الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان الإمام الشافعى رحمه الله قد ذهب هذا المذهب فإننا نجد الإمام مالكا رحمه الله يقول: من ارتد حبط عمله بمجرد الردة فهو يتمسك بالإطلاق الوارد فى الآية الأولى، ويجيب عما ذهب إليه الشافعى رحمه الله فيقول:
إن الآية الثانية ليست مقيدة للآية الأولى، لأنها رتب فيها مشروطان وهما الحبوط فى النار على شرطين: وهما الردة، والوفاة على الكفر، وإذا رتب مشروطان على شرطين أمكن التوزيع فيكون الحبوط لمطلق الردة، والخلود لأجل الوفاة على الكفر فيبقى المطلق على إطلاقه (1).
ولعل ما ذهب إليه الشافعية هو الأصح، وقول السادة المالكية إذا رتب مشروطان على شرطين أمكن التوزيع صحيح لكن بشرط أن يصح استقلال كل واحد من المشروطين عن الآخر، أما إذا لم يصح الاستقلال فلا، والمشروطان مما فيه الكلام من الضرب الثانى الذى لا يصح فيه استقلال أحد الشروطين عن الآخر لأنهما سبب ومسبب، والسبب لا يستغنى عن مسببه وبالعكس (2). ويظهر أثر هذا الخلاف فى المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم. فقال مالك رحمه الله: يلزمه الحج لأن الحج الأول قد حبط بالردة (3)، وقال الشافعى رحمه الله: لا إعادة عليه لأن عمله باق (4). والله أعلم.
قاعدة:
نفى العام يدل على نفى الخاص، وثبوته لا يدل على ثبوته، وثبوت الخاص يدل على ثبوت العام، ونفيه لا يدل على نفيه، ولا شك أن
(1) الفروق للقرافى 1/ 193، 194، والإعلام بقواطع الإسلام لابن الهيتمى 41 ط:
الشعب.
(2)
أدرار الشروق على أنواء الفروق لابن شاط 1/ 194.
(3)
الفروق 1/ 193، وتفسير القرطبى 1/ 856.
(4)
معنى المحتاج 4/ 133.
زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به فلذلك كان نفى العام أحسن من نفى الخاص، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام (1).
فالأول: كقوله تعالى:
فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ (2) لم يقل: ذهب الله بضوئهم. بعد قوله: (أضاءت) وذلك لأن النور أعم من الضوء إذ يقال على القليل والكثير والضوء إنما يقال على النور الكثير. قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً (3) ففي الضوء دلالة على النور فهو أخص منه. فعدمه يوجب عدم الضوء بخلاف العكس، والقصد إنما هو إزالة النور عنهم أصلا بدليل قوله تعالى بعد ذلك: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ومنه أيضا قوله تعالى: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ (4) ولم يقل: ضلال- كما قالوا: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ (5) لأنها أعم منه، فكان أبلغ فى نفى الضلال، وعبّر عن هذا بأن نفى الواحد يلزم منه نفى الجنس البتة، وبأن نفى الأدنى يلزم منه نفى الأعلى.
والثانى: كقوله تعالى:
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ (6) لم يقل سبحانه: طولها- لأن العرض أخص إذ كل ما له عرض فله طول ولا ينعكس.
(1) الإتقان 3/ 264.
(2)
سورة البقرة الآية 17.
(3)
سورة يونس الآية 5.
(4)
سورة الأعراف الآية 61.
(5)
سورة الأعراف الآية 60.
(6)
سورة آل عمران الآية 133.
ونظير هذه القاعدة أن نفى المبالغة فى الفعل لا يستلزم نفى أصل الفعل وقد استشكل على هذا آيتان قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (1) وقوله: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (2) وأجيب عن الآية الأولى بأجوبة:
أحدها: أن ظلّاما وإن كان للكثرة لكنه جىء به فى مقابلة العبيد الذى هو جمع كثرة ويرشحه أنه تعالى قال:
عَلَّامُ الْغُيُوبِ (3) فقابل صيغة «فعال» بالجمع، وقال فى آية أخرى:
عالِمَ الْغَيْبِ (4) فقابل صيغة «فاعل» الدالة على أصل الفعل الواحد.
الثانى: أنه نفى الظلم الكثير لينتفى القليل ضرورة، لأن الذى يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه فلأن يترك القليل أولى.
الثالث: أنه ورد جوابا لمن قال «ظلام» والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص لم يكن له مفهوم.
الرابع: أن صيغة المبالغة وغيرها فى صفات الله تعالى سواء فى الإثبات. فجرى النفى على ذلك.
الخامس: أنه قصد التعريض بأن ثم ظلاما للعبيد من ولاة الجور.
ويجاب عن الآية الثانية بالأجوبة المتقدمة، وبجواب آخر هو مناسبة رءوس الآى، والله أعلم.
(1) سورة فصلت 46.
(2)
سورة مريم الآية 64.
(3)
سورة المائدة الآية 116.
(4)
سورة الزمر الآية 46.