الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا موضع الإجماع، ثم عطفنا عليه موضع الخلاف
…
على أن القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة فى غاية السقوط، ولا يصح القول به عمن يعتبر قوله فى الدين، وهى لا تخالف رسم المصحف، وقد سمعت أبى يشدد النكير على بعض القضاة، وقد بلغه أنه منع من القراءة بها واستأذنه بعض أصحابنا مرة فى إقراء السبع فقال: أذنت لك أن تقرئ العشر، وقال فى جواب سؤال سأله ابن الجزرى: القراءات السبع التى اقتصر عليها الشاطبى والثلاثة التى هى قراءة أبى جعفر ويعقوب وخلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكابر فى شىء من ذلك إلا جاهل».
يقول ابن الجزرى رحمه الله
(1):
ضابط القراءة المتواترة وشرحه:
نقول كل قراءة وافقت العربية مطلقا ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا وتواتر نقلها. هذه هى القراءة المتواترة المقطوع بها، ومعنى العربية مطلقا: أى: ولو بوجه من الإعراب، نحو قراءة حمزة:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ (2) بالجر، وقراءة أبى جعفر: لِيَجْزِيَ قَوْماً (3) ومعنى أحد المصاحف العثمانية: واحدا من المصاحف التى وجهها عثمان رضى الله عنه إلى الأمصار (4). كقراءة ابن كثير فى التوبة:
جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ (5)
(1) منجد المقرئين له 91 - 94.
(2)
سورة النساء الآية: 1.
(3)
سورة الجاثية الآية: 14.
(4)
هى: البصرة والكوفة والشام ومكة واليمن والبحرين. بالإضافة إلى مصحفى المدينة العام والخاص (النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى 1/ 7).
(5)
سورة التوبة الآية: 100.
بزيادة «من» فإنها لا توجد إلا فى مصحف مكة.
ومعنى ولو تقديرا: ما يحتمله رسم المصحف كقراءة من قرأ:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف فإنها كتبت بغير ألف فى جميع المصاحف فاحتملت الكتابة أن تكون (مالك) وفعل بها كما فعل باسم الفاعل من قوله: (قادر-،- صالح-) ونحو ذلك مما حذف منه للاختصار فهو موافق للرسم تقديرا.
ونعنى بالمتواتر: ما رواه جماعة عن جماعة كذا إلى منتهاه.
ثم قال رحمه الله: والّذى جمع فى زماننا هذا الأركان الثلاثة هو قراءة الأئمة العشرة التى أجمع الناس على تلقيها بالقبول وهم: أبو جعفر، ونافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائى، وخلف. أخذها الخلف عن السلف إلى أن وصلت إلى زماننا. فقراءة أحدهم كقراءة الباقين. أه.
لكن هل لاختلاف القراءات وتنوعها فوائد؟
والجواب: نعم ومنها ما يلى:
1 -
التسهيل والتخفيف على الأمة.
2 -
إظهار فضل الأمة وشرفها على سائر الأمم إذ لم ينزل كتاب غيرهم إلا على وجه واحد.
3 -
المبالغة فى إعجازه بإيجازه. فتنوع القراءات بمنزلة الآيات ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حده لم يخف ما كان فيه من التطويل، ولهذا كان قوله تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ (1) منزلا لغسل الرجل والمسح على الخف واللفظ واحد ..
(1) سورة المائدة: 6.
4 -
إظهار سر الله فى كتابه وصيانته له عن التبديل والاختلاف، مع كونه على هذه الأوجه الكثيرة.
5 -
أن بعض القراءات يبين ما لعله يجهل فى القراءة الأخرى فقراءة:
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (1) بالتشديد مبينة لمعنى قراءة التخفيف، وسيأتى بيان ذلك قريبا إن شاء الله.
وقد ذكر الشاطبى رحمه الله أن السبب فى الاقتصار على السبعة الذين ذكرهم أنهم كانوا أصحاب فضل وعلم وزهد فى الدنيا، فلم يكن قصدهم من تعلم وتعليم القراءات سببا لرزقهم وموردا لكسبهم.
فقال رحمه الله (2):
جزى الله بالخيرات عنا أئمة
…
لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا (3)
فمنهم بدور سبعة قد توسطت
…
سماء العلا والعدل زهرا وكمّلا
لها شهب عنها استنارت فنورت
…
سواد الدجى حتى تفرق وانجلى (4)
وسوف تراهم واحدا بعد واحد
…
مع اثنين من أصحابه متمثلا
تخيرهم نقادهم كل بارع
…
وليس على قرآنه متأكلا (5)
هذا وبعد ذكر موقف العلماء تجاه تواتر القراءات وبيان الحكمة من وراء تعددها أقول: هل يتغير الحكم تبعا لتغير القراءة؟
(1) سورة البقرة: 222.
(2)
الوافى فى شرح الشاطبية 15، 16.
(3)
العذب: الماء الحلو الطيب- لسان العرب 4/ 2852 - والسلسل: السهل الدخول فى الحلق- لسان العرب 3/ 2074.
(4)
الشهب: جمع شهاب وهو شعلة نار ساطعة- مختار الصحاح 349 - والدجى: جمع دجية وهى الظلمة وكنى بها عن الجهل، وانجلى: بمعنى انكشف- مختار الصحاح 108، 199.
(5)
النقاد: جمع ناقد وهو الذى يميز الجيد من الردىء- لسان العرب 5/ 4517 - والبارع:
هو الحاذق المتقن- مختار الصحاح 49.
وتأكل بكذا إذا جعله سبب أكله فعلى فى البيت بمعنى باء السببية.
والجواب: نعم. فقد تختلف الأحكام نتيجة لاختلاف القراءات ومن أمثلة ذلك ما يلي:
(1)
قال تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ (1) فلفظ (يطهرن) قرأه بالتشديد
حمزة والكسائى وشعبة، وقرأه بالتخفيف ابن عامر وحفص (2)، ونتيجة لاختلاف القراءتين اختلف الحكم فى نظر الفقهاء، لأنه بالقراءتين يبدو أن هناك فى الظاهر تعارضا، حيث إن القراءة بالتخفيف تقتضى- كما قال الشيخ عبد العزيز البخارى الحنفى (3) - أن يحل القربان بانقطاع الدم، سواء انقطع على أكثر مدة الحيض أو على ما دونه، لأن الطهر عبارة عن انقطاع دم الحيض، يقال:
طهرت المرأة إذا خرجت من حيضها (4).
والقراءة بالتشديد تقتضى أن لا يحل القربان قبل الاغتسال، سواء كان الانقطاع على أكثر مدة الحيض أو على ما دونه، كما ذهب إليه الإمام الشافعى رحمه الله (5) - لأن التطهر هو الاغتسال والقول بهما غير ممكن لأن حتى للغاية (6) وبين امتداد الشيء إلى غاية وبين اقتصاره دونها تناف، فيقع التعارض ظاهرا لكنه يرتفع باختلاف الحالين، أى بأن تحمل كل واحدة من القراءتين على حال، فتحمل القراءة بالتخفيف على الانقطاع على أكثر مدة الحيض، لأنه انقطاع بيقين وحرمة القربان تثبت باعتبار قيام الحيض، لأنه تعالى أمر باعتزالهن
(1) سورة البقرة: 222.
(2)
الوافى فى شرح الشاطبية 219.
(3)
كشف الأسرار 3/ 91.
(4)
مختار الصحاح 298.
(5)
مغنى المحتاج 1/ 111.
(6)
الغاية انتهاء الشيء وتمامه- أحكام القرآن لابن العربى 1/ 164.