الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَمْثِلَةِ الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ]
الْأَوَّلُ: حَبْسُ الْجَانِي حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حِفْظًا لِمَحَلِّ الْقِصَاصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَمْثِلَتُهُ فِي بَابِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُتَّهَمَيْنِ.
الثَّانِي: حَبْسُ الْآبِقِ سَنَةً، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مُرَادُ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّهُ حَبْسُ سَنَةٍ، إذَا كَانَ لِلْعَبْدِ صَنْعَةٌ تَقُومُ بِنَفَقَتِهِ أَوْ إمَامٌ عَادِلٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلَّا بِيعَ قَبْلَ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ حَبْسُهُ سَنَةً هُوَ السُّنَّةُ إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ الضَّيَاعُ فَيُبَاعَ، قَالَ مَالِكٌ إذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَبَاعَهُ أَخَذَ مِنْ ثَمَنِهِ النَّفَقَةَ، وَحَبَسَ يُبْطِئُ لِرَبِّهِ وَلَا يُطْلِقُهُ بَعْدَ السَّنَةِ لِئَلَّا يَأْبَقَ ثَانِيَةً، قَالَ سَحْنُونٌ: لَا أَرَى أَنْ يُوقَفَ سَنَةً، بَلْ مَا يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ فِيهِ ثُمَّ يُبَاعُ وَيَكْتُبُ صِفَتَهُ حَتَّى يَأْتِيَ طَالِبُهُ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ نَفَقَةَ السَّنَةِ رُبَّمَا أَذْهَبَتْ ثَمَنَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَخَافَ عَلَيْهِ الضَّيَاعَ بَلْ يُخَلِّي سَبِيلَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حَبْسَهُ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ فَلَا يَجِدُهُ.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا حَارَبَ الْآبِقُ فَلَيْسَ لِوَاجِدِهِ عَلَى رَبِّهِ إلَّا مَا أَنْفَقَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ مَالَهُ، فَمَنْ قَامَ بِحِفْظِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجُعْلُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَ شَأْنُهُ أَخْذَ الْجُعْلِ فَلَا جُعْلَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَهُ الْجُعْلُ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا يَحْفَظُ بِهِ مَالَ غَيْرِهِ وَبِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ عُدَّ سَفَهًا وَحُجِرَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا أَرْسَلَهُ وَاجِدُهُ وَخَافَ عِظَمَ النَّفَقَةِ ضَمِنَهُ لِتَعَدِّيهِ بِإِرْسَالِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَ لُقَطَةً فَرَدَّهَا.
وَقَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَرَى أَنْ يُرْسِلَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ، فَيَهْلَكُ ثَمَنُهُ أَوْ يَطْرَحُهُ فِي السِّجْنِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يُطْعِمُهُ.
فَرْعٌ: وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْآبِقِ، فَمَرَّةً أَمَرَ وَاجِدَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ كَانَ وَاجِدَهُ أَوْ غَيْرَهُ، وَمَرَّةً نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا
يَكُونَ حَبْسُهُ دَاعِيًا إلَى انْقِطَاعِ خَبَرِهِ عَنْ سَيِّدِهِ، وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا كَانَ مَنْ يَعْرِفُهُ.
الثَّالِثُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَبْسُ تَضْيِيقٍ وَتَنْكِيلٍ، وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَدَائِهِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ، وَنَصُّوا عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالضَّرْبِ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» ، وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ شَرْعًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» ، وَالْعُقُوبَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْحَبْسِ بَلْ هِيَ فِي الضَّرْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْحَبْسِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَحْبِسُ وَالِدَهُ فِي دَيْنِهِ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ بِخِلَافِ نَفَقَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِدَيْنٍ أَوْ بِتَجْرٍ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَطِبَ وَلَا سَرَقَ وَلَا نَكَبَ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ، فِي الْجَمِيعِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يَمُوتَ فِي الْحَبْسِ، أَوْ يَتَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ فَيُطْلِقُهُ بَعْدَ أَنْ يُحَلِّفَهُ، وَبِذَلِكَ كَانَ سَحْنُونٌ يَفْعَلُ وَهَذَا لِقُوَّةِ التُّهْمَةِ أَنَّهُ غَيَّبَ الْمَالَ.
مَسْأَلَةٌ: وَيُحْبَسُ الْوَصِيُّ إذَا لَمْ يَدْفَعْ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْأَيْتَامِ، إذَا كَانَ لَهُمْ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ وَكَذَلِكَ الْأَبُ، وَيُحْبَسُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَاللَّدُّ لِأَبَوَيْهِ وَلَا يُحْبَسَانِ، وَلَكِنْ يَأْمُرُهُمَا الْإِمَامُ بِالْقَضَاءِ وَيَحُثُّهُمَا وَيَجْتَهِدُ فِي إلْزَامِهِمَا بِهِ لِئَلَّا يَظْلِمَهُ لَهُمَا، وَيُحْبَسُ السَّيِّدُ فِي دَيْنِ مُكَاتَبِهِ، وَيُحْبَسُ فِي نَفَقَةِ الْعَبِيدِ وَمَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ.
مَسْأَلَةٌ: إذَا ثَبَتَ عُدْمُ الْغَرِيمِ وَانْقَضَى أَمَدُ سَجْنِهِ فَلَا يُطْلِقُهُ، حَتَّى يُحَلِّفَهُ أَنَّهُ مَا لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ، وَلَئِنْ وَجَدَ مَالًا لَيُؤَدِّيَنَّ إلَيْهِ حَقَّهُ.
وَفَائِدَةُ زِيَادَتِهِ فِي الْيَمِينِ، وَلَئِنْ وَجَدَ مَالًا لَيُؤَدِّيَنَّ أَنَّهُ لَوْ قَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَادَّعَى عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، وَسُئِلَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ أَفَادَ مَالًا وَلَمْ يَأْتِ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، سُئِلَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ أَنَّهُ مَا أَفَادَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ تَعْنِيتِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِالْيَمِينِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَفَادَ مَالًا.
مَسْأَلَةٌ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا كَانَ مَلِيًّا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِإِنْصَافِ غَرِيمِهِ، فَإِنْ لَدَّ وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ قَضَى مِنْهُ وَإِلَّا سُجِنَ، فَإِنْ قَضَى وَإِلَّا ضُرِبَ حَتَّى يَقْضِيَ.
فَرْعٌ: فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَكِنْ بِمَضَرَّةٍ فَإِنْظَارُهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ وَبَاعَهُ فِي الْحَالِ قَضَى مِنْهُ، وَلَكِنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، كَجَارِيَتِهِ وَعَبْدِ التَّاجِرِ وَمَرْكُوبِهِ، وَمَا يُدْرِكُهُ فِي بَيْعِهِ مَضَرَّةٌ أَوْ مَعَرَّةٌ لَمْ يُؤْخَذْ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ الْقَضَاءُ مِنْ عَيْنِ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَقَالَهُ اللَّخْمِيُّ: وَسُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ حَالٌّ، وَلِلْغَرِيمِ سِلْعَةٌ يُمْكِنُ بَيْعُهَا بِسُرْعَةٍ، فَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَنْ تُبَاعَ، وَطَلَبَ الْمِدْيَانُ أَنْ لَا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَضَعَ السِّلْعَةَ رَهْنًا، وَيُؤَجَّلَ أَيَّامًا يَنْظُرَ فِيهَا فِي الدَّيْنِ.
فَأَجَابَ بِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تُجْعَلَ السِّلْعَةُ رَهْنًا، وَيُؤَجَّلَ فِي إحْضَارِ الْمَالِ بِقَدْرِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا جَرَى الْقَضَاءُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الرِّوَايَاتُ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ عَرَضَ رُبْعَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِيهِ إلَّا بِبَخْسٍ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ يَدْعُو الْحَاكِمُ إلَى رُبْعِهِ وَيَسْتَقْصِي فِيهِ الثَّمَنَ، ثُمَّ يَبِيعُهُ بِالْخِيَارِ رَجَاءَ أَنْ يُزَادَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ زِيَادَةٌ بَاعَهُ أَوْ بَاعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ إنْ وَجَدَ مَنْ يَشْتَرِي بَعْضَهُ.
فَرْعٌ: فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْأُصُولِ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا أَعْذَرَ الْحَاكِمُ إلَى الطَّالِبِ فِي الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْأُصُولِ، فَإِنْ سَلَّمَهَا وَطَلَبَ وَاجِبَ الشَّرْعِ وَادَّعَى مَدْفَعًا وَعَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ، أَحْلَفَ الْقَاضِي الْغَرِيمَ أَنَّهُ مَا يَمْلِكُ الرُّبْعَ، ثُمَّ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلًا بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَبِيعُ فِي مِثْلِهِ، قَالَ ابْنُ زَرْبٍ وَغَيْرُهُ يُؤَجَّلُ نَحْوَ شَهْرَيْنِ، قَالَ سَحْنُونٌ: وَلَا يَلْزَمُهُ حَمِيلٌ بِالْمَالِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَلْزَمُهُ حَمِيلٌ بِالْوَجْهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: حَبْسُ تَعْزِيرٍ وَتَأْدِيبٍ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ أَلَدَّ وَاتُّهِمَ أَنَّهُ خَبَّأَ مَالًا وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَيُطَالُ حَبْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ أَوْ يَثْبُتَ عَدَمُهُ فَيَحْلِفَ وَيُخَلَّى عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ: وَهَذَا الْمُتَّهَمُ لَا بُدَّ مِنْ سَجْنِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِحَمِيلٍ غَارِمٍ، وَلَا يَسْقُطُ الْغُرْمُ عَنْهُ بِثُبُوتِ عُدْمِ الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّ سَجْنَهُ إنَّمَا هُوَ لِيَلْجَأَ إلَى الْأَدَاءِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَمِيلٌ بِوَجْهِهِ.
مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا ادَّعَى الْغَرِيمُ الْعُدْمَ، فَإِنْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي لَمْ يَكُنْ لَهُ مَقَالٌ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ وَادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّ الطَّالِبَ عَالِمٌ بِعُدْمِهِ، فَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ وَابْنُ الْفَخَّارِ وَغَيْرُهُمَا يَحْلِفُ لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَقَالٌ غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْتَحْلِفُهُ مَا لَهُ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ، وَلَا يَحْلِفُ الْبَتَّ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ لَا يَعْلَمُ بِهِ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمَطْلُوبُ عِلْمَ الطَّالِبِ بِعُدْمِهِ، أَوْ ادَّعَاهُ فَحَلَفَ، فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ ظَاهِرَ الْإِقْلَالِ لِبَذَاذَةِ حَالِهِ أَوْ قِلَّةِ جَدْوَى حِرْفَتِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْبَقَّالِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصُّنَّاعِ، وَمِنْ شَأْنِ أَهْلِهَا الْعُدْمِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُسْجَنُ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى قَلِيلًا مِمَّا عُومِلَ عَلَيْهِ فِي صَنْعَتِهِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الصِّدْقِ حَتَّى يَثْبُتَ ذَلِكَ.
فَرْعٌ: فَإِذَا أَثْبَتَ الْغَرِيمُ عُدْمَهُ وَأُعْذِرَ لِلطَّالِبِ فِي شُهُودِ الْعُدْمِ فَادَّعَى مَدْفَعًا وَعَجَزَ عَنْهُ خَلَّى الْحَاكِمُ سَبِيلَ الْغَرِيمِ.
فَرْعٌ: وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فَامْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى يُبْرِزَ الْمَطْلُوبُ الْمَالَ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ حَتَّى يَحْلِفَ الطَّالِبُ إذْ لَا يُسْتَحَقُّ الْمَالُ إلَّا بِالْيَمِينِ فَإِنْ قَالَ: أَخْشَى أَنْ أَحْلِفَ ثُمَّ يَدَّعِيَ الْمَطْلُوبُ الْعُدْمَ، كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ مُوسِرٌ غَيْرُ عَدِيمٍ، ثُمَّ يَحْلِفُ الطَّالِبُ، فَإِنْ ادَّعَى الْمَطْلُوبُ الْعُدْمَ بَعْدَ ذَلِكَ حُبِسَ حَتَّى يُؤَدِّيَ وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِالْعُدْمِ إنْ قَامَتْ لَهُ، لِأَنَّهُ أَلَدَّ بِهَا وَيُطَالُ سَجْنُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ.
فَرْعٌ: وَأَمَّا إنْ بَاعَ الرَّجُلُ مَنَافِعَهُ مِنْ رَجُلٍ لِيَنْسِجَ لَهُ ثِيَابًا مُدَّةً مَعْلُومَةً، جُبِرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ تِلْكَ الْمُدَّةَ قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَيَفْتَرِقُ الْجَوَابُ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لِمَا يُنْفِقُ عَلَى عِيَالِهِ، فَأَمَّا مَنْ يُدَايِنُ لِيَعْمَلَ وَيَقْضِيَ، فَإِنَّهُ مُبْتَدَأٌ بِنَفَقَتِهِ عِيَالَهُ وَمَقْضِيٌّ دَيْنُهُ مِنْ الْفَاضِلِ، وَإِنْ بَاعَ مَنَافِعَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بُدِئَ بِاَلَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَتَكَفَّفَ النَّاسَ إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، فَيُخَيَّرُ الْمُسْتَأْجِرُ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّفَهُ مَا يَعِيشُ هُوَ بِهِ دُونَ عِيَالِهِ حَتَّى يَتِمَّ عَمَلَهُ، أَوْ يَتْرُكَهُ يَعْمَلُ عِنْدَ غَيْرِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا سَأَلَ الْغَرِيمُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْحَاكِمُ الْيَوْمَ وَنَحْوَهُ، يُعْطِي حَمِيلًا بِالْمَالِ أُخِّرَ وَالْقُضَاةُ الْيَوْمَ يُؤَخِّرُونَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ حَسْبَمَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْغَرِيمِ مِنْ لَدَدٍ وَغَيْرِهِ.
وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَنْ مَنْ وَجَبَ لَهُ دَيْنٌ فَسَأَلَ أَنْ يُؤَخَّرَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ: يُؤَخَّرُ وَيُعْطَى حَمِيلًا بِالْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْمَالِ حَمِيلًا وَلَا وَجَدَ الْمَالَ سُجِنَ.
وَوَقَعَ فُتْيَا بَعْضِ الشُّيُوخِ فِيمَنْ سَأَلَ التَّأْخِيرَ بِحَمِيلِ الْمَالِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْقَاضِي تَأْخِيرٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْأَدَاءِ، فَإِنْ أَبَى الطَّالِبُ أَنْ يُؤَخِّرَ فَالْحَبْسُ، وَلَكِنَّ الْغَرِيمَ يَسْأَلُ ذَلِكَ مِنْ الطَّالِبِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَظَرِ الْقَاضِي وَأَمْرِهِ، فَلَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَحُضُّ بِالرِّفْقِ عَلَى الْغَرِيمِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَهْلٍ وَقَالَ: هَذَا خِلَافٌ لِنُصُوصِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُسْتَشْفِعِ: يُرِيدُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ وَلَا يَحْضُرُهُ النَّقْدُ أَنَّهُ يُؤَخِّرُهُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَبِذَلِكَ أَخَذَ مَالِكٌ وَرَآهُ حَسَنًا مِنْ عَمَلِ الْقُضَاةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يُؤَخَّرُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، قَالَ أَصْبَغُ: الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَالْعِشْرِينَ بِالِاجْتِهَادِ.
وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: فِي الْمُكَاتَبِ إنْ جَاءَ بِالْكِتَابَةِ إلَى الْأَجَلِ وَإِلَّا أُخِّرَ شَهْرًا أَوْ نَحْوَهُ، كَمَا يُؤَخَّرُ الْغَرِيمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ كُلُّ مَطْلُوبٍ بِحَقٍّ يُؤَخَّرُ قَدْرَ مَا يَرَى حِينَ يَتْرُكَ ذَلِكَ يُؤَخَّرُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخَمْسَةٍ، وَذَلِكَ مُخْتَلِفٌ فِي كَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ وَهُوَ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِيمَنْ نَزَلَ ذَلِكَ بِهِ، فَهَذِهِ نُصُوصٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي تَأْخِيرِ الْغَرِيمِ مِمَّا يُطْلَبُ بِهِ، وَقَدْ جَعَلُوا إلَى الْقَاضِي التَّأْخِيرَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَبِالتَّأْخِيرِ الْيَوْمَ وَنَحْوَهُ إذَا أَعْطَى حَمِيلًا بِالْمَالِ جَرَى الْعَمَلُ وَالْفُتْيَا وَوَقَعَ سَمَاعُ عِيسَى فِي الْحَمِيلِ بِالْمَالِ، إذَا حَلَّ أَجَلُهُ لَا يُؤَخَّرُ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ كَالْغَرِيمِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ، وَاَلَّذِي قَدَّمْنَاهُ هُوَ الْبَيِّنُ، اُنْظُرْ ابْنَ سَهْلٍ فِي بَابِ الْمِدْيَانِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ فِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ: قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْمِدْيَانَ فَسَأَلَ الْإِنْظَارَ وَوَعَدَ الْقَضَاءَ، أَخَّرَهُ الْإِمَامُ بِقَدْرِ مَا يَرْجُوهُ وَلَا يُعَجِّلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا تَفَالَسَ وَلَمْ يُعِدْ بِالْقَضَاءِ وَجُهِلَ عُدْمُهُ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ فِي الدُّرَيْهِمَاتِ نِصْفَ شَهْرٍ.
وَفِي الْوَسَطِ مِنْ الدَّيْنِ شَهْرَيْنِ، وَفِي الْكَثِيرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
مَسْأَلَةٌ: إذَا شَهِدَ قَوْمٌ بِالْعُدْمِ وَشَهِدَ قَوْمٌ بِالْمُلَاءِ، فَإِنْ شَهِدُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْحَالِ وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ مَا لَا أَخْفَاهُ، فَقِيلَ: يَقْضِي بِأَعْدَلِهِمَا، فَإِنْ تَكَافَأَتَا سَقَطَتَا وَبَقِيَ مَسْجُونًا، وَقِيلَ: بَلْ يُخْرَجُ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ وَعَنْ حَالِهِ فِي السِّرِّ فَيُعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: إنَّ بَيِّنَةَ الْمُلَاءِ أَعْمَلُ وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى أَعْدَلُ، وَلَوْ قَالَتْ بَيِّنَةُ الْمُلَاءِ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا أَخْفَاهُ لَمَا صَحَّ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي أَنَّهَا أَعْمَلُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: حَبْسُ تَلَوُّمٍ وَاخْتِبَارٍ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجْهُولِ الْحَالِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْغَرِيمُ ظَاهِرَ الْإِقْلَالِ سَجَنَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّ الْغَالِبَ الْمُلَاءُ حَتَّى يَثْبُتَ عُدْمُهُ إلَّا مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ ظَاهِرُ الْعُدْمِ فَإِنَّهُ يُسْجَنُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ.
وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا يُحْبَسُ الْحُرُّ وَلَا الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يُسْتَبْرَأُ أَمْرُهُ، فَإِنْ اُتُّهِمَ أَنَّهُ خَبَّأَ مَالًا وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ.
مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ طَلَبَ أَنْ يُعْطِيَ حَمِيلًا بِوَجْهٍ حَتَّى يُثْبِتَ عُدْمَهُ، أَوْ كَانَ فِي السِّجْنِ وَطَلَبَ الْخُرُوجَ بِحَمِيلٍ لِيُثْبِتَ عُدْمَهُ فَعَمَلُ قُضَاةِ الْعَصْرِ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ ذَلِكَ، اُنْظُرْ ابْنَ رَاشِدٍ.
وَفِي التَّبْصِرَةِ: إذَا حُبِسَ الْغَرِيمُ فِي دَيْنٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ وَثَبَتَ فَقْرُهُ، ثُمَّ أَتَى بِحَمِيلٍ لِيَسْعَى فِي مَنَافِعِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يُحْبَسْ، وَمَنَعَهُ سَحْنُونٌ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِاللَّدَدِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَمِيلٌ وَالسِّجْنُ أَقْرَبُ لِاسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عُدْمُهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ يَمِينِهِ مَا أَخْفَى شَيْئًا، فَإِذَا أَعْطَى حَمِيلًا وَتَغَيَّبَ لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَحْلِفَ عَنْهُ.
فَرْعٌ: إذَا قَبِلَ مِنْهُ الْحَمِيلُ لِيُثْبِتَ عُدْمَهُ فَغَابَ الْغَرِيمُ وَأَثْبَتَ الْحَمِيلُ عُدْمَ الْغَرِيمِ، فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يَغْرَمُ الْحَمِيلُ وَإِنْ تَبَيَّنَ عُدْمُهُ لِأَجْلِ الْيَمِينِ اللَّازِمَةِ لَهُ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: إذَا ثَبَتَ عُدْمُهُ بَرِئَ مِنْ الْحَمَالَةِ،
لِأَنَّ الْيَمِينَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْفَقْرِ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا اسْتِحْسَانٌ وَاسْتِظْهَارٌ إلَّا أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مِمَّنْ يَكْتُمُ.
مَسْأَلَةٌ: نَقَلَ ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ اللَّخْمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ تَنْزِلُ أَشْيَاءُ لَا تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالْعُدْمِ وَدَعْوَى الْعَجْزِ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فَقِيرًا.
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُطْلَبُ بِدَيْنٍ مُنَاجَمَةً فَيَقْضِي بَعْضَ تِلْكَ النُّجُومِ ثُمَّ يَدَّعِي الْعَجْزَ بَعْدَ قَضَاءِ الْبَعْضِ وَيَأْتِي بِمَنْ يَشْهَدُ بِفَقْرِهِ، وَحَالُهُ يَتَغَيَّرُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَدَاءِ فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ.
وَمِنْهَا: الرَّجُلُ يُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ وَأُمِّهِ فِي الْعِصْمَةِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا يَدَّعِي الْعَجْزَ عَنْ نَفَقَةِ وَلَدِهِ، فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِالْفَقْرِ وَلَا بِالْعَجْزِ، لِأَنَّهُ بِالْأَمْسِ قَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَهُوَ الْيَوْمَ أَقْدَرُ لِزَوَالِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَنْهُ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ مَا نَقَلَهُ عَنْ حَالِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ.
مَسْأَلَةٌ: إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ كَالْإِتْلَافِ وَالضَّمَانِ وَالْمَهْرِ وَالْحَمَالَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ نَفَقَةُ الْقَرَابَةِ فَادَّعَى الْغَرِيمُ الْإِعْسَارَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَلَا يُعْلَمُ حَالُهُ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ فَقِيلَ: يُسْجَنُ، وَقِيلَ: لَا يُسْجَنُ، وَإِنَّمَا يَكْشِفُ الْإِمَامُ عَنْ حَالِهِ، فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا وَإِلَّا سَرَّحَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ، أَصْلٌ يُسْتَصْحَبُ، يَعْنِي لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِهَذَا الدَّيْنِ عِوَضٌ مِنْ بَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى نَفْيِ الْعِوَضِ بِيَدِهِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُحْبَسُ فِي الْجَمِيعِ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي الْمَعُونَةِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ بِبَيِّنَةٍ فَطَالَبَهُ الْمُدَّعِي، كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ حَتَّى يُحْضِرَ الْوَثِيقَةَ وَتَسْقُطَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ مِنْهَا.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي بَابِ النِّكَاحِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: مَنْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ بِصَكٍّ وَأَرَادَ أَخْذَ الصَّكِّ وَأَبَى الطَّالِبُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى إعْطَائِهِ، وَأُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بَرَاءَةً كِتَابًا فِي الْوَضْعِ الَّذِي فِيهِ الشُّهُودُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَبِهَذَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ.
الرَّابِعُ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ، وَحَبْسُ مَنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ.
الْخَامِسُ: حَبْسُ الْجَانِي تَعْزِيرًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَمْثِلَتُهُ مُسْتَوْفَاةً فِي بَابِ التَّعْزِيرِ.
السَّادِسُ: حَبْسُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ مَسْأَلَةَ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُمٍّ وَابْنَتِهَا وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرٍ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي الطُّرَرِ إذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَهُ وَادَّعَى الرُّؤْيَةَ يُسْجَنُ حَتَّى يُلَاعِنَ.
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ ذَلِكَ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا فَأَنْكَرَ، فَأَقَامَتْ شَاهِدًا فَطُولِبَ بِالْيَمِينِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْلِفَ، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُسْجَنُ، فَإِنْ طَالَ تُرِكَ وَالطُّولُ فِي ذَلِكَ سَنَةٌ، وَقِيلَ: يُسْجَنُ: أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ.
فَرْعٌ: وَمِنْ ذَلِكَ عُقُوقُ الْأَبَوَيْنِ، فَإِنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَسْأَلَةُ مَنْ اشْتَكَى بِعُقُوقِ وَلَدِهِ فَحُبِسَ ذَكَرَهَا ابْنُ سَهْلٍ فِي الْأَحْكَامِ.
السَّابِعُ: حَبْسُ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ.
فَرْعٌ: وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَهُ فِي هَذَا الدَّارِ حَقٌّ وَهِيَ بِيَدِهِ، جُبِرَ عَلَى تَفْسِيرِهِ وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ إنْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَكْثَرَ، فَإِنْ أَبَى سُجِنَ، فَلَوْ فَسَّرَهُ بِجِذْعٍ وَبَابٍ مُرَكَّبٍ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: يُصَدَّقُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يُصَدَّقُ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ هَذَا الْبِنَاءُ فِي الدَّارِ فَفِي تَصْدِيقِهِ قَوْلَانِ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ هَذَا الثَّوْبُ أَوْ هَذَا الطَّعَامُ، فَرَجَعَ سَحْنُونٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ، وَلَوْ فَسَّرَهُ بِسُكْنَى شَهْرٍ أَوْ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ حَقٌّ فَفَسَّرَهُ بِثَمَرَةِ نَخْلِهِ، أَوْ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فَفَسَّرَ بِأَنَّهُ زَرَعَهَا لَهُ سَنَةً، لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ سَحْنُونٍ الْأَخِيرِ فِي الْجَمِيعِ.
فَرْعٌ: وَأَمَّا لَوْ قَالَ حَقٌّ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ، لَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الدَّارِ أَوْ الثَّوْبِ، وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ.