الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَضَى فِي مَوْلُودٍ لَهُ رَأْسَانِ وَصَدْرَانِ وَحِقْوٌ وَاحِدٌ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُوَرَّثُ مِيرَاثَ اثْنَيْنِ أَوْ مِيرَاثَ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: يُتْرَكُ حَتَّى يَنَامَ ثُمَّ يُصَاحُ، فَإِنْ انْتَبَهَا جَمِيعًا كَانَ لَهُ مِيرَاثٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ انْتَبَهَ وَاحِدٌ وَبَقِيَ وَاحِدٌ كَانَ لَهُ مِيرَاثُ اثْنَيْنِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سِيَاسَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْقُضَاةِ، وَاسْتِخْرَاجِهِمْ الْحُقُوقَ بِالطُّرُقِ السِّيَاسِيَّةِ فَيَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهِ.
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ هَذَا الْبَابِ]
إذَا ثَبَتَ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ السِّيَاسَةَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهَلْ لِلْقُضَاةِ أَنْ يَتَعَاطَوْا الْحُكْمَ بِهَا فِيمَا رُفِعَ إلَيْهِمْ مِنْ اتِّهَامِ اللُّصُوصِ وَأَهْلِ الشَّرِّ وَالتَّعَدِّي؟ وَهَلْ لَهُمْ الْكَشْفُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَرَائِمِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالْقَرَائِنِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ، وَلَا يَقِفُوا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَاتِ؟ وَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُهَدِّدُوا الْخَصْمَ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ أَوْ ضَرْبُهُ أَوْ سُؤَالُهُ عَنْ أَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ؟ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ، مِنْ أَنَّ عُمُومَ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصَهَا وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ يُتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ فِي زَمَانٍ وَمَكَانٍ آخَرَ وَبِالْعَكْسِ.
وَأَمَّا نُصُوصُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ فَصَرِيحَةٌ، بِأَنَّ لَهُمْ تَعَاطِيَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ الذَّخِيرَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى وِلَايَةِ الْكَشْفِ عَنْ الْمَظَالِمِ وَفِي أَحْكَامِ الْجَرَائِمِ، وَكَلَامُهُ فِيهِمَا يَقْضِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي السِّيَاسَةِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا.
وَسَأَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، ثُمَّ أُتْبِعُهُ نُصُوصَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ فِي الْوِلَايَةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَشْفِ عَنْ الْمَظَالِمِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَالِي الْمَظَالِمِ وَبَيْنَ الْقُضَاةِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: لَهُ يَعْنِي نَاظِرَ الْمَظَالِمِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَفْسَحُ مَجَالًا وَأَوْسَعُ مَقَالًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ مِنْ الْإِرْهَابِ وَكَشْفِ الْأَشْيَاءِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ اللَّائِحَةِ مِمَّا يُؤَدِّي إلَى ظُهُورِ الْحَقِّ بِخِلَافِهِمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَابِلُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ بِخِلَافِهِمْ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَتَأَنَّى فِي تَرْدَادِ الْخُصُومِ عِنْدَ اللَّبْسِ، لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ بِخِلَافِهِمْ إذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْلَ الْحُكْمِ لَا يُؤَخِّرُهُ.
السَّادِسُ: لَهُ رَدُّ الْخُصُومِ إذَا أُعْضِلُوا إلَى وَسَاطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلُوا بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقُضَاةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ.
السَّابِعُ: لَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي مُلَازَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ. التَّجَاحُدِ، وَيَأْذَنَ فِي إلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا يَشْرَعُ فِيهِ التَّكَفُّلُ، لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إلَى التَّنَاصُفِ وَيَتْرُكُوا التَّجَاحُدَ بِخِلَافِهِمْ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَسْمَعُ شَهَادَةَ الْمَسْتُورِينَ بِخِلَافِهِمْ.
التَّاسِعُ: لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الشُّهُودَ إنْ ارْتَابَ فِيهِمْ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ يَبْتَدِئَ بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ وَسُؤَالِهِمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ فِي الْقَضِيَّةِ بِخِلَافِهِمْ، لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ حَتَّى يُرِيدَ الْمُدَّعِي إحْضَارَهَا، وَلَا يَسْمَعُونَهَا إلَّا بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي لِسَمَاعِهَا، وَهَذَا تَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنُصُوصُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي أَنَّ لِلْقَاضِي تَعَاطِيَ أَكْثَرِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَدَّ حَتَّى يَسْتَنْطِقَ الْحَقَّ، وَلَا يَدَعَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَيَلِينَ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي الْمُقْنِعِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ.
وَأَمَّا الْأَخْذُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ أَنَّ مَالِكًا رحمه الله ذَهَبَ إلَى التَّوَصُّلِ إلَى الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ، وَذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَوْله تَعَالَى:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] الْآيَةَ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ أَفْرَدْت لَهَا بَابًا سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وَفِي الْبَيَانِ وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُكْرَهُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسَ بِالتُّهْمَةِ فَيَخْلُو بِبَعْضِهِمْ فَيَقُولُ لَك الْأَمَانُ؟ وَأَخْبِرْنِي فَيُخْبِرُهُ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيُغْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ وَجْهِ الْخَدِيعَةِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَلَعَلَّهُ يُخْبِرُهُ بِالْبَاطِلِ لِيَنْجُوَ مِنْ عِقَابِهِ، فَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لَا يَلْزَمُهُ، اُنْظُرْ تَمَامَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَذْفِ.
وَأَمَّا مُقَابَلَةُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَذَكَرَ ابْنُ سَهْلٍ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا انْكَشَفَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْحَبْسُ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّدَدِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي الْأَحْبَاسِ: وَالْمَذْهَبُ أَنَّ مَنْ بَاعَ زَوْجَتَهُ نُكِّلَ نَكَالًا شَدِيدًا وَتَطْلُقُ عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ بَيِّنَةٍ، وَكَذَلِكَ إذَا آذَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ نُكِّلَ وَأُدِّبَ، وَإِنْ آذَى الشُّهُودَ نُكِّلَ بِهِ أَيْضًا.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحَدٍ بِمَا لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ أُدِّبَ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي عَالِمٍ بِمَا لَا يَجِبُ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ، وَفِي بَابِ الْعُقُوبَةِ بِالتَّعْزِيرِ ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَمَّا تَأَنِّيه فِي تَرْدِيدِ الْخُصُومِ عِنْدَ اللُّبْسِ لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْأَخْذُ بِهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَالَ الْخِصَامُ فِي أَمْرٍ وَكَثُرَ التَّشْغِيبُ فِيهِ، فَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَرِّقَ كُتُبَهُمْ إذَا رَجَا بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَمْرِهِمْ، وَيَفْسَخُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْحِجَجِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِابْتِدَاءِ الْحُكُومَةِ وَهُوَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا رَدُّ الْخُصُومِ إلَى وَسَاطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلُوا بَيْنَهُمْ بِالصُّلْحِ، فَقَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ وَمَسَائِلُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ آدَابِ الْقَاضِي: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، سَوَّى بَيْنَهُمَا وَأَقَامَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ.
وَقَدْ أَقَامَ سَحْنُونٌ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي جِيرَانِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَقَالَ: اُسْتُرَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَلَا تُطْلِعَانِ عَلَى سِرِّكُمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي الْوَسَائِطِ.