الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْقَضَاءِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ]
وَالسِّيَاسَةُ نَوْعَانِ: سِيَاسَةٌ ظَالِمَةٌ فَالشَّرْعُ يُحَرِّمُهَا، وَسِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنْ الظَّالِمِ وَتَدْفَعُ كَثِيرًا مِنْ الْمَظَالِمِ، وَتَرْدَعُ أَهْلَ الْفَسَادِ وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالشَّرْعِيَّةُ تُوجِبُ الْمَصْدَرَ إلَيْهِ وَالِاعْتِمَادَ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ عَلَيْهَا، وَهِيَ بَابٌ وَاسِعٌ تَضِلُّ فِيهِ الْأَفْهَامُ وَتَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ، وَإِهْمَالُهُ يُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيُعَطِّلُ الْحُدُودَ، وَيُجَرِّئُ أَهْلَ الْفَسَادِ وَيُعِينُ أَهْلَ الْعِنَادِ.
وَالتَّوَسُّعُ فِيهِ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمَظَالِمِ الشَّنِيعَةِ، وَيُوجِبُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ، وَبِهَذَا سَلَكَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ مَسْلَكَ التَّفْرِيطِ الْمَذْمُومِ، فَقَطَعُوا النَّظَرَ عَنْ هَذَا الْبَابِ إلَّا فِيمَا قَلَّ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، فَسَدُّوا مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ سَبِيلًا وَاضِحَةً، وَعَدَلُوا إلَى طَرِيقِ الْعِنَادِ فَاضِحَةً، لِأَنَّ فِي إنْكَارِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالنُّصُوصِ الشَّرِيفَةِ تَغْلِيطًا لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
وَطَائِفَةٌ سَلَكَتْ هَذَا الْبَابَ مَسْلَكَ الْإِفْرَاطِ، فَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَرَجُوا عَنْ قَانُونِ الشَّرْعِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالسِّيَاسَةِ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَاصِرَةٌ عَنْ سِيَاسَةِ الْخَلْقِ وَمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ جَهْلٌ وَغَلَطٌ فَاحِشٌ. فَقَدْ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فَدَخَلَ فِي هَذَا جَمِيعُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» .
وَطَائِفَةٌ تَوَسَّطَتْ وَسَلَكَتْ فِيهِ مَسْلَكَ الْحَقِّ وَجَمَعُوا بَيْنَ السِّيَاسَةِ وَالشَّرْعِ، فَقَمَعُوا الْبَاطِلَ وَدَحَضُوهُ، وَنَصَبُوا الشَّرْعَ وَنَصَرُوهُ، وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]
وَهَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى شَرَعَ الْأَحْكَامَ بِحِكَمٍ، مِنْهَا مَا أَدْرَكْنَاهُ وَمِنْهَا مَا خَفِيَ عَلَيْنَا رَعْيًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَرْءًا لِمَفَاسِدِهِمْ، تَفَضُّلًا لَا وَاجِبًا وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: شُرِعَ لِكَسْرِ النَّفْسِ، كَالْعِبَادَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: شُرِعَ لِجَلْبِ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ كَالْإِذْنِ فِي الْمُبَاحَاتِ الْمُحَصَّلَةِ لِلرَّاحَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْوَطْءِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرُورَاتِ، كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاتِ لِافْتِقَارِ الْإِنْسَانِ، إلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى اسْتِخْدَامِ غَيْرِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: شُرِعَ تَنْبِيهًا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَالْحَضِّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَعِتْقِ الرِّقَابِ وَالْهِبَاتِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الْمَقْصُودُ شُرِعَ لِلسِّيَاسَةِ وَالزَّجْرِ وَهُوَ سِتَّةُ أَصْنَافٍ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: شُرِعَ لِصِيَانَةِ الْوُجُودِ، كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] . مَعْنَاهُ أَنَّ الْقِصَاصَ الَّذِي كَتَبْته عَلَيْكُمْ إذَا أُقِيمَ ازْدَجَرَ النَّاسُ عَنْ الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ وَإِبَانَةِ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْقِصَاصَ حَيَاةً وَنَكَالًا وَعِظَةً لِأَهْلِ الْجَهْلِ، فَكَمْ رَجُلٍ هَمَّ بِدَاهِيَةٍ لَوْلَا مَخَافَةُ الْقِصَاصِ لَوَقَعَ بِهَا، وَلَكِنَّ
الْقِصَاصَ حَجَزَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَخَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَإِنْ كَانَ الْخَطَّابُ عَامًّا؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ، ثُمَّ قَالَ:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] يَعْنِي الدِّمَاءَ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ لِيَزْدَجِرَ النَّاسُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْكُفَّارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] الْآيَةَ، وَفِي قِتَالِ الْكُفَّارِ زِيَادَةُ مَعْنًى هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَمَحْوُ الشِّرْكِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مِنْ الْأَحْكَامِ: شُرِعَ حِفْظُ الْأَنْسَابِ كَحَدِّ الزِّنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ حُكْمَ التَّغْرِيبِ وَحَدَّ الزَّانِي الثَّيِّبِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مِنْ الْأَحْكَامِ شُرِعَ لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ، لِأَنَّ صِيَانَتَهَا لَمِنْ أَكْبَرِ الْأَغْرَاضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وَأَلْحَقَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ التَّعْزِيرَ عَلَى السَّبِّ وَالْأَذَى بِالْقَوْلِ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مِنْ الْأَحْكَامِ شُرِعَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ، كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْحِرَابَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] ، وَيُلْتَحَقُ بِذَلِكَ تَعْزِيرُ الْغُصَّابِ وَنَحْوِهِمْ.
الصِّنْفُ الْخَامِسُ: مِنْ الْأَحْكَامِ شُرِعَ لِحِفْظِ الْعَقْلِ، كَحَدِّ الْخَمْرِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلَى قَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِحَدِّ الشَّارِبِ.
الصِّنْفُ السَّادِسُ: مِنْ الْأَحْكَامِ شُرِعَ لِلرَّدْعِ وَالتَّعْزِيرِ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلَى قَوْلِهِ:
{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، أَيْ لِيَذُوقَ جَزَاءَ فِعْلِهِ وقَوْله تَعَالَى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]، ثُمَّ شَرَعَ كَفَّارَةَ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3] إلَى قَوْلِهِ: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة: 4] وقَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] الْآيَةَ.
وَقِصَّةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ غِفَارٍ أَقْبَلَا يُرِيدَانِ الْإِسْلَامَ، حَتَّى إذَا كَانَا قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ أَمْسَيَا فَبَاتَا، وَأَتَى أُنَاسٌ يَظْهَرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاتُوا قَرِيبًا مِنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ السَّحَرِ قَامُوا لِيَذْهَبُوا فَقَعَدُوا قَرِيبًا مِنْ الْإِبِلِ، فَاتَّهَمُوا الْغِفَارِيَّيْنِ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَبَسَ الْوَاحِدَ وَأَرْسَلَ الْآخَرَ، فَوَجَدَهُمَا قَرِيبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي بَاتُوا فِيهِ فَأَتَوْا بِهِمَا. فَقَالَ الْغِفَارِيَّانِ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنَّا لَبَرَاءً، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَغْفِرُوا لِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: غَفَرَ اللَّهُ لَك، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَك يَغْفِرُ اللَّهِ وَقَبِلَك اللَّهُ فِي سَبِيلِهِ وَقَالَ لِلْآخَرِ: اسْتَغْفِرْ لِي فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنْ كُنَّا لَبَرَاءً، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ اسْتَغْفِرْ لِرَسُولِ اللَّهِ وَيْحَك، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَك، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَخْذِ الرَّجُلِ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:«أَنَّ ثَقِيفَةَ كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي غِفَارٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ بِمَ أَخَذْتنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ، فَقَالَ أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ قَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إنِّي مُسْلِمٌ، قَالَ: لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت، فَفَدَاهُ النَّبِيُّ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» .
وَإِنَّمَا فَعَلَ بِكِنَانَةَ لِأَنَّ الْكَنْزَ كَانَ عِنْدَهُ، وَصَاحِبُ الْكَنْزِ كَانَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقُتِلَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ «لَمَّا وَقَعَتْ قَضِيَّةُ الْإِفْكِ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ بِهَا، اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رضي الله عنهما، فَقَالَ زَيْدٌ: أَهْلُك يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا وَهَذَا الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ. وَأَمَّا عَلِيٌّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ النِّسَاءَ كَثِيرٌ، وَإِنَّك لَتَقْدِرُ أَنْ تَسْتَخْلِفَ، وَاسْأَلْ الْجَارِيَةَ فَإِنَّهَا سَتَصْدُقُك، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ لِيَسْأَلَهَا، فَقَامَ إلَيْهَا عَلِيٌّ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَقُولُ: اُصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَتَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا وَمَا كُنْت أَعِيبُ عَلَى عَائِشَةَ، إلَّا أَنِّي كُنْت أَعْجِنُ الْعَجِينَ فَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ، فَتَنَامُ عَنْهُ فَتَأْتِي الشَّاةُ فَتَأْكُلُهُ» وَهَذَا مِنْ السِّيَاسَةِ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا لِتُقِرَّ بِمَا عِنْدَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ رَجُلًا فَاتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ جَاسُوسٌ لِلْعَدُوِّ فَعَاقَبُوهُ حَتَّى أَقَرَّ» ، نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ فِي بَابِ السِّيَاسَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي جَامِعِ الْخِلَالِ، «أَنَّهُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةِ دَمٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً» ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «أَنَّهُ حُبِسَ فِي تُهْمَةٍ» .
وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» . وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ فِي بَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا اتَّهَمَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِسَرِقَةٍ وَكَانَ صَاحِبُهُ فِي السَّفَرِ» .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ
آمُرَ فِتْيَانًا فَيَجْمَعُونَ حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ، ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ» ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ أَوْ الْمُنَافِقِينَ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَالْمُنَافِقُونَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] .
وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ لَقَدْ هَمَمْت تَقْدِيمَ الْوَعِيدِ كَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّ الْمُفْسِدَةَ إذَا ارْتَفَعَتْ وَانْدَفَعَتْ بِالْأَخَفِّ مِنْ الزَّوَاجِرِ لَمْ يُعْدَلْ إلَى الْأَعْلَى.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَك إلَى الطَّرِيقِ فَانْطَلَقَ فَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إلَيْهِ فَقَالُوا: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ لِي جَارٌ يُؤْذِينِي، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ أَخْرِجْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى مَنْزِلِك فَوَاَللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ» .
وَمِمَّا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْحُكْمِ بِقِتَالِهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ احْتَجَبَ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ وَصَارَ يَحْكُمُ فِي دَارِهِ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِتَحْرِيقِ حَانُوتِ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ، الَّذِي كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فُوَيْسِقٌ وَلَسْت بِرُوَيْشِدٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه لَمَّا خَافَ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْقُرْآنِ وَيَفْتَرِقَ النَّاسُ فِيهِ، أَمَرَ بِتَحْرِيقِ الْمَصَاحِفِ وَجَمَعَ الْأُمَّةَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ لَمَّا رَأَى لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَرَأَوْا ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ «مَا فَعَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا، وَجَعَلَ لَهَا عَلَيْهِ، جُعْلًا إلَى أَنْ
تُوصِلَهُ إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ فِي الْكِتَابِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَسِيرِ إلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ. فَجَاءَ الْخَبَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ حَتَّى أَدْرَكَهَا، فَاسْتَنْزَلَاهَا وَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا الْكِتَابَ فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه أَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا كَذَبْنَا، وَلَتُخْرِجِي هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَأَكْشِفَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنْهُ اسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا، وَكَانَ قَدْ جَعَلَتْهُ فِي شَعْرِهَا وَفَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَذَرَ حَاطِبٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُصَانَعَةً لِمَالِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] » الْآيَاتِ.
فَالطَّرِيقُ الَّتِي اسْتَخْرَجَ بِهَا الْكِتَابَ مِنْ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ التَّهْدِيدُ وَالْإِرْعَابُ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه فِي بَعْضِ الْحُكُومَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ دَفَعَا إلَى امْرَأَةٍ مِائَةَ دِينَارٍ وَدِيعَةً، وَقَالَا لَهَا: لَا تَدْفَعُهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ، فَلَبِثَا حَوْلًا وَجَاءَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ: إنَّ صَاحِبِي قَدْ مَاتَ فَادْفَعِي إلَيَّ الدَّنَانِيرَ، فَأَبَتْ وَقَالَتْ: إنَّكُمَا قُلْتُمَا لِي: لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ، فَشَفَعَ إلَيْهَا بِأَهْلِهَا وَجِيرَانِهَا وَتَلَطَّفَ حَتَّى دَفَعَتْهَا إلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: ادْفَعِي إلَيَّ الدَّنَانِيرَ، فَقَالَتْ: إنَّ صَاحِبَك جَاءَ وَادَّعَى أَنَّك قَدْ مِتّ وَدَفَعْتهَا إلَيْهِ، فَتَرَافَعَا إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَعَلِمَ أَنَّهُمَا قَدْ مَكَرَا بِهَا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمَا لَهَا لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ؟ فَقَالَ: فَاذْهَبْ فَجِئْ بِصَاحِبِك حَتَّى تَدْفَعَهَا إلَيْكُمَا، فَذَهَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ إنْسَانًا شَكَا إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه نَفَرًا فَقَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ خَرَجُوا مَعَ أَبِي فِي سَفَرٍ فَعَادُوا وَلَمْ يَعُدْ أَبِي، فَسَأَلْتهمْ عَنْهُ فَقَالُوا: مَاتَ، فَسَأَلْتهمْ عَنْ مَالِهِ فَقَالُوا:
مَا تَرَكَ شَيْئًا، وَكَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَارْتَفَعْنَا إلَى شُرَيْحٍ الْقَاضِي فَاسْتَحْلَفَهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، فَدَعَا عَلِيٌّ رضي الله عنه بِالشُّرَطِ فَوَكَّلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ، وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لَا يُمَكِّنُوا بَعْضَهُمْ يَدْنُوَا مِنْ بَعْضٍ، وَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا يُكَلِّمُهُمْ، وَدَعَا كَاتِبَهُ، وَدَعَا أَحَدَهُمْ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَبِي هَذَا الْفَتَى، فِي أَيِّ يَوْمٍ خَرَجَ مَعَكُمْ، وَفِي أَيِّ مَنْزِلٍ نَزَلَ مَعَكُمْ، وَكَيْفَ كَانَ يَسِيرُ مَعَكُمْ، وَبِأَيِّ عِلَّةٍ مَاتَ، وَكَيْفَ أُصِيبَ بِمَالِهِ، وَسَأَلَهُ عَمَّنْ غَسَّلَهُ وَدَفَنَهُ وَمَنْ تَوَلَّى الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَأَيْنَ دُفِنَ، وَالْكَاتِبُ يَكْتُبُ، ثُمَّ كَبَّرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ مَعَهُ وَالْمُتَّهَمُونَ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ قَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ دَعَا آخَرَ بَعْدَ أَنْ غَيَّبَ الْأَوَّلَ عَنْ مَجْلِسِهِ فَسَأَلَهُ كَمَا سَأَلَ صَاحِبَهُ، ثُمَّ غَيَّبَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَ وَسَأَلَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَوَجَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ بِضِدِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَاحِبُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَدِّ الْأَوَّلِ فَقَالَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ قَدْ عَرَفْت غَدْرَك وَكَذِبَك بِمَا سَمِعْت مِنْ أَصْحَابِك، وَمَا يُنْجِيك مِنْ الْعُقُوبَةِ إلَّا الصِّدْقُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ إلَى السِّجْنِ، وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ بِتَكْبِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْصَرَ الْقَوْمُ الْحَالَ لَمْ يَشُكُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ أَقَرَّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ دَعَا آخَرَ مِنْهُمْ فَهَدَّدَهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كُنْت كَارِهًا لِمَا صَنَعُوا، ثُمَّ دَعَا الْجَمِيعَ فَأَقَرُّوا بِالْقِصَّةِ، وَاسْتَدْعَى الْأَوَّلَ وَقِيلَ لَهُ: أَقَرَّ أَصْحَابُك وَلَا يُنْجِيك سِوَى الصِّدْقُ، فَأَقَرَّ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَأَغْرَمَهُمْ الْمَالَ وَأَقَادَ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ، وَهَذَا مِنْ السِّيَاسَةِ الْحَسَنَةِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ تَفْرِيقِ الشُّهُودِ إذَا اسْتَرَابَ الْقَاضِي مِنْهُمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى رَأْسِهِ فَادَّعَى الْمَضْرُوبُ أَنَّهُ خَرِسَ، وَرُفِعَتْ الْقَضِيَّةُ إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ: يُخْرَجُ لِسَانُهُ وَيُنْخَسُ اللَّقَطَةَ فَإِنْ خَرَجَ الدَّمُ أَحْمَرَ فَهُوَ صَحِيحُ اللِّسَانِ، وَإِنْ خَرَجَ أَسْوَدَ فَهُوَ أَخْرَسُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه فِي فِدَاءِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: يُفْدَى مِنْهُمْ مَنْ كَانَتْ جِرَاحُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ دُونَ مَنْ كَانَتْ وَرَاءَهُ فَإِنَّهُ فَارٌّ.