الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِيمَا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ وَالْقِيَامُ فِيهِ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ]
الَّتِي إهْمَالُهَا يُجَدِّدُ مَا دَثَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ مَسْأَلَتَيْنِ فِيهِمَا بَيَانُ حُكْمِ مَا قَصَدْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي كِتَابِ الْحَاوِي لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّيُورِيُّ رحمه الله سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْإِبَاضِيَّةِ تَمَسَّكُوا بِمَذْهَبِ الْوَهْبِيَّةِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ بِالْمَغْرِبِ، وَسَكَنُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ بِدْعَتَهُمْ، فَاسْتَوْلَى الْآنَ عَلَى الْبَلَدِ مَنْ أَخْمَلَ ذِكْرَهُمْ وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ، فَأَرَادَ الْآنَ هَدْمَ مَسْجِدٍ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهِ، وَفَسْخَ أَنْكِحَتِهِمْ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ الْوَهْبِيَّ كَانَ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ الْمَالِكِيَّةَ لِتَقْوَى شَوْكَتُهُ بِمُصَاهَرَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَرَادَ هَذَا الْمُتَوَلِّي سَجْنَهُمْ وَضَرْبَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا.
فَأَجَابَ: أَمَّا هَدْمُ الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهِ فَلَا، لَكِنْ يُخْلَى مِنْهُمْ وَيُعَمَّرُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَيُمْنَعُ الْغُرَبَاءُ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِمْ وَالتَّصَرُّفِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَالنِّكَاحُ الَّذِي أَحْدَثُوا مِنْ نِسَائِنَا يُفْسَخُ، وَسَجْنُهُمْ وَضَرْبُهُمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ الْأَمْرِ الْحَقِّ وَيُرَدُّونَ إلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمَنْ قَدْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَيَلْزَمُهُ فِعْلُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ قُدْرَتُهُ ظَاهِرَةً، وَلَا يُتْرَكُونَ يُخَالِفُونَ النَّاسَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ: وَسُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْإِبَاضِيَّةِ، انْتَحَلُوا مَذْهَبَ الْوَهْبِيَّةِ وَسَكَنُوا بَيْنَ ظَهْرِ الْمُسْلِمِينَ مُدَّةً مِنْ السِّنِينَ، فَلَمَّا كَانَ الْآنَ أَظْهَرُوا مَذْهَبَهُمْ وَأَعْلَنُوهُ وَبَنَوْا مَسْجِدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ بِخَلْقٍ مِنْ الْغَرَابِيَّةِ، يُظْهِرُونَ مَذْهَبَهُمْ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا اُسْتُبِينَتْ السُّنَّةُ، فَصَارَ الْغُرَبَاءُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ يَأْتُونَ إلَيْهِمْ بِالْأَطْعِمَةِ وَتُبْسَطُ عِنْدَهُمْ الضِّيَافَاتُ، وَيُقِيمُونَ عِنْدَهُمْ الْأَيَّامَ الْكَثِيرَةَ، وَيُصَلُّونَ الْأَعْيَادَ فِي مُصَلَّى بِالْقُرْبِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ،
فَمَا تَرَى فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يَدَهُ فِي الْبَلَدِ وَمَكَّنَهُ مَنْعُهُمْ مِمَّا أَظْهَرُوهُ وَاسْتَتَابَهُمْ وَسَجَنَهُمْ وَضَرَبَهُمْ إنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ؟ .
فَأَجَابَ: إذَا أَظْهَرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ ذَكَرْت مَذْهَبَهُمْ وَأَعْلَنُوهُ، وَابْتَنَوْا مَسْجِدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَصَلَّوْا الْعِيدَ بِنَاحِيَةٍ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِجَمَاعَةٍ فَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ، يُخْشَى مِنْهُ أَنْ تَشْتَدَّ وَطْأَتُهُمْ وَيُفْسِدُوا عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ، وَيَمِيلُ الْجَهَلَةُ وَمَنْ لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُ إلَيْهِمْ، فَوَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ قُدْرَتَهُ أَنْ يَسْتَتِيبَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعُوا ضُرِبُوا وَسُجِنُوا وَيُبَالِغُ فِي ضَرْبِهِمْ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِيمَنْ تَابَ مِنْهُمْ: يُتْرَكُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ فِي مَوْضِعٍ يَلْجَئُونَ إلَيْهِ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا وَإِنْ تَابَ، وَيُسْجَنُ حَتَّى تَتَفَرَّقَ جَمَاعَتُهُمْ خِيفَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ، وَأَرَى أَنْ يَشْتَهِرَ فَسَادُ مَا يَعْتَقِدُونَ لِئَلَّا يَلْبِسُوا عَلَى أَحَدٍ، وَلِئَلَّا يَسْكُنَ فِي قَلْبِ أَحَدٍ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ شَيْءٌ، وَهُمْ أَشَدُّ فِي كَيْدِ الدِّينِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَدْ عَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى النَّاسِ أَمْرُهُمْ، وَلَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ عِنْدَهُمَا حَقًّا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُخَالِفُونَ مَضْمُونَهُ، وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِمُحَمَّدٍ وَيُحَدِّثُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى عَنْهُ، وَأَمَّا هَدْمُ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنُوهُ فَحَقٌّ وَجَمِيعُ مَا يَتَأَلَّفُونَ فِيهِ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الضِّرَارَ، قَالَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ:{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] وَفِي هَدْمِهِ ذِلَّةٌ لِأَهْلِ دِينِهِمْ، وَبَقَاؤُهُ رُكْنٌ لَهُمْ وَمَلْجَأٌ، وَهَدْمُهُ يُؤَسِّسُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَالْعَامَّةِ فَسَادَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَيْقِنُوا أَنَّ ذَلِكَ لِفَسَادِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَاجْتَنِبُوا قَوْمَهُمْ، وَلِلْفِعْلِ فِي النُّفُوسِ تَأْثِيرٌ وَقَدْ «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أَصْحَابِهِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالْحَلَاقِ فَتَرَدَّدُوا، فَلَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ وَأَمَرَ حَالِقَهُ فَحَلَقَ، بَادَرُوا لِمِثْلِ ذَلِكَ» ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَشُكُّوا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهَ أَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ يُسْتَفَادُ مِنْهُمَا الْحُكْمُ فِي أُمُورٍ هِيَ وَاقِعَةٌ عِنْدَنَا.
مِنْهَا: مَا وَقَعَ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ يُخْلَى مِنْهُمْ وَيُعَمَّرُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا وَقَعَ عِنْدَنَا فِي زَمَنِ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ الْأَسْيُوطِيِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله كَانَ قَدْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَشْهَدِ، وَأَسْكَنَهُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَكَتَبَ عَلَى بَابِهِ فِي لَوْحِ رُخَامٍ: أَنَّهُ اُفْتُتِحَ هَذَا الْمَكَانُ فِي سَنَةِ كَذَا، ثُمَّ أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَصَارَ فَقِيهُهُمْ الشَّرْشِيرُ يُلَازِمُ الْجُلُوسَ فِيهِ وَيَشْتَغِلُ فِيهِ النَّاسُ، وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ شَرٌّ كَثِيرٌ وَأَثَرُهُ بَاقٍ إلَى الْآنَ، وَأَحْدَثَ فِيهِ بِرْكَةً صَارَ الْمَوْضِعُ يُقْصَدُ لِأَجْلِهَا، وَكَذَلِكَ أَحْدَثَ هَذَا الشَّرْشِيرُ بِرْكَةً فِي رِبَاطِ الْمُعِينِ، وَصَارَ الرِّبَاطُ لِأَجْلِهَا مَقْصِدًا وَمَجْمَعًا لَهُمْ، وَيَسْكُنُ فِيهِ الْغُرَبَاءُ مِمَّنْ يُشَغِّلُهُمْ فِي مَذْهَبِهِمْ وَيُقَوِّي بَعْضَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ، وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنْ تُخَلَّى عَلَى مُقْتَضَى الْجَوَابَيْنِ، وَلَا تُهْدَمُ لِأَنَّهَا لَمْ تُبْنَ لِاجْتِمَاعِهِمْ، وَلَوْ أَحْدَثُوا مَوْضِعًا لِلِاجْتِمَاعِ كَمَا وَقَعَ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْهَدْمِ عَلَى الْجَوَابِ الثَّانِي، وَلَا يُنْظَرُ لِكَوْنِهِ رِبَاطًا أَوْ وَقْفًا، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ الْوَاقِعَةَ فِيهِ إذَا لَمْ تَنْحَسِمْ إلَّا بِهَدْمِهِ جَازَ هَدْمُهُ، وَيَنْبَغِي إسْكَانُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْمَشْهَدِ، وَإِشْرَاكُ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَهُمْ فِي رِبَاطِ الْمُعِينِ عَلَى وَجْهٍ يَنْحَسِمُ بِهِ الْفَسَادُ، وَيَجِبُ إزَالَةُ الْبِرْكَتَيْنِ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ، لِأَنَّهُمَا أُحْدِثَتَا فِي وَقْفٍ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى الْوَقْفِ، وَاَلَّذِي أَحْدَثَهُمَا لَيْسَ بِنَاظِرٍ شَرْعِيٍّ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْفَسَادِ.
وَمِمَّا فَعَلَهُ الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْفَرِدُونَ بِصَلَاةِ الْعِيدِ فِي مَسْجِدٍ مُبَايِنٍ لِجَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَسَدَّ بَابَهُ وَمَنَعَهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَأَلْزَمَهُمْ بِالصَّلَاةِ مَعَ النَّاسِ فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ، ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْضُ طَلَبَةِ الشَّرْشِيرِ حَظِيرَةً بِالْقُرْبِ مِنْ مَسْجِدِ الْعِيدِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَارَ عَوَامُّ الْبَلَدِ يُصَلُّونَ الْعِيدَ فِيهَا مُنْفَرِدِينَ، وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ مُوَافَقَةَ إمَامِ الْجَمَاعَةِ فَشُووِرَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي هَدْمِهَا، فَأَذِنَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ أَفْتَى بِهَدْمِهَا فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، فَهُدِمَتْ وَزَالَ أَثَرُهَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَيَجِبُ