الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان.
5 -
النسخ يجعل المنسوخ غير صالح للاحتجاج به. أما التخصيص فلا يخرج العام عن كونه حجة فى الباقى بعد التخصيص.
6 -
النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ، ومتأخر عن المنسوخ بخلاف التخصيص فإنه يكون بالسابق واللاحق والمقارن.
وذهب بعض الأصوليين إلى القول بأن التخصيص لا يكون إلا بمقارن، فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه، كما إذا قال الشارع: اقتلوا المشركين. وبعد وقت العمل به قال: لا تقتلوا أهل الذمة. ووجهة نظرهم: أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام. فلو تأخر عن وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا.
7 -
النسخ لا يقع فى الأخبار بخلاف التخصيص، فإنه يكون فى الأخبار وغيرها (1).
الفرق بين النسخ والبداء:
يلاحظ أن البداء فى اللغة يطلق على معنيين هما:
1 -
الظهور بعد الخفاء
…
ومنه قوله تعالى:
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (2)
(1) انظر: البرهان لإمام الحرمين 2/ 1314، والإحكام للآمدى 3/ 104، والنسخ بين الإثبات والنفى لأستاذى الدكتور فرغلى 124، ومناهل العرفان 2/ 80، وأصول الفقه للشيخ زهير 3/ 47.
(2)
سورة الزمر الآية: 47.
وقوله جل شأنه: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا (1).
2 -
نشأة رأى جديد لم يكن
…
ومنه قوله تعالى:
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (2).
جاء فى القاموس (3): وبدا له فى الأمر بدوا وبداء وبداة أى نشأ له فيه رأى.
هذان معنيان للبدء فى اللغة، ومما لا شك فيه أنهما مستحيلان على الله تعالى، ذلك لأنه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما محال عليه تعالى، كما يشهد بذلك العقل والنقل. فالعقل يقرر دون تردد أن خالق هذا الكون لا بدّ أن يكون متصفا بالعلم الواسع المحيط بكل شىء، وأنه قديم لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلا للحوادث، وإلا لكان ناقصا يعجز عن إبداع هذا الكون، وما دام الجهل والحدوث- المستلزمان للبداء- مستحيلين عليه تعالى فالعقل يقرر استحالة البداء على الله تعالى.
وكذلك النقل. فإنه يلتقى مع العقل فى الحكم باستحالة الجهل، والحدوث على الله تعالى، فالنصوص الثابتة تصفه بالعلم الواسع، والقدم الذى لا يسبقه شىء قال تعالى:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ (4) الآية وقال سبحانه: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ (5) وغير ذلك من الآيات التى تصفه سبحانه بالعلم المحيط.
(1) سورة الزمر الآية: 48.
(2)
سورة يوسف الآية: 35.
(3)
القاموس المحيط 1/ 7.
(4)
سورة الأنعام الآية: 59.
(5)
سورة الرعد الآية: 8.
فمولانا جل شأنه منزه عن أن يوصف بالبداء لأن البداء ينافى إحاطة علم الله سبحانه، بكل شىء، ولكنه غير منزه عن النسخ، لأن النسخ لا يعدو أن يكون بيانا لمدة الحكم الأول على نحو ما سبق فى علم الله تعالى، وإن كان رفعا لهذا الحكم بالنسبة لنا، وعليه فلا علاقة بين النسخ والبداء، لأن النسخ ليس فيه تغيير لعلم الله تعالى، بخلاف البداء فإنه يفترض هذا التغيير. فالنسخ يقوم على تغيّر فى المعلوم مع ثبات العلم نفسه على ما كان منذ الأزل، والبداء يقوم على تغير فى العلم نفسه.
ومن هنا لما خفى الفرق بين النسخ والبداء على بعض فرق اليهود والرافضة أنكرت اليهود النسخ وأسرفوا فى الإنكار لاستلزامه فى زعمهم البداء وهو محال. والحق أن هذا الفهم من قبل اليهود سقيم لما ذكرت من أنه لا تلازم بين النسخ والبداء ولوضوح الفرق بينهما.
أما الرافضة فأثبتوا النسخ، ثم أسرفوا فى إثبات البداء اللازم له فى زعمهم، ونسبوه إلى الله تعالى فى صراحة ووقاحة- تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا- وقد تشبثوا بآثار نسبوها إلى أئمة طاهرين تعضد- فى زعمهم- ما ذهبوا إليه منها: أن الإمام علىّ كرم الله وجهه قال: لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
ومنها: أن جعفر الصادق رضى الله عنه قال: ما بدا لله تعالى فى شىء كما بدا له فى إسماعيل عليه السلام أى فى أمره بذبحه-.
ومنها: أن موسى بن جعفر رضى الله عنه قال: البداء ديننا ودين آبائنا فى الجاهلية (1).
(1) انظر: المعتمد 1/ 368، وأصول السرخسى 2/ 25، والمنخول 288، 289، والمستصفى للغزالى 1/ 110، والإحكام للآمدى 2/ 164، وحاشية البنانى 2/ 88، ومناهل العرفان 2/ 79.
والحق أن هذه الآثار التى نسبوها إلى هؤلاء الأئمة ما هى إلا مفتريات وأكاذيب أول من حاك شباكها، ونطق بها الكذاب الثقفى الذى كان ينتحل لنفسه العصمة، وعلم الغيب. فإذا ما خاف من مؤاخذة الناس له، وانتقامهم منه على هذا الكفر نسب تلك الأكاذيب إلى آل البيت وهم منها برآء. فاللعين كان يحتج بكفر على كفر، ويعالج داء بداء، وصدق الله العظيم إذ يقول:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (1).
على العموم العقل والنقل يرفضان رأى الكذاب (2) الثقفى وأتباعه من الرافضة.
فإن قيل:- وذلك على سبيل الافتراض- لا يخلو إما أن يكون البارى سبحانه وتعالى قد علم استمرار أمره بالفعل المعين أبدا، أو إلى وقت معين، وعلم أنه لا يكون مأمورا بعد ذلك الوقت.
فإن كان الأول: استحال نسخه لما فيه من انقلاب العلم جهلا.
وإن كان الثانى: فالحكم يكون منتهيا بنفسه فى ذلك الوقت. فلا يتصوره بقاؤه بعده وإلا لانقلب علم الله تعالى جهلا.
وإذا كان منتهيا بنفسه فالنسخ لا يكون مؤثرا فيه لا فى حالة علم الله تعالى، أنه يكون الفعل مأمورا فيها، ولا فى حالة علمه سبحانه أنه لا يكون مأمورا فيها لما فيه من انقلاب العلم جهلا، وإذا لم يكن النسخ مؤثرا فيه فلا يتصور نسخه.
(1) سورة الزمر الآية: 23.
(2)
الكذاب هو المختار بن أبى عبيد بن مسعود الثقفى. كان من أهل الطائف ولم يفتر إلا على الإمام كرم الله وجهه. أما الإمام جعفر وابنه موسى فافترى عليهما أتباعه ذلك أن جعفرا لم يولد إلا عام 80 هـ والكذاب توفى سنة 66 هـ فكيف بموسى؟ اهـ الأعلام للزركلى 7/ 70، 71 ط الثانية-
فالجواب: أن الأمر مطلق وقد علم ربنا أن الأمر بالفعل ينتهى بالناسخ فى الوقت الذى علم أن النسخ يقع فيه لا أنه علم انتهاءه إلى ذلك الوقت مطلقا. بل علم انتهاءه بالنسخ. فلو لم يكن منتهيا بالنسخ لانقلب علمه جهلا. وعلى هذا فلا يلزم من انتهاء الأمر فى ذلك الوقت بالنسخ ألا يكون الأمر منسوخا (1).
(1) الإحكام للآمدى 3/ 103.