الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي الْحِرَابَةِ وَعُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُغِيرِينَ]
وَالْحِرَابَةُ كُلُّ فِعْلٍ يُقْصَدُ بِهِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الِاسْتِغَاثَةُ عَادَةً كَإِشْهَارِ السِّلَاحِ وَالْخَنْقِ وَسَقْيِ السَّكْرَانِ لِأَخْذِ الْمَالِ، وَإِنْ قَتَلَ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى مَا مَعَهُ وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ مُحَارَبٌ.
وَفِي الْمُنْتَقَى قَالَ الْقَاضِي أَبُو أَحْمَدَ: الْمُحَارَبُ هُوَ الْقَاطِعُ لِلطَّرِيقِ الْمُخِيفُ لِلسَّبِيلِ، الشَّاهِرُ السِّلَاحَ لِطَلَبٍ فَإِنْ أُعْطِيَ وَإِلَّا قَاتَلَ عَلَيْهِ، كَانَ فِي الْحَضَرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَقَدْ يَكُونُ مُحَارَبًا، وَإِنْ خَرَجَ بِغَيْرِ سَبِيلٍ وَفَعَلَ فِعْلَ الْمُحَارَبِينَ مِنْ التَّلَصُّصِ وَأَخْذِ الْمَالِ مُكَابَرَةً، وَيَكُونُ الْوَاحِدُ مُحَارَبًا.
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ: أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِقَطْعِ السَّبِيلِ بِغَيْرِ مَالٍ فَهُوَ مُحَارَبٌ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَدَعُ هَؤُلَاءِ يَخْرُجُونَ إلَى الشَّامِ أَوْ إلَى مِصْرَ أَوْ إلَى مَكَّةَ فَهَذَا مُحَارَبٌ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى النَّاسِ أَوْ أَخَافَهُمْ لِغَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا إثَارَةٍ فَهُوَ مُحَارَبٌ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ رحمه الله.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: قَاطِعُ الطَّرِيقِ أَحَقُّ بِالْقِتَالِ مِنْ الرُّومِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ أَيْضًا مِنْ الْحِرَابَةِ مِثْلُ أَنْ يَغْتَالَ رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا فَيَخْدَعَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ مَوْضِعًا فَيَأْخُذَ مَا مَعَهُ فَهُوَ كَالْحِرَابَةِ.
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ عَرَضَ لَهُ لِصٌّ لِيَغْصِبَهُ مَالَهُ فَرَمَاهُ وَنَزَعَ عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي نَفْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ لَقِيَ رَجُلًا عِنْدَ الْعَتَمَةِ أَوْ فِي السَّحَرِ فِي خَلْوَةٍ فَنَزَعَ ثَوْبَهُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحَارَبًا يُرِيدُ لِأَنَّ هَذَا مُخْتَلِسٌ، وَلَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ.
مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ دَخَلَ دَارًا بِاللَّيْلِ وَأَخَذَ مَالًا مُكَابَرَةً وَمَنَعَ مِنْ الِاسْتِغَاثَةِ فَهُوَ مُحَارَبٌ.
مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ فِي دَارِهِ فَضَرَبَهُ وَكَابَرَهُ حَتَّى ضَرَبَهُ أَوْ جَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَنْهَبْ مَتَاعًا وَكَانَ ذَلِكَ لِعَدَاوَةٍ فَلَيْسَ بِمُحَارَبٍ وَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَلَيْسَ كُلُّ غَاصِبٍ مُحَارَبًا.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ مَالِكٌ: وَيُنَاشِدُهُ اللَّهُ ثَلَاثًا فَإِنْ عَاجَلَهُ قَاتَلَهُ.
مَسْأَلَةٌ: وَتَثْبُتُ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلَوْ مِنْ الرُّفْقَةِ، إلَّا أَنْ يُضِيفَ الْجِنَايَةَ لِأَنْفُسِهِمَا.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي التَّبْصِرَةِ لِلَّخْمِيِّ: وَتَجُوزُ عَلَى الْمُحَارَبِينَ شَهَادَةُ مَنْ حَارَبُوهُ، وَهَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُحَارَبُونَ بِالْحِرَابَةِ وَادَّعَوْا الْمَالَ لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ أَنْكَرُوا الْحِرَابَةَ جُمْلَةً، لِأَنَّهُمْ إنْ أَنْكَرُوا الْحِرَابَةَ جُمْلَةً فَقَدْ أَزَالُوا الظِّنَّةَ، وَإِنْ صَدَّقُوهُمْ فَقَدْ أَقَرُّوا بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَتَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الرُّفْقَةِ عَلَيْهِمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِالْحِرَابَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَتَاعُ لِأَهْلِ الرُّفْقَةِ اُنْتُزِعَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَ الْمَقَالُ فِيهِ لِأَهْلِ الرُّفْقَةِ، فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا وَسَلَّمَ الْآخَرَانِ أَخَذَهُ، وَإِنْ تَنَازَعَ اثْنَانِ شَيْئًا تَحَالَفَا وَاقْتَسَمَاهُ، وَإِنْ نَكَلَا اقْتَسَمَاهُ، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ، وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ وُقِفَ، وَإِنْ تَنَازَعَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الرُّفْقَةِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَانَ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرُّفْقَةِ دُونَ الْآخَرِ وَيَحْلِفُ إنْ أَتَى الْآخَرُ بِشُبْهَةٍ.
وَأَمَّا إنْ حُدَّ الْمُحَارَبُونَ وَمَعَهُمْ مَالٌ بَعْدَ افْتِرَاقِ الرُّفْقَةِ وَلَمْ يَعْلَمُوا، فَادَّعَى الْمَالَ رَجُلَانِ تَحَالَفَا وَكَانَ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ نَكَلَ كَانَ لِمَنْ حَلَفَ مِنْهُمَا، قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِنْ نَكَلَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا فِيهِ شَيْءٌ، وَنُكُولُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا أَهْلَ الْمَالِ وَالرُّفْقَةُ حَاضِرُونَ، وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمَا.
وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصَا لِأَخْذِ مَا مَعَهُ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ لِأَنَّهُ مِنْ الْحِرَابَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَخْذِ مَا مَعَهُ، لَكِنْ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا وَشَرٍّ فَفِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ الْعَفْوُ قَالَهُ مَالِكٌ.
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ: فِيمَنْ لَقِيَ رِجَالًا فَأَطْعَمَهُمْ السَّوِيقَ فَمَاتُوا، فَقَالَ: مَا أَرَدْت قَتْلَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَدْت أَخْذَ مَا مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا أَعْطَانِي السَّوِيقَ رَجُلٌ وَقَالَ: إنَّهُ يُسْكِرُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ، قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَلَوْ قَالَ: مَا أَرَدْت قَتْلَهُمْ وَلَا أَخْذَ أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ سَوِيقٌ وَلَا شَيْءَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ، قَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ رَدِّ الْمَالِ. فَرْعٌ: قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: وَالْمُعْلِنُ وَالْمُسْتَخْفِي مِنْ الْمُحَارَبِينَ سَوَاءٌ، إذَا أُخِذَ الْمَالُ. وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا أَخَذَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ لَيْلًا فَطَلَبَ رَبُّ الْمَالِ الْمَتَاعَ مِنْهُ فَكَابَرَهُ فَهُوَ مُحَارَبٌ.
مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ لَقِيَ رَجُلٌ رَجُلًا مَعَهُ طَعَامٌ فَسَأَلَهُ طَعَامًا، فَأَتَى عَلَيْهِ فَكَتَّفَهُ وَنَزَعَ مِنْهُ الطَّعَامَ وَنَزَعَ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: هَذَا يُشْبِهُ الْمُحَارَبَ يُرِيدُ أَنَّهُ مُغَالَبٌ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ مُكَابَرَةً وَصِفَتُهُ صِفَةُ الْمُحَارَبِ.
فَرْعٌ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحَارَبَ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِ الْمِصْرِ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَكُونُ مُحَارَبًا إلَّا بِقَطْعِهِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْبَرِّيَّةِ النَّائِيَةِ عَنْ الْبَلَدِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَكُونُ مُحَارَبِينَ فِي الْقَرْيَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْذُونَ إلَّا الْوَاحِدَ وَالْمُسْتَضْعَفَ، وَلَيْسَ فِي الْقُرَى حِرَابَةٌ.
مَسْأَلَةٌ: وَيَسْتَحِقُّ الْمُحَارَبُ بِأَخْذِ الْمَالِ الْيَسِيرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِأَخْذِ الْمَالِ الْكَثِيرِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يَخْتَلِفُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي إجَازَةِ قَتْلِ الْمُحَارَبِينَ، وَأَنَّ مَنْ قَتَلُوهُ فَهُوَ خَيْرُ قَتِيلٍ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فَهُوَ شَرُّ قَتِيلٍ، قَالَ مَالِكٌ: وَيُنَاشِدُهُ اللَّهَ تَعَالَى ثَلَاثًا فَإِنْ عَاجَلَهُ قَاتَلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَدْعُوهُ وَلْيَبْرُزْ إلَى قَتْلِهِ، قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: جِهَادُهُمْ جِهَادٌ.
وَقَالَ عَنْهُ أَشْهَبُ: مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ وَأَعْظَمِهِ أَجْرًا، قَالَ مَالِكٌ فِي أَعْرَابٍ قَطَعُوا الطَّرِيقَ: جِهَادُهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ جِهَادِ الرُّومِ،
وَقَدْ قَالَ عليه السلام: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ، وَإِذَا قُتِلَ دُونَ مَالِهِ وَمَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ مِنْ الْمُنْتَقَى.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا ظَفِرَ بِالْمُحَارَبِ فَلَا يَلِي قَتْلَهُ، وَيَرْفَعُهُ إلَى الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَخَافَ أَنْ لَا يُقِيمَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ فَلْيَلِ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَلِيهِ الْإِمَامُ.
مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ طَلَبَ اللِّصُّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ الْمَالِ كَالطَّعَامِ وَالثَّوْبِ وَمَا خَفَّ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُعْطَاهُ وَلَا يُقَاتَلُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُعْطَى شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ وَلَا يُقَاتَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ لِطَمَعِهِمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يُعْطَى اللُّصُوصُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ، وَهَذَا فِي الْعُدَدِ الْمُنَاصِبُ لَهُمْ الرَّاجِي لِغَلَبَتِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ يُوقِنُ أَنَّهُ لَا قِوَامَ لَهُ وَلَا عِدَّةَ وَلَا مُنَاصَبَةَ فَهُوَ كَالْأَسِيرِ، وَعَسَى أَنْ يُعْذَرَ فِيمَا يُعْطِيهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَمَّنَ الْمُحَارَبُ إذَا سَأَلَ الْإِمَامَ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْمُحَارَبَ وَيُنْزِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَمَانَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي سُلْطَانِك وَعَلَى دِينِك، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعِزَّتِهِ لَا لِدِينٍ وَلَا مِلَّةٍ، رَوَاهُ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ.
فَرْعٌ: وَإِذَا امْتَنَعَ الْمُحَارَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أُعْطِيَ الْأَمَانَ فَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: فَقِيلَ يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَهُ أَصْبَغُ سَوَاءٌ امْتَنَعَ فِي حِصْنٍ أَوْ مَرْكَبٍ أَوْ عَلَى فَرَسٍ، سَوَاءٌ أَمَّنَهُ السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ: لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَزُولُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا فَرَّ اللُّصُوصُ فَقَدْ رَوَى أَصْبَغُ: إنْ كَانَ قَتَلَ أَحَدًا فَلْيُتْبَعْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَ أَحَدًا فَمَا أُحِبُّ أَنْ يُتْبَعْ بِقَتْلٍ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُتْبَعُونَ وَإِنْ بَلَغُوا بِرَكَ الْغِمَادِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُتْبَعُ مُنْهَزِمٌ وَيَقْتُلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ وَمُنْهَزِمِينَ وَلَيْسَ هُرُوبُهُمْ تَوْبَةً وَإِنَّمَا التَّذْفِيفُ.
مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَزِيمَتَهُمْ وَخِيفَ كَرَّتُهُنَّ ذُفِّفَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَإِنْ اسْتَحَقَّتْ الْهَزِيمَةَ فَجَرِيحُهُمْ أَسِيرٌ وَالْحُكْمُ فِيهِمْ إلَى الْإِمَامِ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يَرُدَّ سَحْنُونٌ.
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا أَخَذَ اللُّصُوصُ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَزِمَهُمْ الْحَدُّ وَهُوَ: الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ أَوْ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ أَوْ النَّفْيُ وَالْحَبْسُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] ، الْآيَةَ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ: إنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ تَخْيِيرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَمَصْرُوفٌ إلَى نَظَرِهِ، وَمَشُورَةِ الْفُقَهَاءِ بِمَا يَرَاهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَالذَّبِّ لِلْفَسَادِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى هَوَى الْإِمَامِ وَلَكِنْ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحَارَبَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا مِنْ أَحَدٍ.
فَرْعٌ: قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ طَالَ أَمْرُهُ أَوْ أَخَافَ السَّبِيلَ أَوْ أَخَذَ بِحَضْرَةِ خُرُوجِهِ، فَإِنْ كَانَ طَالَ أَمْرُهُ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا، فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ إذَا أَخَذَ حَضْرَةَ ذَلِكَ وَبَعْدَ طُولِ زَمَانِ.
قَالَ أَشْهَبُ فِي الَّذِي أَخَذَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، هَذَا الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: أَوْ أَخَذَ فِيهِ بِأَيْسَرَ ذَلِكَ، قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُجْلَدَ وَيُنْفَى وَيُحْبَسَ حَيْثُ نُفِيَ إلَيْهِ، قَالَ أَشْهَبُ: فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يَقْطَعَهُ مِنْ خِلَافٍ، فَذَلِكَ لَهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِيهِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: فَيَقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ بِشَرْطِ الِاجْتِهَادِ.
فَرْعٌ: وَأَمَّا إنْ طَالَ أَمْرُهُ وَأَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يُقْتَلْ بِحَدٍّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: يُقْتَلُ وَلَا يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ غَيْرَ الْقَتْلِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا يُجْلَدُ بِالسِّيَاطِ قَبْلَ الْقَتْلِ، قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ: وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَلَا رِجْلُهُ مَعَ الْقَتْلِ.
فَرْعٌ: وَالصَّلْبُ هُوَ الرَّبْطُ عَلَى الْجُذُوعِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَصْلُبُهُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ بِطَعْنَةٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: بِقَتْلِهِ يَصْلُبُهُ، وَالصَّلْبُ مُخْتَصٌّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ الْمُحَارَبَةِ.
فَرْعٌ: وَلَوْ حَبَسَهُ الْإِمَامُ لِيَصْلُبَهُ فَمَاتَ فِي السِّجْنِ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُبُهُ وَلَوْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فِي السِّجْنِ أَوْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ فَلْيَصْلُبْهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ فَاتَتْ الْعُقُوبَةُ فِيهِ، فَلَا مَعْنَى لِصَلْبِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْقَتْلِ أَوْ تَشْنِيعٌ لِلْقَتْلِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَإِذَا فَاتَ الْقَتْلُ بِالْمَوْتِ سَقَطَتْ صِفَتُهُ وَتَوَابِعُهُ، وَأَمَّا إذَا قَتَلَ فِي السِّجْنِ فَقَدْ وَجَبَ الْقَتْلُ فَتَعَقَّبَهُ تَوَابِعُهُ.
فَرْعٌ: وَاخْتُلِفَ هَلْ يَبْقَى عَلَى الْجُذُوعِ حَتَّى تَفْنَى الْخَشَبَةُ وَتَأْكُلُهُ الْكِلَابُ؟ أَوْ يُمَكَّنُ أَوْلِيَاؤُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ غُسْلِهِ وَدَفْنِهِ؟ وَالْأَوَّلُ: رِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَالثَّانِي رِوَايَةُ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ.
مَسْأَلَةٌ: وَالنَّفْيُ مُخْتَصٌّ بِالْأَحْرَارِ الذُّكُورِ وَلَا نَفْيَ عَلَى الْعَبِيدِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ.
مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارَبُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا عَفْوَ فِيهِ لِإِمَامٍ وَلَا لِوَلِيِّ قَتِيلٍ وَلَا لِرَبِّ مَتَاعٍ، وَهُوَ حَدٌّ لِلَّهِ لَا شَفَاعَةَ فِيهِ، فَلَوْ أَسْلَمَ الْقَاضِي الْمُحَارَبُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَعَفَوْا عَنْهُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ: هُوَ حُكْمٌ قَدْ نَفَذَ لَا يُنْتَقَضُ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: يُنْقَضُ وَيُقْتَلُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا عَفْوَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: قَالَ الشَّيْخُ فِي نَوَادِرِهِ يُرِيدُ أَشْهَبَ أَنَّ الشَّاذَّ لَا يُعَدُّ خِلَافًا.
مَسْأَلَةٌ: إذَا قَتَلَ وَاحِدٌ مِنْ اللُّصُوصِ قَتِيلًا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَقَدْ اسْتَوْجَبَ جَمِيعَهُمْ الْقَتْلُ وَلَوْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: إذَا قَتَلَ أَحَدُهُمْ وَكَانَ سَائِرُهُمْ رِدْءًا لَهُمْ وَأَعْوَانًا لَمْ يُبَاشِرُوا الْقَتْلَ فَإِنَّ جَمِيعَهُمْ يُقْتَلُونَ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ تَابُوا كُلُّهُمْ، فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ قَتْلَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَهُمْ قَتْلُ مَا شَاءُوا وَالْعَفْوُ عَمَّا شَاءُوا عَلَى دِيَةٍ أَوْ غَيْرِ دِيَةٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إنْ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ حَدُّ الْحِرَابَةِ، وَلَا يُقْتَلُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ وَلِيَ الْقَتْلَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْتَلُ الْآخَرُونَ وَيُضْرَبُ كُلٌّ مِنْهُمْ مِائَةً وَيُسْجَنُ عَامًا.