْتُلَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ لَزِمَ كَلُزُومِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، لِأَنَّ الدَّمَ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَالدَّيْنِ.
تَنْبِيهٌ: وَلَوْ عُفِيَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِجْنُ سَنَةٍ وَجَلْدُ مِائَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مِنْ الطُّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله: فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا أَنَّهُ حَضَرَ بِهِمَا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ يَحْمِلُونَ خَشَبَةً وَمَعَهُمْ صَبِيٌّ وَهُوَ ابْنٌ لِأَحَدِهِمْ، فَلَمَّا غَابُوا عَنْهُمَا سَمِعَا وَقْعَ الْخَشَبَةِ فِي الْأَرْضِ وَبُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَاتَّبَعَاهُمْ فَوَجَدَا الْخَشَبَةَ فِي الْأَرْضِ وَالصَّبِيَّ فِي حِجْرِ أَبِيهِ فِي اللَّوْثِ وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، أَنَّهَا شَهَادَةٌ قَاطِعَةٌ تَجِبُ بِهَا الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْمُعَايَنَةِ.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَمِثْلُهَا أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا رَأَيَا رَجُلًا خَرَجَ مُسْتَسِرًّا مِنْ دَارٍ فِي حَالٍ رَثَّةٍ فَاسْتَنْكَرَا ذَلِكَ، فَدَخَلَ الْعُدُولُ مِنْ سَاعَتِهِمْ الدَّارَ، فَوَجَدُوا قَتِيلًا يَسِيلُ دَمُهُ وَلَا أَحَدَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْخَارِجِ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ يُقْطَعُ الْحُكْمُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ الْمُعَايَنَةِ.
فَرْعٌ: وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ رَأَى الْعُدُولُ الْمُتَّهَمَ يُجَرِّدُ الْمَقْتُولَ وَيُعَرِّيهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ حِينَ أَصَابَهُ، فَإِنَّ هَذَا لَوْثٌ تَجِبُ مَعَهُ الْقَسَامَةُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ تَامَّةٌ صَدَرَتْ مِنْ حَاكِمٍ إلَى الْفُقَهَاءِ يَسْتَشِيرُهُمْ فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ يَزْعُمُ أَنَّ فُلَانًا تَوَلَّى ضَرْبَهُ وَعَفْجَ بَطْنِهِ، حَتَّى صَارَ بِذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْمَوْتِ، أَوْ يَأْتِي وَلِيُّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَيَدْعُو إلَى السَّمَاعِ مِنْ بَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَيَطْلُبُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ حُبِسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ يَأْتِيهِ رَجُلٌ آخَرُ يَدَّعِي عَلَى رَجُلٍ وَبِهِ جِرَاحَاتٌ غَلِيظَةٌ مَخُوفَةٍ، وَقَدْ يَأْتِيهِ رَجُلٌ آخَرُ عَلَيْهِ جُرْحٌ سَهْلٌ قَدْ أَسَالَ دَمَهُ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّ الَّذِي تَقُولُ بِهِ: إنَّ الزَّمَانَ فَسَدَ وَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إنَّمَا يُسْرِعُ إلَيْهَا مَنْ لَا خَشْيَةَ تَمْنَعُهُ مِنْ رُكُوبِ الْبَاطِلِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَسْلُكَ حَالَةً يَكُونُ فِيهَا خَلَاصٌ لَك إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَدَاءٌ لِلْحَقِّ إلَى ذَوِي الْحُقُوقِ.
فَمَنْ جَاءَك وَعَلَيْهِ جِرَاحٌ مَخُوفَةٌ، فَاحْبِسْ الْمُدْمَى عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ الْجُرُوحُ أَوْ يَتَبَيَّنَ حَالَةٌ يَجِبُ بِهَا إطْلَاقُهُ.
وَمَنْ جَاءَك مُعَافًى مِنْ الْجِرَاحِ يَدَّعِي عَلَى رَجُلٍ ضَرْبًا مُؤْلِمًا قَدْ بَلَغَ مِنْهُ مَبْلَغَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، فَأَلْزِمْ الْقِيَامَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ أَثْبَتَ تَعَدِّيَ الْمُدَّعِي مَعَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَدْفَعٌ فِي الْبَيِّنَةِ فَعَزِّرْهُ، وَإِنْ رَأَيْت حَبْسَهُ فَذَلِكَ إلَيْك عَلَى مَا يَظْهَرُ لَك مِنْ شَنَاعَةِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ جَاءَك بِجُرْحٍ خَفِيفٍ وَهُوَ مِمَّنْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا بِنَفْسِهِ فَاسْلُكْ بِهِ سَبِيلَ مَنْ جَاءَك مُعَافًى مِنْ الْجِرَاحِ، فَإِذَا نَظَرْت بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَانَ نَظَرًا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الشَّرِّ وَيَدْرَأُ بِهِ الْبَطْشَ وَيَنْفَعُ بِهِ الْعَامَّةَ وَيَذُبُّ بِهِ عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ وَابْنُ غَالِبٍ وَابْنُ وَلِيدٍ وَابْنُ مُعَاذٍ.
وَقَالَ بِهِ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، إلَّا فِي الْمُدَّعِي الضَّرْبَ الْمُؤْلِمَ غَيْرَ الظَّاهِرِ أَوْ الْجُرْحَ الْخَفِيفَ.
فَإِنَّهُ إنْ ادَّعَى عَلَى مَنْ يُشْبِهُ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ عَلَى مَنْ يُشْبِهُ ذَلِكَ فَكَمَا قَالَ أَصْحَابُهُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ إذَا قَصَدَ رَجُلًا فَاضِلًا قَدْ عُرِفَ بِالْخَيْرِ لَا يُقَارِفُ الدِّمَاءَ فَإِنِّي أُبْطِلُ التَّدْمِيَةَ وَلَسْت أَقْبَلُهَا مِنْهُ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَمَا عِنْدِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَصُدِّقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ تَرَكَ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَصِيرَ إلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ، وَالْوُقُوفَ عِنْدَهُ وَالْفَتْوَى بِهِ.
وَصَارَ إلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ الْمَشْهُورَ وَيَخْتَارَ قَوْلَ مَنْ رَأَى الْحَقَّ فِي قَوْلِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَعْرِضَ عَنْ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَذَلِكَ تَقْصِيرٌ، وَمَا أَظُنُّ إلَّا أَنَّهُ غَابَ عَنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ قِيلَ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ؟ فَسُمِّيَ رَجُلًا أَوْرَعَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ فِي الدِّمَاءِ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَيْسَ هُوَ مَشْهُورًا بِشَيْءٍ مِنْ الشَّرِّ، قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مَالِكًا يُحَاشِي أَحَدًا مِنْ أَحَدٍ وَرَأَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي كُلِّ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا مَالِكٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مَسْخُوطًا أَوْ غَيْرَ مَسْخُوطٍ، وَهُوَ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ كَالشَّاهِدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتَّهَمُ، وَالْمَرْأَةُ كَالرِّجَالِ فِي ذَلِكَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَفِي ذَلِكَ الْقَسَامَةُ.
فَرْعٌ: وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ مُزَيْنٍ قَالَ: وَسَأَلْته يُرِيدُ عِيسَى بْنَ دِينَارٍ عَنْ صِفَةِ الضَّرْبِ الَّذِي إذَا ادَّعَاهُ الرَّجُلُ أَنَّهُ ضُرِبَ بِهِ أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ، قَالَ: الضَّرْبُ كُلُّهُ قُلْت لَهُ: أَمِنْ ذَلِكَ اللَّطْمَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، قُلْت: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ فُلَانًا ضَرَبَهُ، وَمِنْ ضَرْبِهِ يَمُوتُ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرُ ضَرْبٍ فِي شَيْءٍ مِنْ جَسَدٍ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، قَالَ: يُحْمَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُحْمَلُ وَتَكُونُ فِيهِ الْقَسَامَةُ عَلَى سُنَّتِهَا قُلْت: وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مُنَازَعَةٌ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، قَالَ: وَأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، قُلْت: وَإِنْ رَمَى بِذَلِكَ صَالِحًا مِنْ النَّاسِ لَا يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ قَالَ: وَإِنْ رَمَى بِذَلِكَ خَيْرَ النَّاسِ حَالًا فَرُبَّمَا حَدَثَتْ الْبَلَايَا وَرُبَّمَا كَانَ الضَّرْبُ الَّذِي يُخْفِي أَثَرَهُ وَهُوَ يَكِيدُ صَاحِبَهُ، فَالْقَسَامَةُ تَجِبُ بِقَوْلِهِ، وَيَدِينُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَدِينُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَدِينُ، وَأَصْدَقُ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ وَفِرَاقِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَصْبَغُ: مَنْ قَالَ سَقَانِي فُلَانٌ سُمًّا وَمِنْهُ أَمُوتُ أَقْسَمَ عَلَى قَوْلِهِ وَوَجَبَ الْقَوَدُ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ فِي آخِرِ سَمَاعِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا قَسَامَةَ
فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا فِي الضَّرْبِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْآثَارِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْجِرَاحِ وَأَثَرِ الضَّرْبِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِالْوَقَائِعِ النَّادِرَةِ.
مَسْأَلَةٌ: مَنْ أَتَى الْقَاضِيَ مُتَعَلِّقًا بِرَجُلٍ يَرْمِيهِ بِدَمِ وَلِيِّهِ، وَأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِدَمِهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ، فَإِذَا ثَبَتَ تَعَدُّدُهُ مِنْ الْمُدَّعِي سَأَلَهُ الْقَاضِي: هَلْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَاهُ؟ فَإِنْ ادَّعَى ثُبُوتَ ذَلِكَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَمَرَ الْقَاضِي بِحَبْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ أَثْبَتَ التَّعَدُّدَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الدَّمِ فَهُوَ فِي حَبْسِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ، إنْ كَانَ الْمُدْمَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا حُبِسَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إلَى الثَّلَاثِينَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ زُونَانِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فَالْيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوَهُمَا، فَإِنْ أَتَى طَالِبُ الدَّمِ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ سَقَطَ وَوَجَبَتْ الزِّيَادَةُ فِي حَبْسِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ الْقَاضِي مِمَّا يُرْجَى بِهِ تَحْقِيقُ الدَّعْوَى أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، هَذَا الَّذِي يَجِبُ النَّظَرُ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ سَمِعْت مُطَرِّفًا يَقُولُ: مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ شَجَّهُ أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ عُرِفَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا فَلَا يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْمُدَّعَى، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِلَطْخٍ بَيِّنٍ وَشُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ، أَوْ يَكُونَ الْمُدَّعِي بِحَالَةٍ يُخَافُ عَلَيْهِ فِيهَا الْمَوْتُ، وَقَدْ أَشَرْنَا بِذَلِكَ عَلَى حُكَّامِنَا فَحُكِمَ بِهِ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ.
مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ شُهِدَ عَلَيْهِ لَوْثٌ مِنْ بَيِّنَةٍ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَمَى حَجَرًا، فَمَضَى الْحَجَرُ عُلُوًّا حَتَّى وَاقَعَ امْرَأَةً مَجْهُولَةَ الْمَوْضِعِ لَا يُعْلَمُ لَهَا وَلِيٌّ فَمَاتَتْ مِنْ سَاعَتِهَا، وَلَمْ تَرْمِ أَحَدًا بِدَمِهَا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي فَحَضَرَ الْمُدْمِي وَالْقَوْمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ عَايَنُوا رَمْيَهُ، فَكَشَفَ الْقَاضِي عَنْ رَمْيَتِهِ هَلْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؟ فَلَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَحَبَسَهُ الْقَاضِي مُدَّةَ شَهْرٍ وَنِصْفٍ، فَسَأَلَ الْمَحْبُوسُ النَّظَرَ فِي أَمْرِهِ مِمَّا يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ الرَّمْيَةَ الْمَنْسُوبَةَ إلَيْهِ فَاسْتَشَارَ الْحَاكِمُ الْفُقَهَاءَ فَأَجَابُوا: بِأَنَّ اللَّوْثَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَقَدْ قَالُوا هُوَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ، وَقَدْ حَبَسَهُ مُثْبِتًا فِي أَمْرِهِ وَطَالِبًا لِوَلِيٍّ إنْ كَانَ لَهَا وَهَذَا صَوَابٌ، وَبَعْدَ أَنْ طَالَ الْحَبْسُ هَكَذَا وَلَمْ يَأْتِ وَلِيٌّ وَجُهِلَتْ الرَّمْيَةُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَالصَّوَابُ عِنْدَنَا أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ مَنْ أَلْغَى شَهَادَةَ غَيْرِ الْعُدُولِ، وَأَخَذَ
فِي اللَّوْثِ بِأَنَّهُ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى هَذَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّلَ مِنْ الشُّهُودِ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يُرْجَى فِيهِمْ تَعْدِيلٌ رَأَيْنَا اسْتِحْسَانًا أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا رَمَى هَذِهِ الرَّمْيَةَ وَلَا كَانَ مَا قَالَهُ الشُّهُودُ، قَالَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ غَانِمٍ.
وَمِنْ تَمَامِ جَوَابِ مُحَمَّدِ بْنِ غَانِمٍ وَإِنْ أَخَذْت فِي اللَّوْثِ بِاللَّفِيفِ وَقَامَ بِذَلِكَ ثَابِتُ النَّسَبِ، أَقْسَمَ عَلَيْهِ وَكَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّوْثَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ.
وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ إذَا ثَبَتَ لَهَا وَلِيٌّ كَانَ الْقَوْلُ مَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ غَانِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا وَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَا تَكُونُ قَسَامَةٌ لِمَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ غَالِبٍ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ بِالْيَمِينِ، إنْ كَانَ أَرَادَ يَمِينًا وَاحِدَةً فَمُشْكِلٌ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِخَمْسِينَ يَمِينًا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا وَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَسَامَةٌ، فَإِذَا سَقَطَتْ الْقَسَامَةُ سَقَطَ رَدُّهَا مِمَّنْ طُلِبَ بِهَا.
وَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَصْلُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي اللَّوْثِ أَنَّهُ اللَّفِيفُ وَالْبَيِّنَةُ غَيْرُ الْعَادِلَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ قَوْلِهِ بِالشَّاهِدِ الْعَدْلِ، فَإِنْ ثَبَتَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ وَلِيٌّ كَانَ هُوَ الْمُحَلِّفُ لِهَذَا الْمُدْمِي، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا وَلِيٌّ، فَالْمُسْلِمُونَ أَوْلِيَاؤُهَا وَوَارِثُوهَا، كَمَا يَرِثُونَ مَالَهَا يَرِثُونَ دَمَهَا، وَلَا بُدَّ لِهَذَا الْمَحْبُوسِ مِنْ أَنْ يَحْلِفَ خَمْسِينَ مَا رَمَاهَا عَمْدًا، ثُمَّ تَكُونُ دِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِهَا، فَإِنْ أَبَى عَنْ الْيَمِينِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ، وَلَا يَبْطُلُ دَمُ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ رَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِي الْمُسْلِمِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ عَمْدًا وَلَا وَلِيَّ لَهُ إلَّا الْمُسْلِمُونَ، أَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَتْلِ؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُهْدِرَ دَمَ مُسْلِمٍ وَلَكِنْ يَسْتَقِيدُ لَهُ، فَكَمَا يَسْتَقِيدُ لِمَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ إلَّا الْمُسْلِمُونَ، فَكَذَلِكَ يُسْتَحْلَفُ هَذَا الْمَحْبُوسُ.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَخَذْت بِهِ فِي اللَّوْثِ، رَجَوْت أَنْ يَكُونَ مُوَفَّقًا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا الْيَمِينُ يُرِيدُ الَّتِي قَالَ ابْنُ غَالِبٍ اسْتِحْسَانًا، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا وَلِيٌّ وَأَخَذْت بِقَوْلِ مَنْ رَأَى اللَّوْثَ الشَّاهِدِ الْعَدْلِ فَمَا أَرَى عَلَيْهِ يَمِينًا.
مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ حُبِسَ فِي دَمٍ فَشُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ وَالطَّهَارَةِ وَاسْتِقَامَةِ الطَّرِيقَةِ، بَعِيدٌ مِنْ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ مُقَارَفَةِ الدَّمِ مُلَازِمٌ لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، وَاَلَّذِي وَشَى بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِقْدٌ وَأُمُورٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَأَجَابَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ تُوجِبُ الْإِطْلَاقَ مِنْ الْحَبْسِ، لِأَنَّ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَرْمِي الرَّجُلَ بِالدَّمِ هَلْ يُحْبَسُ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمُدْمَى بِهِ مُتَّهَمًا يُحْبَسُ الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ لَمْ يُحْبَسْ إلَّا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُحَقَّقْ عَلَيْهِ شَيْءٌ أُطْلِقَ، فَهَذَا مَا قَالُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لِلْمُدْمِي بِالطَّهَارَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، فَكَيْفَ وَقَدْ شُهِدَ لِهَذَا بِنَفْيِ الرِّيبَةِ عَنْهُ، مَعَ مَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ مِنْ طُولِ حَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ؟ فَتَرَى أَنَّ إطْلَاقَ هَذَا الْمَحْبُوسِ وَاجِبٌ وَحَقٌّ لَازِمٌ، لَا يَحِلُّ حَبْسُهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بِذَلِكَ ابْنُ لُبَابَةَ وَابْنُ وَلِيدٍ وَأَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ إنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ بِشَهَادَةٍ تُوجِبُ حَبْسَهُ، فَإِطْلَاقُهُ وَاجِبٌ لَا يَجِبُ حَبْسُهُ.
مَسْأَلَةٌ: فِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي سَجْنِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ بُرَيْهِنَةَ فِي تَدْمِيَةٍ، فَأَجَابَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا: فَهَمُّنَا وَفَّقَ اللَّهُ الْقَاضِيَ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَى ابْنِ بُرَيْهِنَةَ الْمَرْمِيِّ بِالدَّمِ، بِزَعْمِ الشُّهُودِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا شَهِدُوا شَهَادَةً يَجِبُ بِهَا أَخْذُهُ بِالدَّمِ، وَفَهِمْنَا شَهَادَةَ فُلَانٍ عَلَيْهِ وَمَا رَمَاهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِثَايَةِ وَالْفَسَادِ، فَرَأَيْنَا هَذِهِ الشَّهَادَةَ خَاصَّةً يَجِبُ بِهَا حَبْسُ الْمُدْمِي حَبْسًا طَوِيلًا مَعَ تَظَاهُرِ الشَّهَادَاتِ عَلَيْهِ، مِمَّنْ لَمْ تَعْرِفْهُمْ حَبْسًا يَكُونُ كَالتَّخْلِيدِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَذَكَرْت أَنَّ لَهُ فِي الْحَبْسِ عَامَيْنِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْحَبْسِ ذَكَرُوا لَك أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ حُسِّنَتْ عِنْدَهُمْ، فَإِذَا شَهِدُوا عِنْدَك بِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْإِطْلَاقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْبَسْ عَنْ ثُبُوتِ شَيْءٍ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ: فِي ثَلَاثِ رِجَالٍ تَرَامَوْا بِدَمٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: إنَّ هَذَيْنِ قَتَلَا ابْنَ عَمِّي، وَقَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ إنَّ هَذَا قَتَلَ ابْنَ عَمِّي، فَأَمَرَ الْحَاكِمُ بِهِمْ إلَى السِّجْنِ لِيَكْشِفَ عَنْ حَالِهِمْ، فَلَمْ يَمْضِ الْيَوْمُ حَتَّى بَعَثُوا إلَى الْحَاكِمِ أَنَّا قَدْ اصْطَلَحْنَا وَإِنَّمَا كَانَ شَرٌّ وَقَعَ بَيْنَنَا وَقَدْ تَهَادَرْنَا وَاصْطَلَحْنَا فَاسْتَشَارَ الْحَاكِمُ فِيهِمْ الْفُقَهَاءَ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّ الَّذِي عِنْدَنَا فِي أَمْرِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يُطْلَقُوا وَيُخَلَّى سَبِيلُهُمْ، إذْ قَدْ تَصَالَحُوا وَتَعَافَوْا
مِنْ دَعْوَاهُمْ، وَرَجَعُوا إلَى أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ شَرٍّ وَقَعَ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَا ادَّعَوْا وَجْهٌ يَظْهَرُ وَلَا سَبَبٌ يَدُلُّ وَلَا سَبِيلٌ إلَى حَبْسِهِمْ، بَعْدَ هَذَا قَالَهُ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ تَرَكَ إثْبَاتَ طَلَبِهِ، فَلَيْسَ عَلَى الْقُضَاةِ إجْبَارُهُ عَلَى طَلَبِ حَقِّهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي اسْتَرَابَ أَمْرَهُمْ بِشَاهِدٍ عَلِمَهُ بِشَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِمْ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ دَعْوَاهُمْ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ.
مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ شَكَا بِوَلَدِهِ أَنَّهُ غَيْرُ بَارٍّ بِهِ فَحَبَسَهُ الْحَاكِمُ تَأْدِيبًا لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ حَبْسِهِ ذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ امْرَأَةَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَلَا قَامَ أَحَدٌ بِدَمِهَا وَإِنَّمَا جَرَى خَبَرٌ شَاذٌّ وَمَضَى لِحَبْسِهِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، فَطَلَبَ أَبُوهُ إطْلَاقَهُ، فَأَفْتَى الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ فِي دُونِ هَذَا الْحَبْسِ مَا يُؤَدِّبُهُ.
مَسْأَلَةٌ: رَجُلَانِ قَتَلَا أُخْتَهُمَا وَشُهِدَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَكَشَفَ الْقَاضِي عَنْ أَمْرِهِمَا فَلَمْ يَخْتَلِفَا أَنَّهُمَا قَتَلَاهَا لِرِيبَةٍ اتَّهَمَاهَا بِهَا. فَسَأَلَ الْقَاضِي الْفُقَهَاءَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. فَأَجَابَهُ: الْفُقَهَاءُ: أَنَّهُ يَجِبُ حَبْسُهُمَا وَالْكَشْفُ عَمَّا نُسِبَ إلَيْهِمَا مِنْ قَتْلِهِمَا لَهَا بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ، تَقْطَعُ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ وَعَلَى سَمَاعِ صَوْتِهَا إذَا طُرِحَتْ فِي الْغَدِيرِ مِمَّنْ يَعْرِفُ صَوْتَهَا أَنَّ أَخَوَيْهَا يَقْتُلَانِهَا، وَاسْتِغَاثَتِهَا لِهَذَا وَقَامَ بِالدَّمِ مَنْ يَجِبُ الْقِيَامُ لَهُ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ فِي أَمْرِهِمَا بِمَا تُوجِبُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ رَمَى بِقَتْلِ أَخِيهِ سِتَّةَ نَفَرٍ فَحَبَسَهُمْ الْأَمِيرُ، ثُمَّ صَرَفَ النَّظَرَ فِيهِمْ إلَى الْقَاضِي وَأَمَرَهُ يَنْظُرُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، فَأَحْضَرَ الْقَاضِي الْمَرْمِيِّينَ وَالرَّامِيَ لَهُمْ، فَذَكَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ أَخَاهُ مَرَّ بِقَرْيَةٍ لِلْمَبِيتِ بِهَا فَأَصْبَحَ مَقْتُولًا، وَرَمَى بِدَمِهِ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَسَمَّاهُمْ.
وَقَالَ: إنِّي لَا أَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ، فَأَنْكَرُوا كُلُّهُمْ قَتْلَ أَخِيهِ، ثُمَّ إنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَ اثْنَيْنِ مِنْ السِّتَّةِ مِنْ دَمِ أَخِيهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْمَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَبْسُ الْأَمِيرِ لَهُمْ قَبْلَ ارْتِفَاعِهِمْ إلَى الْقَاضِي، مُدَّةَ ذِكْرِ السِّتَّةِ النَّفَرِ أَنَّهَا عِشْرُونَ شَهْرًا.
وَقَالَ الْمُدَّعِي: إنَّمَا حُبِسُوا لِأَجْلِي مُنْذُ سَنَةٍ وَمَا قَارَبَهَا، فَأَجَابَ الْفُقَهَاءُ: إنْ لَمْ يَأْتِ الْقَائِمُ بِدَمِ أَخِيهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِلَوْثٍ يَجِبُ بِهِ الدَّمُ مَعَ
الْقَسَامَةِ، حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهُمْ حُبِسُوا فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَلَا مَعْنَى لِحَبْسِهِمْ، وَلَا يَحِلُّ حَبْسُ مَرْمِيٍّ بِدَمٍ هَذِهِ الْمُدَّةَ، إنَّمَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ الْمَرْمِيُّ بِالدَّمِ مُتَّهَمًا حُبِسَ الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ، فَإِنْ لَمْ يُؤْتَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ فِي دَاخِلِ الشَّهْرِ أُطْلِقَ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ حُبِسُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ حَبْسُهُمْ لَهُ، وَفِي دُونِ ذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ اسْتِبْرَاءُ الدَّمِ، وَهَذَا الطَّالِبُ لَا يَعْرِفُ الْمَرْمِيَّ عَلَيْهِمْ بِأَعْيُنِهِمْ، وَأَبْرَأَ اثْنَيْنِ لَا يَعْرِفُهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا فَأَيُّ شَيْءٍ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا الطَّالِبِ؟ وَفِي إطْلَاقِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِمْ شُبْهَةٌ وَلَا سَبَبٌ يُوجِبُ حَبْسًا ثَوَابٌ، فَإِنَّ السِّجْنَ مَقْرُونٌ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:{إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] . فَوَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي إنْهَاءُ ذَلِكَ إلَى الْأَمِيرِ.
مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ أَصْبَحَ فِي دَارِهِ مَقْتُولًا عَلَى فِرَاشِهِ، وَمَشَى ابْنُهُ مُنْذِرًا لِجِيرَانِهِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَهِجًا بِأَنَّهُ طُرِقَ لَيْلًا وَقُتِلَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْوَزِيرُ وَأَمَرَ صَاحِبَ الْمَدِينَةِ بِالنُّهُوضِ إلَى دَارِهِ، فَنَهَضَ إلَيْهَا، فَوَجَدَ الْقَتِيلَ مَذْبُوحًا فِيهِ نَيِّفٌ عَلَى سِتِّينَ ضَرْبَةً بِسِكِّينٍ، وَتَتَبَّعَ الدَّارَ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا أَثَرَ نُزُولٍ وَلَا خُرُوجٍ، وَلَقِيَ فِي الدَّارِ ثِيَابَهُ مُخَبَّأَةً فِي بَعْضِ أَرْكَانِ الدَّارِ، وَسِكِّينَ أَقْلَامِهِ وَغُرْفَةً فِيهَا دَمٌ، وَفِي سَرَاوِيلِ بَعْضِ بَنَاتِهِ بَعْضَ دَمٍ، فَاسْتَنْطَقَهُنَّ فَقَالَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ عَنْ أُخْرَى هَذِهِ قَتَلَتْهُ وَأَعَنَّاهَا نَحْنُ وَقَالَتْ: كَانَ حَقِيقًا بِالْقَتْلِ مُنْذُ أَعْوَامٍ وَكَانَ ابْنَاهُ سَاكِنَيْنِ مَعَهُ فِي الدَّارِ، أَحَدُهُمَا الْمُنْذِرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ ضَعِيفُ الْأَعْضَاءِ ضَرَبَتْهُ رِيحٌ، فَقَالَ هَذَا الضَّعِيفُ طَرَقَهُ لُصُوصٌ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّمَا قَتَلَهُ النِّسَاءُ وَأَخُوهُ الَّذِي أَنْذَرَ بِالصَّلَاةِ كَانَ وَاقِفًا خَلْفَ بَابِ الْبَيْتِ وَثَبَتَ مَوْتُهُ وَوِرَاثَتُهُ، وَأَنَّ ابْنَيْ أَخِيهِ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِدَمِهِ مَعَ ابْنِهِ الضَّعِيفِ، وَيُشَاوِرُ صَاحِبَ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ، فَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ: أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الدَّارِ مِنْ نِسَائِهِ وَابْنَيْهِ، إلَّا أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقَسَامَةَ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ وَلَا مَا لَا عَلَى قَتْلِهِ وَلَا شَارَكَ، فِيهِ ثُمَّ يُطَالُ سِجْنُهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَتَّابٍ: وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عَنْ الْأُخْرَى هَذِهِ قَتَلَتْهُ وَأَعَنَّاهَا نَحْنُ قَوْلًا مُحْتَمَلًا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ نَعْنِيَ أَنَّهَا أَعَانَتْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا فِي قَتْلِهَا وَلِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ هَذَا إلَّا بَعْدَ ضَرْبِهِنَّ بِالسَّوْطِ وَغَيْرِهِ وَفَزَعِهِنَّ مِنْ ذَلِكَ، فَحَضَرَ الْوَزِيرُ مَسْجِدَ ابْنِ عَتَّابٍ وَأَمَرَ
بِإِحْضَارِ ابْنَيْ الْمَقْتُولِ وَبَنِي عَمِّهِمَا، وَأَقْسَمَ الْوَلَدُ الْكَبِيرُ وَأُمُّ وَلَدِهِ الْمَقْتُولِ فِي دَاخِلِ الْمَقْصُورَةِ بِالْجَامِعِ عِنْدَ مَقْطَعِ الْحَقِّ، عَافَانَا اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ لِابْنِهِ الضَّعِيفِ الْقِيَامَ بِالدَّمِ، قَالَ الْقَاضِي وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِقَوْلِهِمَا أَوَّلًا طَرَقَهُ لُصُوصٌ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا.
مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهُمَا فِي الدَّارِ غَيْرُهُمَا مُدَّةً نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إنَّ الْمَرْأَةَ أَصْبَحَتْ مَكْتُوفَةً مَذْبُوحَةً فِي الدَّارِ، وَذَكَرَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ زَوْجَهَا غَابَ عَنْ سُكْنَى دَارِهِ وَالْمَبِيتِ لَيْلَةً وَاحِدَةً إلَى حِينِ وُقُوعِ ذَلِكَ، فَقَامَ جَدُّهَا لِأُمِّهَا وَادَّعَى عِنْدَ الْأَمِيرِ أَنَّ زَوْجَهَا قَتَلَهَا، فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ، فَأَحْضَرَ أَوْلِيَاءَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَا يُقْسِمُ فِي ذَلِكَ إنْ وَجَبَتْ لَهُ الْقَسَامَةُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنَا أُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَشَاوَرَ الْأَمِيرُ الْفُقَهَاءَ فِي ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ نَرَى وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ: إطَالَةَ سِجْنِ الزَّوْجِ مُوثَقًا فِي الْكَبْلِ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فِي الْحَبْسِ زَمَانًا، بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّيك إلَيْهِ اجْتِهَادُك لَعَلَّ أَنْ يُقِرَّ فِي خِلَالِ ذَلِكَ لَطْخَ الدَّمِ بِهِ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ وَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يُقْسِمُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ بِالْجَامِعِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُ مَا قَتَلَهَا وَلَا شَارَكَ فِي دَمِهَا ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّ وَلِيَّهَا وَرَجُلًا آخَرَ وَرِجَالًا مِنْ عَصَبَتِهَا يَحْلِفُونَ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ بَعْدَ طُولِ الْحَبْسِ، بِمَحْضَرِ الْأَمِيرِ وَمَحْضَرِ مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ عَلَى عَيْنِ فَطِيسٍ وَبِمَحْضَرِهِ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، لَقَدْ قَتَلَهَا عَمْدًا خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ بَقِيَ الزَّوْجُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيَحْلِفُ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ مِنْ عَصَبَتِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الدَّمِ أَوْلَى بِالْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَآلَ أَمْرُ هَذَا الزَّوْجِ إلَى الْمُصَالَحَةِ بِعِدَّةٍ مِنْ الذَّهَبِ أَدَّاهَا وَخُلِّيَ عَنْهُ.
مَسْأَلَةٌ: لَوْ أَكْذَبَ الْمُدْمِي نَفْسَهُ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُدِّبَ لَأَدَّى إلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ أَحَدٌ عَنْ ذَلِكَ، وَبِمِثْلِ هَذَا احْتَجَّ سَحْنُونٌ فِي تَرْكِ أَدَبِ الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ عَنْ شَهَادَةٍ، وَلَمْ يُعْذَرْ بِشُبْهَةٍ وَلَوْ أُدِّبَ لَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ.
مَسْأَلَةٌ: وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ ادَّعَى بَاطِلًا ثُمَّ تَبَيَّنَ بُطْلَانَ دَعْوَاهُ، فَإِنَّ ابْنَ سَهْلٍ حَكَى فِي الْأَحْكَامِ لَهُ أَنَّ الْحَاكِمَ يُؤَدِّبُهُ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِهِ.
مَسْأَلَةٌ: مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا زَعَمَ أَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتَ، كَأَنْ كَانَ بِالْمُدَّعِي أَثَرٌ مَخُوفٌ أَوْ جِرَاحٌ، سُجِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَسُئِلَ الْمُدَّعِي عَلَى بَيِّنَتِهِ وَأُجِّلَ لَهُ بِقَدْرِ بُعْدِهَا وَقُرْبِهَا، فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ اقْتَصَّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ وَجَاءَ بِلَطْخٍ وَأَسْبَابٍ أَوْ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَبَيِّنَةٍ غَيْرِ قَاطِعَةٍ، تَمَادَى فِي سَجْنِهِ وَإِلَّا أَطْلَقَهُ.
وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ لَهُ وَلِيًّا إنْ كَانَ مُتَّهَمًا سَجَنَهُ مَكَانَهُ وَدَعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ جَاءَ بِهَا نَظَرَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا وَجَاءَ بِلَطْخٍ أَوْ سَبَبٍ تَمَادَى فِي سَجْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ إلَّا بِمَنْ يَشْهَدُ أَنَّ هَذَا قُتِلَ لَهُ وَلِيٌّ وَلَا يَدْرُونَ مَنْ قَتَلَهُ، سُجِنَ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا دُونَ سِجْنِ الَّذِي جُنِيَ عَلَيْهِ بِلَطْخٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا لَمْ يُسْجَنْ نَدْبًا حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّهُ قُتِلَ لَهُ وَلِيٌّ، فَيُسْجَنُ وَيُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ وَيُؤَجَّلُ بِقَدْرِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا، فَإِنْ جَاءَ إلَى الْأَجَلِ بِمَا اسْتَوْجَبَ بِهِ السَّجْنَ وَإِلَّا أَطْلَقَهُ، وَلَا يَسْجُنُهُ أَبَدًا إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فِي صَبِيٍّ عَبِثَ بِسَقَّاءٍ عَلَى عُنُقِهِ قُلَّةٌ، حَتَّى سَقَطَتْ الْقُلَّةُ عَلَى الصَّبِيِّ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَى السَّقَّا وَإِنْ سَقَطَتْ عَلَى غَيْرِ الصَّبِيِّ فَقَتَلَتْهُ، فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ مِنْ الْمُنْتَخَبِ فِي الْأَحْكَامِ اُنْظُرْ الطُّرَرَ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ قُلْت لِأَصْبَغَ يُؤَدَّبُ الصِّبْيَانُ فِي تَعَدِّيهِمْ وَشَتْمِهِمْ وَقَذْفِهِمْ وَجِرَاحَاتِهِمْ الْعَمْدِ وَقَتْلِهِمْ، قَالَ: نَعَمْ يُؤَدَّبُونَ إذَا كَانُوا قَدْ عَقَلُوا أَوْ رَاهَقُوا.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي الطُّرَرِ: إذَا كَانَ الْمَرْمِيُّ بِالدَّمِ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ يُحْبَسُ الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ، وَلَوْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ لَحُبِسَ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ: عَلَيْهِ الْحَبْسُ الطَّوِيلُ جِدًّا حَتَّى يُبَيِّنَ بَرَاءَتَهُ أَوْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ السُّنُونَ الْكَثِيرَةُ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحْبَسُ فِي الدَّمِ بِاللَّطْخِ وَالشُّبْهَةِ، حَتَّى إنَّ أَهْلَهُ لَيَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ مِنْ طُولِ حَبْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ: مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ: إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُدْمَى أَثَرُ جُرْحٍ وَلَا ضَرْبٍ وَلَمْ يُعْرَفْ ضَرْبُ فُلَانٍ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى فُلَانٍ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: تُقْسِمُ مَعَ قَوْلِهِ كَانَ بِهِ أَثَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْعَمَلُ وَبِهِ الْحُكْمُ.
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ قَالَ أَصْبَغُ: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْحُوَاةِ طَرَحَ حَيَّةٍ مَسْمُومَةً عَلَى رَجُلٍ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ طَارِحُهَا إذَا قَتَلَتْ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنْ قَالَ: كُنْت أَلْعَبُ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَكُونُ لَعِبًا مَا يَفْعَلُ الشَّبَابُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ تَفْزِيعِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِطَرْحِ الْحَيَّةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مِنْهَا مَا يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ فَتَقْتُلُ، فَهَذَا الَّذِي يُشْكِلُ وَيُجْعَلُ خَطَأً، وَأَرَى الْقَسَامَةَ عَلَى طَرْحِ الْحَيَّةِ أَنَّهُ مَا تَعَمَّدَ الْقَتْلَ.
مَسْأَلَةٌ: وَسَأَلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ الْقَوْمِ يَخْرُجُونَ فِي النُّزْهَةِ فَيَلْعَبُونَ وَيُجَرْجِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيُدْفَعُ أَحَدُهُمْ فَيَمُوتُ أَوْ تَنْكَسِرُ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ، فَقَالَ: يُعَدُّ ذَلِكَ خَطَأً وَفِيهِ الْعَقْلُ.
مَسْأَلَةٌ: وَسَأَلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَيْضًا: عَنْ الْقَوْمِ يَتَمَاقَلُونَ فِي نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ، أَيْ يُغَطِّسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، قَالَ: يُعَدُّ خَطَأً وَفِيهِ الدِّيَةُ، وَلَوْ كَانَ عَمْدًا يُشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ تَعَمَّدَ أَنْ يُمِيتَهُ، كَانَ الْقَوَدُ فِيهِ بِأَنْ يُغَطَّسَ حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ: فَلَوْ كَانُوا سِتَّةَ نَفَرٍ فَشَهِدَ الثَّلَاثَةُ مِنْهُمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَنَّهُمَا مَقَلَاهُ حَتَّى مَاتَ، وَشَهِدَ الِاثْنَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنْهُمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَنَّهُمَا مَقَلَاهُ حَتَّى مَاتَ، وَشَهِدَ الِاثْنَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَقَالَ: لَا شَهَادَةَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَقَارُّوا أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ مِنْ قِبَلِهِمْ وَسَبَبِهِمْ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَامَوْا بِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عَلَى
التَّعَمُّدِ لِقَتْلِهِ فَالدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى اللَّعِبِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ: أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ جَمِيعًا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْإِقْرَارِ وَلَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ، عَمْدًا فَطَرَأَ ذَلِكَ فِي شَهَادَاتِهِمْ، وَخَطَأً وَهَذَا فِي الْكِبَارِ، فَأَمَّا لَوْ كَانُوا صِغَارًا أَسْقَطَ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ، لِأَنَّ الصِّغَارَ لَا إقْرَارَ لَهُمْ.
وَفِي شَرْحِ الْجَلَّابِ لِلْقَرَافِيِّ قَالَ مَالِكٌ: سِتَّةُ صِبْيَةٍ غَرِقَ فِي الْبَحْرِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ، وَاثْنَانِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ، فَالْعَقْلُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَدْرَأُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَلَزِمَتْ الدِّيَةُ عَوَاقِلَهُمْ وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَاضِحَةِ.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا تَعَارَضَ بَيِّنَتَانِ مِنْ الصِّبْيَانِ فِي شَجَّةٍ هَلْ شَجَّهَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ؟ سَقَطَتَا؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَنْفِي مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ وَأَرْشُ الشَّجَّةِ عَلَى جَمَاعَةِ الصِّبْيَانِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَنْ ادَّعَى عَلَى قَوْمٍ أَنَّهُمْ ضَرَبُوهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى ضَرْبِهِ بَيِّنَةٌ فَحَبَسَهُمْ السُّلْطَانُ فِي السِّجْنِ ثُمَّ الْمَضْرُوبُ بَرَّأَ بَعْضَهُمْ، أَطْلَقَ السُّلْطَانُ مَنْ بَرَّأَ وَحَبَسَ مَنْ لَمْ يُبَرِّئْ.
مَسْأَلَةٌ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ شَجَّهُ أَوْ جَرَحَهُ وَلَا بَيِّنَةَ، سُجِنَ لَهُ حَتَّى يُعْرَفَ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ وَعُفِيَ عَنْهُ فَلَا بُدَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْرَحْهُ، فَإِنْ حَلَفَ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَوْ أَقَرَّ أَدَّبَهُ، وَلَوْ قَالَ الْمَجْرُوحُ: لَيْسَ هُوَ الَّذِي جَرَحَنِي أَوْ أُشْبِهَ عَلَيَّ لَمْ يَنْجُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، أَوْ يُقِرَّ أَوْ يَأْبَى عَنْ الْيَمِينِ فَيُؤَدَّبَ، نَقَلَهُ ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ الطُّرَرِ.
مَسْأَلَةٌ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ فَعُفِيَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمُوا أَوْ بَعْدَ أَنْ أَقْسَمُوا عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَسَجْنُ سَنَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ مِنْ بَعْدِ الضَّرْبِ، لَا يُعْتَدُّ فِيهَا بِمَا يَكُونُ مِنْ السِّجْنِ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِنَّمَا يَكُونُ ضَرْبُ مِائَةٍ وَسَجْنُ سَنَةٍ فِيمَنْ قَتَلَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ أَوْ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ فِيهِ الْأَدَبُ الْمُؤْلِمُ قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَبِهِ نَقُولُ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ.
مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ سَقَتْ وَلَدُهَا فَشَرِقَ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَكَذَا لَوْ انْقَلَبَتْ عَلَى وَلَدِهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا غَيْرُ الْكَفَّارَةِ.
مَسْأَلَةٌ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ سَمْعَهُ نَقَصَ مِنْ ضَرْبَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ فَإِنَّهُ يُخْتَبَرُ بِالصِّيَاحِ، وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ: أَنْ تُسَدَّ الْأُذُنُ الصَّحِيحَةُ وَيُصَاحَ بِهِ مِنْ أَمَامِهِ مَا دَامَ يَسْمَعُ، وَتُقَاسُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ يُصَاحُ بِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَقُولَ لَا أَسْمَعُ شَيْئًا، ثُمَّ يُبْعَدُ عَنْهُ وَيُصَاحُ بِهِ حَتَّى يَقُولَ: لَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ تُقَاسُ تِلْكَ الْجِهَاتُ فَإِذَا اسْتَوَتْ الْمَسَافَاتُ الَّتِي بَلَغَ سَمْعُهُ إلَيْهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ عُلِمَ صِدْقُهُ، وَحِينَئِذٍ تُسَدُّ الْأُذُنُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا وَتُفْتَحُ الصَّحِيحَةُ وَيُصَاحُ بِهِ فَإِذَا عُلِمَ انْتِهَاءُ صَوْتِهِ قَدَّرَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَا نَقَصَ مِنْ سَمْعِهِ، بِأَنْ يَنْظُرُوا مَا بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَالْمُصَابَةِ، وَيُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الدِّيَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ الْجَانِي مَا يَنُوبُهُ مِنْهَا بَعْدَ يَمِينِهِ، فَإِنْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْجِهَاتِ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى كَذِبِهِ، وَقِيلَ لَهُ الْأَقَلُّ مَعَ يَمِينِهِ.
فَرْعٌ: فَإِنْ ادَّعَى، ذَهَابَ بَعْضِ بَصَرِهِ فَيُخْتَبَرُ نَقْصُهُ بِأَنْ نُغْلِقَ الصَّحِيحَةَ، وَتُجْعَلَ بَيْضَةً أَوْ نَحْوَهَا أَمَامَهُ وَيُبْعَدُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ مِقْدَارُ بَصَرِهِ إلَيْهَا ثُمَّ يُجْعَلُ أَيْضًا كَذَلِكَ مِنْ أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ، وَعِنْدِي أَنَّ فِي ذَلِكَ نَظَرًا، لِأَنَّ الْعَيْنَ تَنْظُرُ مِنْ أَمَامِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَنْظُرُ عَلَى جَنَبَاتِهَا فَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَ بَعْضُ بَصَرِهَا، فَكَذَلِكَ تَسْمَعُ مِنْ جَانِبِهِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْمَعُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ الَّذِي لَا يَسْتَنْكِرُهُ أَحَدٌ ثُمَّ تُقَاسُ تِلْكَ الْجِهَاتُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّمْعِ.
فَرْعٌ: فَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ جَمِيعِ الْبَصَرِ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يُخْتَبَرُ بِأَنْ يُشَارَ إلَى بَصَرِهِ وَهُوَ عَلَى غَفْلَةٍ، فَإِنْ تَحَرَّكَ بَصَرُهُ تَبَيَّنَ كَذِبُهُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْعَيْنِ إذَا أُشِيرَ إلَيْهَا تَنْقَبِضُ.
فَرْعٌ: فَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ جَمِيعِ سَمْعِهِ فَيُخْتَبَرُ بِالصَّوْتِ الْمُرْعِبِ وَهُوَ عَلَى غَفْلَةٍ.