الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس فى تنجيم القرآن والحكمة منه
يلاحظ أن لنزول القرآن منجما- أى مفرقا- حكما جليلة يعرفها أهل العلم والفضل، ويمكن أن نجمل هذه الحكم فيما يلى:
الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم قال تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (1).
فهذه الآية الكريمة تذكر فى معرض الرد على المشركين حين اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، كما نزلت الكتب السماوية السابقة، فرد الله عليهم- كما ذكرت الآية- بقوله تعالى كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ولا شك أن تثبيت قلبه صلى الله عليه وسلم إنما هو رعاية من الله عز وجل، وتأييد لرسوله صلى الله عليه وسلم أمام اضطهاد وتكذيب الكفار له. فكانت الآيات القرآنية تنزل عليه صلى الله عليه وسلم تقوى قلبه وتزيل عنه ما أصابه من ألم وشدة.
الحكمة الثانية: تسهيل حفظ القرآن وفهمه على المسلمين. فالعرب كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، قال جل شأنه:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ (2).
وكانوا مشغولين بمصالحهم المعيشية، ولا شك أن القرآن لو نزل جملة واحدة
(1) سورة الفرقان الآية: 32.
(2)
سورة الجمعة الآية: 2.
على هذه الأمة لعجزت تماما عن حفظه وفهمه، فاقتضت حكمته. جل شأنه أن ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم مفرقا ليسهل عليهم حفظه ووعيه وفهمه.
الحكمة الثالثة: مسايرة الحوادث والطوارئ فى تجددها وتفرقها. فكلما جدّ منهم جديد نزل من القرآن ما يناسبه، وفصّل لهم الله من أحكامه ما يوافقه، وتنظيم هذه الحكمة أمورا أربعة:
أولها: إجابة السائلين على أسئلتهم عند ما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء أكانت تلك الأسئلة لغرض التثبت من رسالته كما قال تعالى فى جواب سؤال أعدائه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (1). أم كانت لغرض التنور ومعرفة حكم الله كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (2).
ثانيها: مجاراة الأقضية والحوادث فى حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها، ومعلوم أن تلك الأقضية والحوادث لم تقع جملة واحدة، وإنما وقعت متفرقة. ومن ثم كان لا مفرّ من نزول القرآن مفرقا على حسب هذه الأقضية والوقائع ومن الأمثلة على ذلك:
قول الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ (3) الآيات.
فقد نزل صدر سورة المجادلة فى حق خولة بنت ثعلبة، حين رفعت شكواها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إلى الله فى حق زوجها أوس بن الصامت حين ظاهر منها (4).
ثالثها: لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح الأخطاء التى كانوا يخطئون فيها.
(1) سورة الاسراء الآية: 85.
(2)
سورة البقرة الآية: 219.
(3)
سورة المجادلة الآية: 1.
(4)
أسباب النزول للنيسابورى 231 ط: الحلبى
مثال ذلك: قول الله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) فقد نزل هذا القول الكريم فى غزوة أحد إرشادا للمسلمين إلى موقع الخطأ الذى وقعوا فيه.
رابعها: كشف حال أعداء الله المنافقين، وهتك أستارهم للنبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويظهر هذا واضحا فى قول الله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) فالثلاث عشرة آية المذكورة فضحت المنافقين وكشفت أستارهم.
الحكمة الرابعة: التدرج فى تشريع الأحكام، فالله عز وجل لم يكلف عباده ما لا يطيقونه، بل سلك بهم طريقا وسطا. فاهتم القرآن أولا بزرع وتثبيت العقيدة فى النفوس، ولم يكلفهم من العبادات فى مكة إلا القليل، فالصلاة لم تفرض عليهم إلا قبل الهجرة بقليل، ثم فرض الصيام والزكاة فى السنة الثانية من الهجرة، ثم فرض الحج فى السنة السادسة من الهجرة أيضا.
ولم يحرم القرآن عليهم ما كان يجرى فى نفوسهم جرى الدم فى العروق، فالخمر لم تحرم عليهم مطلقا إلا فى المدينة المنورة حينما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (3).
وكذا الربا لم يحرمه القرآن إلا بعد الهجرة أيضا.
(1) سورة آل عمران الآية: 121.
(2)
سورة البقرة آيات: 8 - 20.
(3)
سورة المائدة الآية: 90.
الحكمة الخامسة: الإرشاد إلى مصدر القرآن، وأنه كلام الله وحده.
فالقرآن الكريم حين يقرؤه الإنسان يجد أن أوله تمهيد لآخره، وآخره تصديق لأوله، فهو جيد السبك، متين الأسلوب (1). لا يوجد أى تفكك أو انفصام بين أجزائه، مع أنه نزل فى ثلاثة وعشرين عاما، الأمر الذى يجعل كل منصف ينطق بأن القرآن كلام الله، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2).
(1) مناهل العرفان 1/ 46 والتبيان فى علوم القرآن 40.
(2)
سورة النساء الآية: 82.