الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول فى المقدار الذى بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن
أنزل الله عز وجل القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم هدى للناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكتب السعادة والفوز لمن تمسك به، والخزى والخسران لمن أعرض عنه قال تعالى:
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (1).
وقد تلقاه المسلمون عن الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة فى عصر الصحابة، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله امتثالا لقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (2) وقد اختلف العلماء فى المقدار الذى بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن لأصحابه على مذهبين اثنين:
المذهب الأول: يرى أصحاب هذا المذهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه كل معانى القرآن، كما بين لهم ألفاظه واستدلوا على هذا بأدلة أهمها ما يلى:
أولا: قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
(1) سورة طه آيات: 123 - 126.
(2)
سورة النحل الآية: 44.
وجه الدلالة: أن البيان المذكور فى الآية يتناول بيان معانى القرآن كما يتناول بيان ألفاظه، ومما لا شك فيه أنه صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه ألفاظه كلها، ولا بدّ وأن يكون قد بين لهم أيضا كل معانيه وإلا كان مقصرا فى البيان الذى كلف به من الله، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقصر فى شىء.
ثانيا: روى عن أبى عبد الرحمن بن حبيب السلمى التابعى (1) أنه قال: «حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله ابن مسعود وغيرهما رضى الله عنهم: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا» . ولهذا كانوا يبقون مدة طويلة فى حفظ السورة.
وقد ذكر العلماء أن ابن عمر رضى الله عنهما أقام على حفظ البقرة ثمانى سنوات. وهذا يدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
معانى القرآن كلها كما تعلموا ألفاظه.
المذهب الثانى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين لأصحابه كل معانى القرآن وإنما بين القليل فقط. وقد استند أصحاب هذا المذهب إلى عدة أدلة منها:
1 -
ذكر القرطبى رحمه الله (2) أن عائشة رضى الله عنها قالت:
ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من كتاب الله إلا آيا بعدد علّمه إياهن جبريل عليه السلام.
2 -
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عمه عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فقال: «اللهمّ فقّهه فى الدين وعلّمه
(1) تفسير ابن كثير 1/ 13.
(2)
تفسير القرطبى 1/ 27.
التأويل» (1) فلو كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك (2)؟
والحق أن المتأمل والناظر بعين الإنصاف يجد أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يفسر كل معانى القرآن لأصحابه، وإلا لما اختلفوا فى معنى بعض الآيات، ولو كان عندهم من الرسول صلى الله عليه وسلم فيه نص ما وقع هذا الاختلاف، أو لارتفع بعد الوقوف على النص.
ويجد أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، كما لم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح، وإنما فسر لهم صلى الله عليه وسلم الكثير من معانيه- غير ما تقدم- كما تشهد بذلك كتب الصحاح وما ذكره أصحاب المذهبين لا ينهض لإثبات مدعى كل منهما.
فأصحاب المذهب الأول يستندون إلى الآية وهى لا تثبت المدعى لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبين لهم ما أشكل عليهم فهمه من القرآن لا كل القرآن، وما روى عن الصحابة فى أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها لا ينتج المدعى أيضا، لأن غاية ما يفيده أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن يفهموه من النبى صلى الله عليه وسلم أو من غيره من الصحابة، أو من تلقاء أنفسهم حسبما يفتح الله به عليهم من النظر والبحث والاجتهاد.
وكذلك ما استدل به أصحاب المذهب الثانى مقصور على إثبات المدعى، لأن حديث عائشة رضى الله عنها منكر غريب لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيرى وهو مطعون فيه.
(1) أخرجه مسلم فى صحيحه بلفظ- اللهم فقهه فى الدين- 2/ 390.
(2)
تفسير القرطبى 1/ 28.
قال البخارى: لا يتابع فى حديثه.
وقال الحافظ أبو الفتح الأزدى: منكر الحديث.
وقال فيه ابن جرير الطبرى: إنه ممن لا يعرف فى أهل الآثار.
وعلى فرض صحة الحديث فهو محمول على مغيبات القرآن، وتفسيره لمجمله ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله (1).
وما روى من دعائه صلى الله عليه وسلم لابن عمه لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر إلا القليل من معانى القرآن الكريم.
(1) التفسير والمفسرون 1/ 48 - 53.