الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي الْوَالِدِ يُحَلِّفُ وَلَدَهُ مُكْرِهًا لَهُ عَلَى الْيَمِينِ فِي أَشْبَاهِ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِهِ إيَّاهُ، وَأَلْزَمُوا الْحَالِفَ بِالْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُكْرِهَ عَلَيْهَا، وَقَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ فِي فَصْلِ الِاسْتِكْرَاهِ فِي الْأَيْمَانِ، وَكَانَ ابْنُ عَاصِمٍ مُحْتَسِبًا فِي الْأَنْدَلُسِ وَكَانَ يُحَلِّفُ النَّاسَ بِالطَّلَاقِ يُغَلِّظُ عَلَيْهِمْ بِهِ، قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَحْنُونٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَخَذَ ذَلِكَ؟ فَقُلْت لَهُ: مِنْ الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ، فَقَالَ سَحْنُونٌ: مِثْلُ ابْنِ عَاصِمٍ: يَتَأَوَّلُ هَذَا تَعْظِيمًا لِشَأْنِ ابْنِ عَاصِمٍ لِأَنَّهُ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ يَأْخُذُ الْمُجْرِمَ بِالتَّوْبَةِ قَهْرًا فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْقَاضِي.
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَهُ سَمَاعُ شَهَادَاتِ أَهْلِ الْمِهَنِ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَهُ النَّظَرُ فِي الْمُوَاثَبَاتِ فَمَسَائِلُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الْأَمِينِ لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي قَبْضِ الْخَرَاجِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ قَبْضُ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَصَرْفُهَا فِي مُسْتَحِقِّيهَا إذَا لَمْ يُحْظَرْ نَاظِرٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْقَاضِي مَدَارُ الْأَحْكَامِ، وَإِلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلَا تَحْدِيدٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالتَّدْمِيَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.
[فَصْلٌ التَّوْسِعَة عَلَى الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ]
فَصْلٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، بَلْ تَشْهَدُ لَهُ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَتَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا الْقَوَاعِدُ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ
الْفَسَادَ قَدْ كَثُرَ وَانْتَشَرَ بِخِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ
، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ عَنْ الشَّرْعِ بِالْكُلِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَتَرْكُ هَذِهِ الْقَوَانِينِ يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ جَمِيعُ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ.
وَثَانِيهَا أَنَّ
الْمَصْلَحَةَ الْمُرْسَلَةَ
قَالَ بِهَا مَالِكٌ رضي الله عنه وَجَمْعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ: الْمَصْلَحَةُ الَّتِي لَا يَشْهَدُ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا وَلَا بِإِلْغَائِهَا، وَيُؤَكِّدُ الْعَمَلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَمِلُوا أُمُورًا
لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ، لَا لِتَقَدُّمِ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ نَحْوَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا تَسْتَطِيرُ وِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ رضي الله عنهما، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِمَا أَمْرٌ وَلَا تَسْطِيرٌ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْخِلَافَةِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، وَتَدْوِينُ الدَّوَاوِينِ وَعَمَلُ السِّكَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاِتِّخَاذُ السِّجْنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه وَهَدْمُ الْأَوْقَافِ الَّتِي بِإِزَاءِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّوْسِعَةُ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ ضِيقِهِ، وَحَرْقُ الْمَصَاحِفِ وَجَمْعُهُمْ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، وَتَجْدِيدُ أَذَانٍ فِي الْجُمُعَةِ بِالسُّوقِ مِمَّا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا فُعِلَ لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ شَدَّدَ فِي الشَّهَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّوَايَةِ لِتَوَهُّمِ، الْعَدَاوَةِ، فَاشْتَرَطَ الْعَدَدَ وَالْحُرِّيَّةَ، وَوَسَّعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ لِلضَّرُورَةِ، كَالْعَرَايَا وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِرَاضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ الْمُسْتَثْنَاةِ، وَضَيَّقَ فِي الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا، فَلَمْ يَقْبَلْ فِيهَا إلَّا أَرْبَعَةً يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَقَبِلَ فِي الْقَتْلِ اثْنَيْنِ وَالدِّمَاءُ أَعْظَمُ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ السِّتْرُ، وَلَمْ يُحْوِجْ الزَّوْجَ الْمَلَاعِنَ إلَى بَيِّنَةٍ غَيْرِ أَيْمَانِهِ، وَلَمْ يُوَجِّهْ إلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَذَفَةِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ فِي الذَّبِّ عَنْ الْإِنْسَانِ، وَصَوْنِ الْعِيَالِ وَالْفُرُشِ عَنْ أَسْبَابِ الِارْتِيَابِ، وَهَذِهِ الْمُبَايِنَاتُ وَالِاخْتِلَافَاتُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرْعِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، فَتَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ الْوَاقِعَةُ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ السِّيَاسِيَّةِ مِمَّا شَهِدَتْ لَهَا الْقَوَاعِدُ بِالِاعْتِبَارِ، فَلَا تَكُونُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بَلْ أَعْلَى رُتْبَةً فَتُلْحَقُ بِالْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِي هَذِهِ الْقَوَانِينِ وَرَدَ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ أَوْ أَصْلٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَدِلَّةِ الْبَابِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَنَصَّ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ نَجِدْ فِي جِهَةٍ غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا تَضِيعَ الْمَصَالِحُ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ أَحَدٌ فِي هَذَا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْإِمْكَانِ، وَإِذَا جَازَ نَصْبُ الشُّهُودِ فَسَقَةً لِأَجْلِ عُمُومِ الْفَسَادِ جَازَ التَّوَسُّعُ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ، لِأَجْلِ كَثْرَةِ فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلَا نَشُكُّ أَنَّ قُضَاةَ زَمَانِنَا وَشُهُودَهُمْ وَوُلَاتَهُمْ وَأُمَنَاؤُهُمْ، لَوْ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَا وَلُوا وَلَا عُرِّجَ عَلَيْهِمْ، وَوِلَايَةُ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فُسُوقٌ فَإِنَّ خِيَارَ زَمَانِنَا هُمْ أَرَاذِلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَوِلَايَةُ الْأَرَاذِلِ فُسُوقٌ، فَقَدْ حَسُنَ مَا كَانَ قَبِيحًا، وَاتَّسَعَ مَا كَانَ ضَيِّقًا، وَاخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، إذْ الشَّرْعُ وَسَّعَ لِلْمُرْضِعِ فِي النَّجَاسَةِ اللَّاحِقَةِ لَهَا مِنْ الصَّغِيرِ، مِمَّا لَمْ نُشَاهِدْهُ كَثَوْبِ الْإِرْضَاعِ، وَوَسَّعَ فِي زَمَانِ الْمَطَرِ فِي الطِّينِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْقَذِرِ وَالنَّجَاسَةِ وَوَسَّعَ لِأَصْحَابِ الْقُرُوحِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجَاسَتِهَا، وَوَسَّعَ لِلْغَازِي فِي بَوْلِ فَرَسِهِ، وَوَسَّعَ لِصَاحِبِ الْبَوَاسِيرِ فِي بَلَلِهَا، وَجَوَّزَ الشَّارِعُ تَرْكَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا إذَا ضَاقَ الْحَالُ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا ضَاقَ شَيْءٌ إلَّا اتَّسَعَ
يُشِيرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، فَكَذَلِكَ إذَا ضَاقَ عَلَيْنَا الْحَالُ فِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ، اتَّسَعَ كَمَا اتَّسَعَ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّ أَوَّلَ بَدْءِ الْإِنْسَانِ فِي زَمَنِ آدَمَ عليه السلام كَانَ الْحَالُ ضَعِيفًا، فَأُبِيحَتْ الْأُخْتُ لِأَخِيهَا، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا، فَلَمَّا اتَّسَعَ الْحَالُ وَكَثُرَتْ الذُّرِّيَّةُ حَرُمَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَحَرُمَ السَّبْتُ وَالشُّحُومُ وَالْإِبِلُ وَأُمُورٌ كَثِيرَةٌ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً.
وَتَوْبَةُ أَحَدِهِمْ بِالْقَتْلِ لِنَفْسِهِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِقَطْعِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْدِيدَاتِ، ثُمَّ جَاءَ آخِرُ الزَّمَانِ فَضَعُفَ الْجَسَدُ وَقَلَّ الْجَلَدُ، فَلَطَفَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ فَأُحِلَّتْ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ، وَخُفِّفَتْ الصَّلَوَاتُ، وَقُبِلَتْ التَّوْبَاتُ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْأَحْكَامَ وَالشَّرَائِعَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ عز وجل بِعِبَادِهِ وَسُنَّتِهِ الْجَارِيَةِ فِي خَلْقِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْقَوَانِينَ لَا تَخْرُجُ عَنْ أُصُولِ الْقَوَاعِدِ، وَلَيْسَتْ بِدْعًا عَمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الْمُكَرَّمُ.